منتديات الشروق أونلاين

منتديات الشروق أونلاين (http://montada.echoroukonline.com/index.php)
-   منتدى الدراسات الإسلامية (http://montada.echoroukonline.com/forumdisplay.php?f=158)
-   -   أدب الحوار في الإسلام (http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=367666)

warda22 05-07-2017 09:25 PM

أدب الحوار في الإسلام
 
ماهو الحوار
.1 خص اللَّّه سبحانه وتعالى الإنسان بنعمتي العقل واللسان، تكريماً وتفضيلاً له على سائر المخلوقات، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدمَ وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير مِمَّنْ خلقنا تفضيلاً} (سورة الإسراء، الآية: 70)، وعن طريق اللسان والعقل وبواسطتهما يستطيع الإنسان أن يناقش أموره بشكل أفضل مع محيطه، وأن يتدارس مشكلاته، ويشرح قضاياه، ويدافع عنها؛ وهو في تخاطبه مع أبناء جنسه يتدارس أموره، بشأن ماتثيره من قضايا فكرية واقتصادية وغيرها، مما تختلف فيه الأفهام أو تتعارض المصالح، ويتحاور في شأن نقط الخلاف بينه وبين غيره، وهو من خلال هذا الحوار قد يصل إلى الاتفاق، كما قد يظل الاختلاف بينه وبين محاوره قائماً، وفي هذه الحالة لاشك أنه سيدافع عن قضية ويجادل بشأنها، ومن هنا يقوم الترابط بين المشاورة والمحاورة والمجادلة والمناظرة.
.2 والحوار والمحاورة مصدر حاور يحاور، ومعناه لغة الجواب والمجادلة، قال ابن منظور "وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، والمَحُورَةُ من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورةِ مِن المُشاورةِ".
والحوار كلمة تستوعب كل أنواع وأساليب التخاطب سواء كانت منبعثة من خلاف بين المتحاورين أو عن غير خلاف، لأنها إنما تعني المجاوبة والمراجعة في المسألة موضوع التخاطب، وهو وليد تفاهم وتعاطف وتجارب كالصداقة، وبعبارة أخرى، فإن الحوار لايمكن أن يكون إلا بين أطراف متكافئة تجمعها رغبة مشتركة في التفاهم، ولايكون نتيجة ضغط أو ترغيب، ولذلك كان الحوار أعم من الاختلاف ومن الجدل، وصار له معنى حضاري بعيد عن الصراع، إذ الحوار كلمة تتسع لكل معاني التخاطب والسؤال والجواب.
وقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، اثنان منها في صيغة الفعل وهما قوله تعالى، في سورة الكهف : {فقال لصاحبهِ وهو يحاورهُ أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} (من الآية:34)، وقوله تعالى في نفس السورة: {قال له صاحبه وهو يحاورهُ أكفرتَ بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً} (من الآية: 37)، والثالث في صيغة المصدر في قوله تعالى في سورة المجادلة : {قد سمع اللَّه قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللَّه واللَّه يسمعُ تحاورَكما} (سورة المجادلة، من الآية:1).
بينما ورد لفظ الاختلاف ومشتقاته في القرآن تسعاً وثلاثين مرة.
أما لفظ الجدل ومشتقاته، فقد ورد في القرآن الكريم في تسعة وعشرين موضعا ً.
في حين أن لفظ الشورى ورد في القرآن الكريم أربع مرات.
ميدان الحوار
لابد لكل حوار يراد له النجاح من أن ينطلق من مبدإ أساس يومىء إلى هدف ثابت: هو البحث عن الحقيقة من وجهة نظر الطرف الأخر، باعتبار أن إيمان الشخص بصواب رأيه لايعني أن رأي الطرف الآخر غير صواب؛ ومتى تحقق هذا المنهج وتلك الرغبة أمكن القول إن ميدان الحوار واسع فسيح:
فهناك حوار الحياة الذي يعني الاهتمام بالطرف الآخر وبخصوصياته وأفكاره وظروفه الخاصة، سعياً لإيجاد قواسم مشتركة معه.
وهناك حوار العمل، الذي يعني تضافر الجهود لتحقيق كل ماهو في صالح الإنسانية والصالح العام من الوجهات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
وهناك حوار العقل والفكر والعقيدة الذي يعني تفهم أوجه التباين بين مختلف الديانات، واستغلال القواسم المشتركة بينها.
وهناك حوار التجارب وتبادل المعلومات والخبراتعليه الصلاة والسلام.
