رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
13-01-2017, 03:29 PM
10 - دورانه مع الدليل حيث دار:
بداية حياة شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله كانت مرتبطة بالعلم أيما ارتباط؛ فقد شهد أباه وهو عالم البلد وحاكمها وخطيبها، فتعوَّد منذ نعومة أظفاره على سماع العلم وإيراد الأدلَّة، فقد نشأ وتربَّى في رِحاب أهل العلم، بدءًا بحضوره مجالس أبيه، وحضوره لكبار علماء الفقه والحديث منذ صِغَرِه، وظلَّ في السَّماع من أبيه وغيره "إلى أن بلغ الحادية والعشرين؛ حيث تُوُفِّي ذلك الموجِّه الكريم"[94].
وممَّا يُظهِر اهتمامَه بالدليل ودورانه في فلكه: أنَّه في أوَّل نشأته سمع كتب الحديث من أكبر شيوخ عصره؛ ممَّا أدَّى إلى اتِّساع ملَكَة الحفظ عنده، واطِّلاعه على الآثار، "ولقد سمع غير كتابٍ على غير شيخٍ من ذوي الرِّوايات الصحيحة العالِيَة، أمَّا دواوين الإسلام الكِبار كـ"مسند أحمد" و"صحيح البخاري" و"مسلم" و"جامع الترمذي" و"سنن أبي داود السجستاني" والنسائي وابن ماجه والدارقطني، فإنَّه سمع كلَّ واحدٍ منها عِدَّة مَرَّات، وأوَّل كتابٍ حفِظَه في الحديث "الجمع بين الصحيحين"؛ للإمام الحميدي"[95].
كما عُرِف عنه أنَّه "كان يحفظ "المحلى"؛ لابن حزم ويستظهره"[96]، فحفْظه واستِظهاره لهذه الكتب - وهي أُمَّهات كتب الحديث - يؤهِّله ليصبح علمًا بين العلماء في الرُّكون إلى الدليل، وعدم الالتِفات إلى أيِّ شخصٍ كان.
كما كان يتقيَّد بذلك مَنْ سبَقَه مِنْ ذَوائِب العلماء الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وبحفظه لهذه الأحاديث والآثار جعلت مترجمي حياته يقولون: إنه قد "برع في الحديث وحفظه، فقلَّ مَن يحفَظ ما يحفَظُه من الحديث مَعزُوًّا إلى أصوله، مع شدَّة استحضارٍ له وقت إقامة الدليل، وفَاقَ الناسَ في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب معيَّن؛ بل بما يقوم دليله عنده"[97].
وتقيُّده بالدليل جعَلَه - كما مرَّ - لا يتقيَّد عند الإفتاء أو الإجابة بمذهب معيَّن؛ بل بما رآه صوابًا دائرًا مع الدليل، ومَن راجَع كتب هذا الإمام - صغيرها وكبيرها - يجده لم يخرج عن الشرع قيد أنملة؛ فما من رسالةٍ له أو كتاب أو جواب إلا صدَّره بأدلَّةٍ من الكتاب والسنَّة، ثم يتبع ذلك بأقوال الصحابة والتابعين، مع ذكره لأقوال الأئمَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، ثم ينظر مع ذلك لأوجُهِ اللغة العربيَّة وفروعها، مستخدمًا أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وجاعلهما نصبَ عينيه، فما ترجَّح له دليله أفتاه (أفتى به)، وما لم يترجَّح له دليله، نقل مَن قال به من الصحابة والتابعين أو من الأئمَّة المعتَبَرين، هذا مع احترامه وتوقيره لأئمَّة الإسلام ودفاعه عنهم، ولا أدلَّ على ذلك من تأليفه رسالة يُدافِع فيها عن أسباب اختلافهم، واسم هذه الرسالة: "رفع الملام عن الأئمَّة الأعلام"، و"ليس له مصنَّف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختارَ فيه ما رجَّحه الدليلُ النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحق المحض، فبرهَنَ عليه بالبراهين القاطِعة الواضِحة الظاهِرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين، وتراه في جميع مُؤلَّفاته إذا صحَّ الحديث عندَه: يَأخُذ به ويعمَل بمقتضاه، ويقدِّمه على قول كلِّ قائلٍ من عالِم ومجتهد، وإذا نظَر المُنصِف إليه بعين العدل: يَراه واقِفًا مع الكتاب والسنَّة، لا يميله عنهما قولُ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا يُراقِب في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا، ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحدٍ، وهو متمسِّك بالعروة الوثقى واليد الطولى، وعاملٌ بقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [98]، وبقوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [99] [100].
"فأسلوبه في التعليم هو: نفس أسلوب الحنابلة؛ حيث يستَخرِجون الأحكام العقديَّة والفرعيَّة من النصوص لا يَحِيدون عنها؛ بل قد نصَّ هو على ذلك من اتِّباع الدليل من الكتاب والسنَّة وعدم الخروج عليها، فقال: "وليس لأحدٍ الخروجُ عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا الخروج عن كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -"[101].
والأمثلة التي تدلُّ على مدى تمسُّكه بالدليل: كثيرة كثيرة؛ لكنَّني سأقتصر على الإشارة إلى أربعة أمور فقط:

الأول: كتبه وتآليفه، فمَن نظَر إلى تآليف وكتب شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: يجد أنَّه يَلتَزِم بالدليل، فما من مُؤلَّف له إلا ويُورِد فيه الأدلَّة من الكتاب والسنَّة وأقوال الأئمة؛ بل كما وصَفَه الإمام الذهبي بقوله عن شيخه شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّه كان "معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، لا يُؤتَى من سوء فهْم؛ فإنَّ له الذكاء المفرِط، ولا من قلَّة علم؛ فإنَّه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفَرِد بمسائل بالتشهِّي، ولا يُطلِق لسانه بما اتَّفق؛ بل يحتجُّ بالقرآن والحديث والقياس، ويُبَرهِن ويُناظِر أسوةً بِمَن تقدَّمَه من الأئمَّة"[102].

الثاني: حرصُه في كتاباته وتآلِيفه على البدء بخطبة الحاجة، والتي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح خطبه بها، "وقد جرى على هذا النهج شيخ الإسلام: أبو العباس ابن تيميَّة - رحمه الله - فهو يُكثِر من ذلك في مُؤلَّفاته، كما لا يخفى على مَن له عناية بها"[103].

الثالث: جعل أفعاله كلها تبعًا للسنَّة كتطبيق عملي للقرآن، سأله رجلٌ فقال له: "أنت تزعم أنَّ أفعالك كلها من السنَّة، فهذا الذي تفعله بالناس من عرك آذانهم، من أين جاء هذا في السنَّة؟، فقال: حديث ابن عباس في الصحيحين قال: "صلَّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ليلاً، فكنت إذا أغفيت أخذ بآذاني"[104]، حتى في مثل هذه الدُّعابة، فإنه يتقيَّد بالدليل، فلم يرد مخالفة السنَّة في الأمور التي تعرض للإنسان فجأةً، وهذا يدلُّ على مدى تمسُّكه بالدليل.

الرابع: تطبيقه للسنَّة في أصعب المواقف وأحرجها؛ في الجهاد ومقارعة الأعداء؛ ففي رمضان من سنة (702هـ) لما كانت وقعة شَقْحب حيث تَلاقَى المسلمون والتتار، وخرَج الإمام إلى ميدان القتال ثابتَ الجأش يُثَبِّت القادَة والجنود، "ووَقَف الفارس الجريء موقفَ الموت مُقاتِلاً، وهو يثبِّت قلوبَ مَن حوله بقتاله وفعاله، وقد التَقَى قبلَ أن يقف مَوقِفَه من القِتال بالسلطان يحثُّه وجندَه على الجِهاد في سبيل الله، وإحقاق الحق، وردِّ المعتدين، وكان قد بلَغَه أنَّه كاد يرجع، فسأله السلطان أن يقف معه في المعركة، فقال: السنَّة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم"[105].
فمع كونه له دورٌ كبير في النصر، وطلب السلطان منه أن يقف في صفِّه، إلا أنَّه طبَّق تلك السنَّة من وقوف الرجل تحت راية قومه، ثم جاء النصر من عند الله للمسلمين، وانتصروا نصرًا عظيمًا مؤزرًا، وهذا يَعكِس بدوره تمسُّك هذا الإمام بالدليل حتى في أحْلَك المَواضِع، وقد قال بعض مَن عاصَرَه: "ما رأينا في عصرنا هذا مَن تُستَجلَى النبوَّة المحمديَّة وسنَّتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهَد القلب الصحيح: أنَّ هذا هو الاتِّباع حقيقة"[106].