رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
17-12-2016, 08:59 AM
6 - استقلاله الفكري:
لم يكن شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: أوَّلَ مَن عُرِف من آل تيميَّة بالعلم الشرعي؛ فهي: سلالةٌ يتوارَث رجالها العلم واحدًا تلوَ الآخَر، ومن هؤلاء وأشهرهم جَدُّه:( الإمام الشيخ: مجد الدين أبو البركات عبد السلام ابن تيميَّة) رحمه الله ، الذي عُرِف بالتضلُّع في العلوم الشرعيَّة، وكذلك كان والده:( الإمام الشيخ: شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم)[58]، وإنَّ نشأتَه العلميَّة الأولى المتمثِّلة في أسرته وبيئته، قد أكسبَتْه نبوغًا مبكِّرًا، وشَغَفًا وتعطُّشًا لدِراسَة علوم الشريعة وعلوم اللغة، إضافةً إلى كون دمشق كعبةَ القُصَّاد الطالبين للعلم الشرعي، ومع هذا فلم تقتَصِر دراسَتُه على مذهبٍ فقهي أو عقدي معيَّن؛ بل كان واسِعَ الاطِّلاع، متعدِّد المعرفة في شتَّى العلوم؛ ممَّا جعَلَه يترفَّع عن التقليد، ويَتسامَى عن التعصُّب لفئةٍ أو لشخص، إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشريعته الغرَّاء.
ومع هذه النشأة العلميَّة التي تربَّى في أحضانها، فإنَّه شبَّ عن الطوق، وتبحَّر في العلوم النقليَّة والعقليَّة، وقد وصَفَه إمامٌ من أئمَّة عصره صاحبه وتلميذه الإمام الذهبي بقوله: " وفاقَ الناس في معرفة الفقه واختِلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتَزِم بمذهب؛ بل بما يقوم دليلُه عنده"[59].
وممَّا يميِّزه عن غيره من العلماء أنَّه:"يدرس كتاب الله وسنَّة رسوله وآثار السلف الصالح في أيِّ أمرٍ يَعرِض له أو يُسأَل عنه، فما يصل إليه يعتَنِقه ويدعو إليه، لا يهمُّه أخالَفَه الناس أم وافَقُوا، فهو ليس تابعًا لما يجري على ألسنة علماء عصره"[60].
فهو يجعل الدليل نصب عينَيْه، لا يَحِيد عنه قيد أنملة، وهذا الاستِقلال الفكري في البحث والإفتاء جعَلَه كالشامة بين أقرانه، وهذا الاستِقلال عنده في أصول الدين وفروعه، كما حكَى ذلك عن نفسه بقوله: "مع أنِّي في عمري إلى ساعتي هذه لم أدعُ أحدًا قطُّ في أصول الدين إلى مذهبٍ حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتَّفَق عليه سلف الأمَّة وأئمَّتها، وقد قلت لهم غير مرَّة: أنا أُمهِل مَن يُخالِفني ثلاثَ سنين إنْ جاء بحرفٍ واحد عن أحدٍ من أئمَّة القرون الثلاثة يُخالِف ما قلتُه"[61].
وقوله هذا، إنما يدلُّ على أنَّ:" المسلم المتعلِّم إنما يكون مسلمًا متعلِّمًا بالاستِقلال في العقيدة الدينيَّة، ولا يجوز للمسلم تقليدَ غيره من المسلمين في العقيدة، فما ظنُّك بتقليد غير المسلمين!؟ "[62]، هذا بالنسبة للفرد العادي، فما بالنا بإمامٍ للمسلمين، يؤمُّ الخلق ويَهدِيهم إلى صراطٍ مستقيم، ويدلُّهم على استِقاء العقيدة من الوحي:[ الذي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [63]، والالتِزام بالكتاب والسنَّة هو: ما يدعو إلى الْتِزامه من جميع طبقات المجتمع، فهو يسير مع الدليل، فيجهر بما أدَّاه إليه اجتهاده، وهكذا يكون المجتهد، فإنَّه يصل إلى حكمٍ ما بعد دراسته للكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، ثم يؤدِّيه اجتهادُه إلى حكمٍ بعينه، سواء وافَق فيه إمامًا أو خالَفَه، فالذي جمع هذا وذاك هو: الدليلُ، كما قرَّره بنفسه؛ حيث يقول: "وكان يرد عليَّ من مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائل في الاعتِقاد وغيره، فأُجِيبه بالكتاب والسنَّة وما كان عليه سلف الأمَّة"[64]، وقد أكَّد هو نفسُه مدى اتِّباعه ونبذه للتقليد؛ فقال: "كلُّ قائل إنما يُحتَجُّ لقوله لا به، إلا الله ورسوله"[65].
ذلك أنَّ أتباع المذاهب كانوا يرَوْن الدين بمنظارهم: هم، وبمفهومهم: هم، لا يرَوْن صوابًا إلا في اتِّباع إمامهم، فمَنَّ الله - تعالى - على الأمَّة الإسلاميَّة بذلك الإمام العظيم، وهذا وصفٌ لزمن التقليد وانتشار الأهواء، " فكان إصلاح هذا الوضع يحتاج إلى محدِّث فقيه، وأصولي ضليع، يكون قد استَعرَض ذخائر المكتبة الإسلاميَّة بأسْرها، ويستَحضِر الكتاب والسنَّة بحيث يُحيِّر الناس، كما يعرف الحديث بأنواعه وطبقاته معرفةً دقيقة تضطرُّ الناس إلى الاعتِراف بمكانته في صناعة الحديث، كما يكون له اطِّلاع تامٌّ على المذاهب الفقهيَّة الأخرى وفروعها، ويكون ذا قدمٍ راسخة في علوم اللغة وباع طويل فيها؛ حتى يؤهِّله للنقد والصيرفة في مجالها"[66].
وهكذا، فإنَّ هذه المقومات في هذا الإمام:"جعلَتْه يجدِّد أمرَ هذا الدين؛ ذلك لأنَّ غيرَه كان يَفهَم الأمور بعقل غيره، أو مأخوذًا بذلك العقل، أمَّا ذلك المجدِّد العظيم، فقد كان يَنظُر إلى الدين غير متأثِّر بتفكير أحدٍ، إلا بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وبعض التابعين، وبذلك جدَّد أمرَ الإسلام: بأنْ أزال ما علق به من غُبار القرون، وردَّه إلى أصله الأوَّل جديدًا قشيبًا"[67]، وفعلُه هذا يتكرَّر مع كلِّ إمامٍ مجتهد مجدِّد لهذا الدين، هِجِّيراه وديدنه:" اتِّباع الدليل".