وإذا تتبعنا حركة الحوار في الإسلام وجدنا أن ميدانه متسع زماناً ومكاناً.
فمن حيث الزمان بدأ الحوار منذ عهد النبوة، وما يزال قائماً إلى الآن، وسيظل كذلك إلى أن يرث اللَّّه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ومن حيث المكان: فإن الحوار الإسلامي لايقف عند حدود معينة بل إنه يخاطب سائر بني البشر أينما وجدوا، دونما نظر إلى لون أو شكل أو لغة أو دين: {ماخََلْقُكم ولاَبعْثُكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} (سورة لقمان، من الآية: 28).
ثم إنه بالنظر إلى شخصية الطرف الذي تقع المحاورة معه وعقيدته نجد أن الحوار يتجه صوب جميع الطوائف والأفراد، وهكذا نجد: حوار الرجل مع أهله، وحوار الصديق مع صديقه، وحوار المسلم مع المسلم، وحوار المسلم مع المشرك، وحوار المسلم مع الملحد، وحوار المسلم مع أهل الكتاب.
وفي كل هذه المجالات يضع الإسلام ضوابط وشروطا ًللحوار الهدف منها تحقيق الصالح العام، والسعي إلى التوفيق بين مختلف الآراء، وتجنب أسباب التفرق والنفور.
منهج الإسلام في الحوار
اهتم الإسلام اهتماما كبيراً بالحوار والتشاور والاختلاف والجدل، ووضع أسس التخاطب والتشاور والتحاور، وتبادل أوجه الرأي وإنهاء المنازعات بين الأفراد والجماعات عن طريق التفاوض، فجاء في الحوار بمنهج تحاور وتفاهم وسلام، وليس منهج عصبية وشقاق ولدََدٍ، يتجلى هذا في الرجوع إلى السيرة النبوية، وتاريخ الإسلام، وعهد النبي عليه الصلاة والسلام ، ومعرفة الأسلوب الذي كان ينهجه عليه الصلاة والسلام، في تبليغ الدعوة إلى الأفراد والجماعات والأمم، والأسلوب الذي لقنه القرآن الكريم في هذا المجال مثل قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللَّه ولانشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباًً من دونِ اللَّهِ} (سورة آل عمران من الآية: 64)، وقوله تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (سورة النحل، من الاية: 125)، وقوله عز من قائل: {لاينهاكمُ اللَّهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أنْ تبروهم وتقْسِطوا إليهم إن اللَّه يحب المقسطين} (سورة الممتحنة ، الآية: 7).
أسس الحوار في الإسلام
ثم إنه باستقراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ووقائع وتاريخ الإسلام في مسألة الحوار والاختلاف نجد أن أسس الحوار الإسلامي تقوم على مبادىء وثوابت أهمها:
أولاً: الإيمان باللَّه، والتعامل في ظل هذا الإيمان بالمثل: {قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولايتخذُ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه} (سورة آل عمران، من الآية: 64).
ثانياً: التحلي بالأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام ونبذ العصبية: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } (سورة النحل، من الآية: 125).
ثالثاً : جعل الحق والإنصاف والعدل هو أساس وهدف كل خطاب بين المسلم والمسلم وبين المسلم وغير المسلم، ونبذ أسباب التعصب، مع التمسك باللين والحكمة في الخطاب: {ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (سورة فصلت، من الآية: 34).
رابعاًً: إبقاء الصراع إلى المرحلة الأخيرة من الحوار، وعدم اللجوء إليه إلا عند الضرورة.
خامساً: مراعاة شخصية الطرف الآخر في الحوار.
من العناصر التي يضعها الإسلام للحوار مراعاة شخصية طرفي الحوار وإيجاد الأجواء المناسبة له بغية التأمين للوصول إلى الهدف المنشود، وذلك بنبذ التعصب والانفعال سواء كانت فكرة الطرف الآخر وموقفه مؤيدة أو معارضة.
سادساً: الإحاطة بموضوع الحوار.
إن من عناصر الحوار الإلمام بالموضوع الذي يجري فيه، واستيعاب الفكرة التي يحوم حولها ويجري فيها.
سابعاً: اختيار لغة وأسلوب الحوار.
ومن عناصره، أيضا،ً اختيار لغة الحوار، ومصداق ذلك قوله تعالى: {أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. وقوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين* ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم*وما يُلقّاها إلا الذين صبروا، ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم}(سورة فصلت، الآيات: 35-33).
الهدف من الحوار في الإسلام
مما سلف من قواعد الحوار ومن أنها تتمركز حول توحيد اللَّه، وتعميم مبادىء العدل والإنصاف والاحترام المتبادل، وتجنب أسباب التعصب والخلاف؛ وأخذاً من منهجية الإسلام في الحياة، ندرك أن الإسلام يضع للحوار منهجاً يقتضي أن يكون الغرض منه هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد الجدل لذاته كما تضمنتهُ النظرية الأفلاطونية في الجدل التي تقوم على اعتبار الجدل هدفاً في ذاته، نعم قد نعمل على تدريب الإنسان على الجدل، ولكن ذلك إنما يكون بمقدار مايحقق آلة التمكن من الوصول إلى الهدف الأسمى للحوار في الجدل، وهو الاقتناع بالحق والوصول إليه، ولذلك نجد القرآن الكريم يذم الجدل العقيم وينهى عنه.
موضوعية الإسلام في منهجية الحوار
إن نظرة الإسلام إلى الحوار نظرة موضوعية تقوم على احترام الرأي الآخر، ونبذ كل تعصب أو تنطع في الرأي، وتتبين موضوعية نظرة الإسلام في أن موقفه من الجدل العقيم، هوهو، سواء كان المجادل مؤمناً أو غير مؤمن.
ففي نبذ الجدال غير المجدي الصادر عن طائفة مؤمنة، يقول الحق سبحانه: {كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون *يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} (سورة الأنفال، الآيتان: 6-5).
وفي نبذ الجدل العقيم أو العصبي الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الحق سبحانه: {ولما ضُربَ ابنُ مريمَ مثلاً إذا قومك منه يصدون* قالوا أآلهُتنا خير أم هو ماضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصمون* إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} (سورة الزخرف، الآيتان: 58-57).
بل إن القرآن الكريم يمضي بعيداً في نبذ الجدل بالباطل، فيقول تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (سورة الأنعام، من الآية:121).
بل إن الإسلام يمضي في نفس السياق، فينهى عن الخوض في الجدل عندما يصل إلى حد الخيانة:
ففي قضية نفر من المسلمين أرادوا إلصاق تهمة سرقة ببعض اليهود باطلاً ليبعدوها عن أنفسهم، قال تعالى: {ولا تُجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن اللَّه لايحب من كان خواناً أثيماًً* يستخفون من الناس ولايستخفون من اللَّه وهو معهم إذ يُبيّتون ما لايرضى من القول وكان اللَّه بما يعملون محيطاً* هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل اللَّهَ عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاًً} (سورة النساء، الآيات: 109-106).
ومن هنا ندرك مدى القيمة التي يعطيها الإسلام للفكر وللعقل في مجال الحوار، إذ بذلك أقام صرح الحوار على أسس أصيلة من العدل تعطي للإنسان حق الدفاع عن نفسه وعن رأيه وموقفه إزاء أسرته، وإزاء مجتمعه، وإزاء القائمين على الأمر، بل وإزاء الحق سبحانه وتعالى: {يوم تأتي كلّ نفسٍ تُجادِِل ُعن نفسِِها وتُوفَّى كل نفسٍ ما عَملِِتْ وهم لا يُظلمون } (سورة النحل، الآية: 111).
الاختلاف لا يتضمن معنى المنازعة
الاختلاف لايحمل معنى المنازعة، وإنما المراد منه أن تختلف الوسيلة مع كون الهدف واحداًً، وهو مغاير للخلاف الذي ينطوي على معنى الشقاق والنزاع والتباين في الرأي دون دليل.
وقد أوضح العلماء الفرق بين الاختلاف والخلاف في أربعة أمور:
.1 الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفاً، والمقصود واحداًً، والخلاف هو أن يكون كلاهما ـ أي الطريق والمقصود ـ مختلفين.
.2 والاختلاف: مايستند إلى دليل. والخلاف: ما لايستند إلى دليل.
.3 والاختلاف من آثار الرحمة ...، والخلاف: من آثار البدعة.
.4 ولو حكم القاضي بالخلاف، ورفع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف، فإن الخلاف هو ما وقع في محل لايجوز فيه الاجتهاد، وهو ماكان مخالفاًً للكتاب والسنة والإجماع.
قال ابن العربي عند قوله تعالى: {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات} ( سورة آل عمران، من الآية: 105)، لتفرق المنهي عنه يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: التفرق في العقائد.
