تـــذكرة سينما
ترك سيارته بمحاذاة الرصيف...و لم يحفل بالرذاذ الذي ترسله السماء في سخاء و رفق. تسلل في هدوء نحو - المصرف الوطني- ليقبض راتب الشهر. لقد تأخر الراتب و أسرف في التأخير كما العادة. وتمتم محفوظ بينه و بين نفسه : - هذه الحكومة لن تقبض منها فلسا واحدا حتى تقبض أنفاسك و شبابك و صحتك - دخل محفوظ بهو البنك و التحق بطابور الانتظار. كان يعج بأصناف الموظفين الكادحين مثله. و فكر في ضجر : - ما أطول الطوابير في هذه البلاد..طابور في البنك و طابور أمام المخبزة و طابور في المستشفى و طابور عند الحلاق و و و ...-. تلقف الكهل نقوده الضئيلة في نهم و يمم شطر السيارة...لكنه صاح فجأة : - أين السيارة يا ناس - و جعل يسأل المارة كما المجنون. لكن لا أحد رأى السيارة أو علم بمصيرها.. راح الكهل الملتاع يفتش عن مركبته في الأزقة و الحارات القريبة. و أنفق في سبيل ذلك سحابة نهاره. لكنه عاد بخفي حنين نحو ذلك الرصيف المشؤوم و هو يتجرع الخيبة و الانكسار و الحزن. و ارتسمت فوق أساريره ابتسامة انتصار كأنه لمح جزيرته المفقودة و هتف بنبرة جريحة : - هاهي سيارتي الحبيبة شكرا لك يا رب السماوات - كانت المركبة جاثمة قرب ذلك الرصيف و قد أمست أكثر نقاء و جمالا من ذي قبل... فتح باب السيارة و التقط رسالة من المقعد الخلفي. .فضها و قرأ بصوت خفيض جدا: - أعتذر سيدي المحترم لأنني أخذت السيارة بدون اذنك. لكنك قد تعذرني لو علمت السبب. زوجتي كانت على وشك الولادة و رأيت كل الأبواب مسدودة في وجهي. و لم أجد بدا من اقتحام سيارتك لقضاء تلك المصلحة الطارئة. السماء أرسلت الي وليدا بهي الطلعة أشاع البهجة في قلبي .الشكر لك أولا و أخيرا ثم لسيارتك الخدومة. اخيرا تقبل اعتذاري و تقبل هديتي المتواضعة. قارورة عطر باريسية المنشأ و شيء من الحلوى الشامية و تذكرتي سينما لك و لزوجك. رعاك الله - التقط محفوظ تلك الهدية و قد تسللت العبرات الى مآقيه و فكر : - أشكر الأقدار لأنها جعلت سيارتي سببا في مجيء رضيع جميل الى هذا العالم الجميل- في مساء رائق من مساءات الربيع الحالمة. كان محفوظ في كامل أناقته و قد تأبط ذراع زوجته الشابة و توجها نحو - سينما كاريوكا - دفع الكهل تذكرتي السينما الى الشباك و التحق هو و زوجته بمقعدين فاخرين على الشرفة. انطفأت الأنوار فجأة و خيم السكون في أرجاء القاعة و عبثت أدخنة السجائر في الاجواء و بدأت احداث الفيلم الماتعة... عند منتصف الليل عادا الزوجان الى البيت ...كانا مثل عصفورين سعيدين حينما يحلقان صوب عشهما الدافيء بعد غياب طويل.. رياح باردة داعبت الزوجين الحبيبين في حنو و رفق. دخلا البيت و أوقدا الأنوار و صاحا مذعورين فجأة : - مصيبة مصيبة مصيبة لقد سرقونا - لم يترك اللصوص شيئا في المنزل. لقد بات المكان ساحة للأشباح. و مرتعا للفوضى.. لا تلفزيون و لا مجوهرات و لا غسالة و لا أثاث و لا شيء. حتى ألبوم الصور سرقوه. كان مليئا بصور و ذكريات جميلة من حفلة الزفاف التي مضى عليها سبع سنوات. في حجرة النوم المنهوبة لمح محفوظ رسالة فوق السرير. تلقفها بأنامل مرتعشة و فضها و قرأ بصوت متهدج : - أتمنى أن أحداث الفيلم السينمائي كانت ممتعة -:13::7: |
الساعة الآن 06:13 AM. |
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى