رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
14-12-2016, 03:17 PM
5 - حضور بديهته:
وهي كغيرها: هبَةٌ من الله - عز وجل - يُعطِيها مَن يشاء، وحضور البديهة: دليلٌ على حِدَّة الذكاء مع قوَّة الذاكرة، وحسن التصرُّف في أحْلَك الظُّروف وأحرجها، وهي: دليلُ الفصاحة وحسن البيان مع الإيجاز دون كلفة؛ بل تَخرُج من قائلها تلقائيًّا دون سابِق إعداد، وقد أُوتِي شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله منها حظًّا وافرًا، وبَدَأت تظهَر هذه النَّجابة منذ صغره؛ حيث أسفَرَتْ عن حضور بديهته، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله: "حكى لي عنه الشيخُ شمس الدين ابن قيِّم الجوزيَّة قال: كان صغيرًا عند بني المنجا، فبحَث معهم، فادَّعوا شيئًا أنكَرَه، فأحضَرُوا النقلَ، فلمَّا وقَف عليه ألقَى المجلَّد من يديه غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلا جَرِيء؛ ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم!، فقال سريعًا: أيهما خيرٌ: أنا أو موسى؟، فقالوا: موسى، فقال: أيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي كان فيها العشر كلمات؟، قالوا: الألواح، فقال: إنَّ موسى لمَّا غضب ألقى الألواح من يده، أو كما قال"[45].
"وحُكِي أنه كان قد شكا له إنسانٌ من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه: جبروتٌ وأخذُ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلمَّا دخَل إليه الشيخُ وتكلَّم معه في ذلك، قال: أنا الذي كنتُ أريد أن أَجِيء إليك؛ لأنَّك رجل عالم زاهد، يعني: يستهزئ به (متهكمًا)، فقال له شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قطلو بك، لا تعمل عليَّ دركواناتك (حيلك وألاعيبك)، موسى كان خيرًا مِنِّي، وفرعون كان شرًّا منك، وكان موسى كلَّ يوم يجيء إلى باب فرعون مرَّات، ويعرض عليه الإيمان"[46].
فسرعة بديهته قد عُرِف بها منذ صغره، ولازمَتْه حتى نهاية حياته، وقد ساعدت هذه البديهة السريعة في انسِياب مؤلَّفاته وتأصيل كلامه، وممَّا يَشهَد لذلك أنَّه:"سُئِل يومًا عن الحديث:" لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"[47]، فلم يزل يُورِد فيه وعليه، حتى بلغ كلامه فيه مجلدًا كبيرًا"[48]، واسم هذا المجلد: "إقامة الدليل على بطلان التحليل"، وهو: كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، وممَّا يدلُّ على سرعة بديهته الكتابيَّة، أنَّه:" لمَّا أُخِذ وسُجِن وحِيلَ بينه وبين كتبه، صنَّف عِدَّة كتب - صغارًا وكبارًا - وذكَر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وأسماء المحدِّثين والمؤلِّفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيءٍ من ذلك إلى ناقِليه وقائِليه بأسمائهم، وذكَر أسماء الكتب التي ذُكِر فيها، وأي موضع هو فيها، كلُّ ذلك بديهةً من حفظه؛ لأنَّه لم يكن عنده حينئذٍ كتابٌ يُطالِعه، ونقَّبت واختبرت واعتَبرت، فلم يوجد فيها - بحمد الله - خللٌ ولا تغيُّر"[49].
هذا، إضافة إلى:" ما وهَبَه الله - تعالى - ومنَحَه به من استِنباط المعاني من الألفاظ النبويَّة والأخبار المرويَّة، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتَّب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيه وما أُرِيد به، أُعجِب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويُدهِشه ما سمعه أو وقف عليه منه"[50].
وقد عُمِلت[51] قصيدة من ثمانية أبيات على لسان ذِمِّيٍّ في إنكار القدر:امتِحانًا لعلماء العصر، وهي[52]:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ *** تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةِ
إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ *** وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى *** دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا *** فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا *** فَرَبِّيَ لاَ يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي
فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي *** فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي
إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً *** فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ
وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ *** فَبِاللهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي

"فلمَّا وقَف عليها شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فكَّر لحظة يسيرة وثنَى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه بديهةً، وأنشأ يكتب جوابها، وجعَل يكتُب ويظنُّ الحاضرون أنَّه يكتب نثرًا، فلمَّا فرغ تأمَّله مَن حضَر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيته"[53]، والتي جاوزت مائة بيت، منها[54]:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ *** مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الْعُلاَ *** قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ *** مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ
وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ *** وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ
فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ *** عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ
وَلاَ تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا *** وَلاَ سَارِقٍ مَالاً لِصَاحِبِ فَاقَةِ
وَلاَ شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلاَ *** وَلاَ نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ
وَلاَ قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ *** وَلاَ مُفْسِدٍ فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ وِجْهَةِ
وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ *** قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي؟
كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ *** وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ
فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ *** وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ
فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى *** يُنَجِّيكَ مِنْ نَارِالإِلَهِ الْعَظِيمَةِ
فَدُونَكَ رَبَّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا *** مُرِيدًا لأَنْ يَهْدِيكَ نَحْوَ الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا *** أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ
كَسُقْمٍ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةٍ *** وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ
فَأَمَّا الأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا *** فَلاَ تُرْتَضَى مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لاَ رِضًا *** بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ *** وَلاَ نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ *** إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِي بِسَخْطَةِ
فَنَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ *** وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ

وقد تَتابَع العلماء على ذكرها، ومنهم مَن شرحها لجلال قدرها، وممَّا يدلُّ على حضور بديهته: أنَّه قد جاءَتْه امرأةٌ تسأله سؤالاً، وهو[55]:
سؤال:
جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدُّهْ *** وَأَنَا عَمَّةٌ لَهُ وَهْوَ خَالِي
أَفْتِنَا يَا إِمَامُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ*** وَيَكْفِيكَ حَادِثَاتِ اللَّيَالِي
الجواب:
رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنْتِهِ *** وَأَتَى الْبِنْتَ بِالنِّكَاحِ الْحَلاَلِ
فَأَتَتْ مِنْهُ بِالَّتِي قَالَتِ الشِّعْ *** رَ وَقَالَتْ لاِبْنِ هَاتِيكَ خَالِي

ففي هذه الأجوبة السريعة وحضور البديهة: دلالةٌ واضحةٌ على عبقريَّة هذا الإمام، وهذه الذاكرة التي تسعف صاحبها في إبانة رأيه وتوضيحه، كما أنها تُؤازِره في ترسيخ مفهومٍ يَوَدُّ إيصالَه للآخَرين، وهي: بمنزلة الرُّوح للبدن؛ حيث إنَّ العالم الإمام يحتاج إلى مَلَكة كي يبين أحكام الشريعة الغرَّاء على أكمل وجه؛ بل إنه ألَّف في قعدةٍ:"الحموية"، ألَّفها بين الظُّهرَيْن سنة 698هـ، وعمره سبع وثلاثون سنة، وألَّف بعض كتبه، وهو في السجن"[56]، ووصَفَه مَن رَآه من تلاميذه بقوله: " وقلَّ أنْ وقعت واقعةٌ وسُئِل عنها، إلاَّ وأَجاب فيها بديهةً بما بهر واشتهر"[57].