الثاني: قوله، عليه السلام >لاتحاسدوا ولاتدابروا< ( التفرق في القلوب).
الثالث: ترك التخطئة في الفرع والتبري فيها، فإن الكل بحبل اللَّه معتصم، وبدليله عامل، وقد قال عليه الصلاة والسلام ، >لايصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة<، فمنهم من حضرت العصر فأخرها حتى بلغ بني قريظة، أخذاً بظاهر قول النبي عليه الصلاة والسلام ، منهم من قال لم يرد هذا منا، يعني: وإنما أراد الاستعجال؛ فلم يعنف النبي عليه الصلاة والسلام أحداً منهم.
والحكمة في ذلك أن الاختلاف والتفرق المنهي عنه، إنما هو المؤدي إلى الفتنة والتعصب وتشتيت الجماعة، فأما الاختلاف في الفروع فهو من محاسن الشريعة، قال النبي عليه الصلاة والسلام : >إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد<، وروي، >أن له إن أصاب عشرة أجور<.
أهم أسباب الاختلاف.
إن احترام قواعد الحوار ومنهجه على النحو السالف قد لا يصل إلى توحيد الرأي والتقاء الفكرة حول المسألة موضوع الحوار، وهكذا فإن الأمر قد يفضي إلى اختلاف بين أوجه الرأى، لأن الاختلاف من طبائع العقول، وقد كان الفقهاء والمحدثون يختلفون دون أن يكون لاختلافهم أي أثر في العلاقات الطيبة القائمة بينهم، ودون أن يزدري أحد منهم صاحبه؛ بل إن الاختلاف لم يزدهم إلا محبة وتلاحماًً أكثر.
وما ذلك إلا أن أسباب الاختلاف بينهم لم تكن أسباباً شخصية قائمة على أمور ذاتية، بل إنها كانت تقوم على أمور موضوعية؛ وكتب الأصول زاخرة بأسباب الاختلاف، وبتتبعها يتضح أن تلك الأسباب ترجع إما إلى اختلاف في معنى النص عندما يحمله البعض على الحقيقة، ويحمله البعض الآخر على المجاز، أو في مدى ذلك النص حينما يحمله البعض على العموم، ويحمله البعض الآخر على الخصوص، أو يعتبره البعض مطلقاً ويقيده البعض الآخر، وهكذا.
على أنه ينبغي أن لا يفهم مما سبق أن الأمر فوضى في فهم النصوص، بحيث يسوغ لكل من انتسب إلى الفقه أن يقول بأي رأي يراه دون ضوابط ولاشروط؛ بل إن للاختلاف ضوابط أهمها:
التسليم بآراء الأئمة المجتهدين، لأن هذه الآراء لم تصدر إلا بعد تمحص ومعاناة، فصارت ثوابت أقيمت على أسس متينة من قواعد استنباط الأحكام.
وتجنُّب اللََددِ والإنكار في المسائل الخلافية، لأن احترام الرأي الآخر أمر محمود، ولأن التعصب في الرأي يؤدي إلى التفرق والشـــقاق المنهي عنـه، بقـوله تـعالى: {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات} (سورة آل عمران، من الآية: 105).
عدم اعتبار الخلاف وسيلة للاحتجاج، لأن المحاججة إنما تقع بالقول المستند إلى نص أو إجماع وليس إلى مجرد الهوى.
احترام منهج العلماء في الاختلاف، لأنه السلم الذي يرتقي فيه من يروم فهم النصوص، وهي القناة التي يتعين المرور منها للارتقاء في سلم الفهم والنقاش.
الإنصاف في العلم، لأن الاعتراف بالحق فضيلة، وفي هذا قال الإمام الشاطبي، رحمه اللَّه "اجعل طلب الحق لك نحلة والاعتراف به لأهله مِِلََّةِ، لاتشرب مشرب العصبية، ولا تأنف من الإذعان للحق إذا لاح وجه القضية...".
مراعاة حاجة المجتمع والناس في الاختلاف، لأ من القواعد الكلية أنه "لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
من آداب الاختلاف
من ثوابت آداب الاختلاف في الإسلام
أ) أن الاختلاف رحمة وتوسعة، إذ اختلاف الأمة في أحكام الحوادث والنوازل يسر ورحمة، قال الذهبي:"وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صواباً، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه القياسٍ أو تأويل. وإذا رأيت فقيهاً خالف حديثاً أو حرّف معناه فلا تبادر لتغليطه، فقد قال علي كرم الله وجهه: ( لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل): يا هذا، إنه ملبوس عليك، إن الحق لايعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".
