رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة"
27-02-2009, 12:10 PM
الطيب صالح: السودان.. حكم استعماري من نوع جديد
الطيب صالح
12/04/2007



* لم يمض وقت طويل حتى بدأ يظهر في بلاد السودان، حكم استعماري من نوع جديد.
يقول (سير هارولد ماكمايكل) في كتابه (السودان) الذي ترجمه ترجمة ممتازة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وأصدره مركز عبد الكريم ميرغنى الثقافي: (كان المتبع في سياسة الحكم البريطاني في السنوات الأولى، هو ترك مجتمعات القبائل والقرى تدير شؤونها بنفسها. وذلك لأسباب ثلاثة. في المقام الأول لم يكن هناك خيار عملي آخر نسبة لقلة الموظفين. وثانياً فقد كان نظام الحكم الأبوي متعارفا ًعليه في المجتمعات القبلية بوجه الخصوص وفي مجتمعات أخرى.
وثالثاً كان زعماء القبائل في المناطق البعيدة رجالاً أقوياء وذوي نفوذ ولن يرضوا بأي محاولة تسلبهم سلطانهم، وسيجدون المبرر لمعارضة مثل تلك المحاولات في الوقت الذي كانت فيه الحكومة ترغب في تعاونهم وليس في عدائهم ..).
ويمضى سير (هارولد ماكمايكل) فيذكر أن الحكومة في بداية عهدها في ذلك الوقت، لم تكن قد حددت هدفها بالنسبة للنظام السياسي المستقبلي، وإنما انشغلت فقط باستتاب الأمن وترسيخ مبادئ العدالة، ثم يضيف: (كان هناك ميل لدى بعض الدوائر (البريطانية) من ذوي العقول الديوانية ومن موظفي مناطق النيل الشمالية حيث كانت سلطة القبائل ضعيفة، للتطلع إلى اليوم الذي يربط فيه السودان بشبكة من المكاتب تعج بأعداد غفيرة من الموظفين والإداريين والمحاكم القضائية والروتين وكل ما يتبع ذلك من مقتضيات نظم الحكم الحديثة ..).
هذا النظام (البيرقراطي) لم يطبق أبداً في السودان. أنشأ الإنجليز جهازاً إدارياً صغيراً جداً بالقياس إلى المساحة الشاسعة للقطر. وكان عدد الموظفين البريطانيين أقل من خمسمائة موظف. كانت لكل واحد منهم سلطات واسعة، وكان قطب الرحى هو الحاكم العام. وتحت هؤلاء يأتي النظار وشيوخ القبائل وهي المؤسسة التي تطورت منذ مملكة (سنّار) وكانت هي الحكومة الفعلية في مختلف العهود وقد أدرك الإنجليز من أول وهلة، أنها مؤسسة للحكم قليلة التكلفة، فتركوها على حالها. يقول (ماكمايكل): (تم تطوير وتعديل الدستور، ولكن السلطة العسكرية والمدنية التي منحت للحاكم العام وحده بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لم يطرأ عليها أي تغيير، الأمر الذي ضمن نوعاً من الاستقرار والاستمرارية. وحتى عام 1910 لم يكن هناك مجلس تشريعي أو استشاري أو تنفيذي رسمي. كان السردار، الحاكم العام، حاكما مطلقا. وكانت الحكومة تدار على نمط عسكري، وكان السكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي ومديرو المصالح ومديرو المديريات، موظفيه وقادته الميدانيين. ثم بعدها اتخذ قرار (بتقنين الممارسة غير الرسمية، بخلق مجلس للحاكم العام لمساعدته في تصريف مهامه التنفيذية والتشريعية ..).
ومع مرور السنين نمت أواصر وارتباطات بين الموظفين البريطانيين أنفسهم في السودان، أقرب ما تكون بالأواصر القبلية. وكان زعيم هذه القبيلة العجيبة هو الحاكم العام. وقد أحسن الحكّام البريطانيون فهم الطقوس القبلية في السودان وأعرافها وأحسنوا استغلالها. وجاء وقت أصبح فيه التعامل بين الحاكم العام وزعماء القبائل، كأنه تعامل بين أنداد. يقول (ماكمايكل): (إن العامل الأهم في تحقيق تلك النتيجة كان الولاء التام للحاكم العام من كافة الموظفين البريطانيين. لم يكن تعيين الحكام العامين تعيينا سياسياً مؤقتا، إنما كانت خدمتهم في السودان تغطي تقريباً كل فترة حياتهم العملية دون احتمال أو رغبة في التحول للعمل في مكان آخر.
لم تكن هناك وزارة أو مصلحة في لندن تتحكم في مصائرهم أو في أعمالهم نظرياً أو فعليا. كما لم تكن هناك محاسبة برلمانية لهم. وفيما عدا أعلى المجالات لم تكن تقدم في البرلمان أسئلة كثيرة عن السودان.
وحتى إذا ما قدمت، فإن وزارة الخارجية كانت هي الجهة المدنية الوحيدة التي تتولى الرد نيابة عنهم. ومما يبعث على الارتياح أنه كان يكتفى بالقول إن الأمر متروك لقرار الحاكم العام ..).
ويلخص (ماكمايكل) الوضع كما كان قائما في هذه الفقرة الواضحة ذات الدلالات البعيدة: (وهكذا نشأت هيئة مؤتلفة من الموظفين الذين يقدمون خدماتهم للدولة طواعية غير مكبلين بأي نوع من الاستبداد، وغير مشغولين سوى بعملهم وهواياتهم وأسرهم، ويدينون بالولاء المخلص لرأس الدولة الذي يجسد القيادة والسلطة (الحاكم العام).
(للحديث بقية)