ب) أن الاختلاف في المسألة لايعني أن أحد المختلفين خاطىء، قال الطحاوي "المراد: أن ماذهب إليه إمامنا صواب عنده مع احتمال الخطإ، إذ كل مجتهد يصيب ويخطىء في نفس الأمر، وأما بالنظر إلينا فكل واحد من الأربعة مصيب في اجتهاده، فكل مقلد يقول هذه العبارة لو سئل عن مذهبه على لسان إمامه الذي قلده، وليس المراد أن يكلف كل مقلد اعتقاد خطإ المجتهد الآخر الذي لم يقلده".
ت) التأدب مع المخالف، لأن الخلاف إنما هو ناشىء عن اختلاف النظر لاعن اختلاف الهدف، فالمختلفان مختلفان في الأفكار متفقان في القلوب وفي الهدف.
الإسلام ينهى عن الجدل العقيم
قال أبو بكر بن العربي: عند قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قولُه في الحياة الدنيا وُيشهدُ اللَّه على ما في قلبه وهو ألدُ الخِِصامِِ} (سورة البقرة، الآية: 204) مانصه:
قوله تعالى: {وهو ألد الخصام}، يعني ذا جدال إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل، وهذا يدل على أن الجدال لايجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وقد روى البخاري وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:> أبغض الرجال إلى اللَّه الألدُّ الخَصِم <.
وقال عند قوله تعالى: {... وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (سورة الأنعام، من الآية: 121).
قوله تعالى: {ليجادلوكم} المجادلة دفع القول على القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي، أو لقصد المجادلة، كأنه طرحه على الجدالة، ويكون حقاًً في نصرة الحق وباطلاًً في نصرة الباطل،
وقال عند قوله تعالى: {ولا تُجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم* وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن لهم مسلمون،*وكذلك أنزلنا إليك الكتاب* فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحدُ بآياتنا إلا الكافرون *وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطُّه بيمينك، إذاً لارتاب المُبطلون..} (سورة العنكبوت، الآيات: 48-46).
قد كانت للنبي عليه الصلاة والسلام ، مجادلات مع المشركين، ومع أهل الكتاب، وآيات القرآن في ذلك كثيرة، وهي أثبت في المعني.
وقد قال لليهود: {إن ْكانت لكمُ الدارُ الآخرةُ عند اللَّه خالصةً من دون الناسِِ فتمنوا الموتَ إن كنتم صادقين* ولن يتمنَّوهُ أبداً بما قدَّمتْ أيديهم} (سورة البقرة، من الآيتين: 95-94)، فما أجابوه جواباً.
وقال لهم: {إن مثلَ عيسى عند اللَّه كمثل ِآدَم خَلَقهُ من تُرابٍٍ} (سورة آل عمران، من الآية: 59)، أي إن كنتم عبدتم ولداً من غيرأب فخذوا ولداً دون أب ولا أم.
وقال : {يا أهل الكتاب تعالوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً } (سورة آل عمران، الآية: 64).
وقال : {وقالتِ اليهود والنصارى نحن أبناءُ اللَّه وأحباؤه قل فََلِمَ يعذبُكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} (سورة المائدة، من الآية : 18).
ذلكم هو منهج الإسلام في الحوار وموقفه منه وأدبياته بشأنه.
وإذا كان لنا أن نختتم هذه الكلمة بنموذج حي من كلام سلفنا من العلماء في أسس ومنهجية وأدب الحوار في الإسلام، فإن أحسن مثال لذلك قول الإمام الشاطبي في مقدمة كتابه الموافقات :" إياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الطرق الحسان، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وهن التقليدي راقياً إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والاستنصار، إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار، والبس التقوى شعاراً، والإنصاف بالإنصاف دثاراً، واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة، لاتملك قلبك عوارض الأعراض، ولاتغر جوهرة قصدك طوارق الأعراض، وقِفْ وقفةََ المتخيرين لا وقفة المتحيرين، إلا إذا اشتبهت المطالب ولم يلح وجه المطلوب للطالب، فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار، لاتدر مشرب العصبية، ولاتأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية، أنفة ذوي النفوس العصبية، فذلك مرعى لسوامها وبيل، وصدود عن سواء السبيل.

محمد القدوري


الساعة الآن 10:39 AM.

Powered by vBulletin
قوانين المنتدى