عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
10-11-2016, 02:23 PM
عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعدُ:
فلقد دأَب الباحِثون والكُتَّاب حينما يتحدَّثون أو يَكتُبون عن عبقريَّة شخصٍ ما: أنهم يُبرِزون مآثِرَه، ويُسفِرون النِّقاب عن الكيفيَّة التي جعلَتْه يصل بها إلى تلك العبقريَّة؛ فعالم هنا: تظهر عبقريَّته في العلوم النقليَّة، وآخَر هناك: في العلوم العقليَّة، أو الطبيعيَّة...إلخ..
ومنهم مَن تظهر عبقريَّته في فنٍّ آخَر كاللغة، أو بما يتعلَّق بالآلات المعيشيَّة، وإمامنا هذا قد تعدَّدت روافد عبقريَّته في علومٍ شتَّى:( نقليَّة، وعقليَّة، ولغويَّة، ودعويَّة، وجهاديَّة، وإصلاحيَّة تربويَّة...)، وإنَّه لَيَشهَدُ لهذه العبقريَّة:" كثرةُ مُؤلَّفاته وثراؤها، وإثراؤها وتنوُّعها، وتعدُّد أساليبها ووسائلها"، وهنا تبرز صعوبة تحديد أسباب العبقريَّة لديه؛ لأنها مُتَعدِّدة مُتنوِّعة، وغير قاصرة على شيءٍ مُحَدَّد؛ لذا فقد كثرت الأبحاث التي تَتناوَل جانبًا من جوانب هذه العبقريَّة عند هذا الإمام؛ فمنها: ما له علاقةٌ بالجوانب الدينيَّة وجهوده فيها وفي نشرها، ومنها: ما هو متعلِّق بالإصلاح والتربية، ومنها: ما هو متعلِّق بأمورٍ فكريَّة وجهاديَّة ودعويَّة، ومنها: سياسيَّة وما له علاقة بالحكم وإصلاح الراعي والرعيَّة، ومقارعة الأعداء في الداخل والخارج، ومن الأبحاث ما ركَّزت اهتماماتها على جزءٍ من جهوده؛ مثل: الجانب العقدي، أو الفقهي، أو التربوي، أو الخلقي عنده، وتلازم هذه الجوانب بالمنهجيَّة عنده وكيفيَّة تأصيلها:"كلُّ ذلك من الأدلَّة القاطعة على عبقريَّة هذا الرجل"[1].
وعلى هذا؛ فشخصيَّة الإمام ابن تيميَّة تَحوِي في طيَّاتها أمورًا كثيرة، ومؤثرات مختلفة؛ منها: ما له علاقة بتكوينه الشخصي، ومنها: متعلق بأسرته وبيئته ونشأته، ومنها: أمور مُكتَسَبة، وقبلها وبعدها:" توفيقٌ وإلهامٌ من الله - سبحانه وتعالى –"، فهو ذو مشاركات في كلِّ علوم عصرِه، وله مشاركات في شتَّى أمور الحياة؛ حيث كان له دورٌ بارز في نهضة الأمَّة؛ فهو نسيجُ وحدِه، وهو رجل الدهر، وقد جعلتُ الكلام على العوامل المؤثِّرة في عبقريَّته ونبوغه كالتالي:

1 - إخلاصه في طلب الحق وتبليغه:
الإخلاص عملٌ قلبي؛ فلا يَعلَم ما يدور في القلوب إلا علاَّم الغيوب، ولكن هناك أمارات يَتعرَّف الإنسان من خلالها على إخلاص شخصٍ ما، فيظهر فيها الْتزامُه بما يقول دون التِفاتٍ لتَحصِيل حُطام دنيوي فانٍ؛ بل يفعل ابتِغاء وجه الله - تعالى – ومنها: البعدُ عن الأمور المتعلِّقة بالهوى والشهوة والحسد، بل إنَّه إنْ رأى نعمةً على غيره برَّك عليه، وهذا شأن المسلمين مع بعضهم.
ومنها: الجرأةُ في الحق، متعاليًا على ما يعقب ذلك من عواقب، في نظر قِصار النظر تكون كبيرةً، وعند ذي الهمَّة العالية تكون صغيرة، فالمؤمن يَراه حقًّا عليه تجاه دينه، وإرضاءً لربه خالقه، واتِّباعًا لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ورفعةً لشأنه، ومن أجلها: بذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الله، والتضحية ببذل النفس والمال والولد، فضلاً عن المنصب والجاه،"وقد آتى الله ابنَ تيميَّة أكبر حظٍّ من الإخلاص، فقد أخلَص لله في طلب الحقيقة فأدرَكَها، وأخلَص في نُصرَة الحق في هذا الدِّين، فلم يقبضه إليه حتى ترك دَوِيًّا في عصره، وتناقلَتْه الأجيال من بعده، وكلُّ مَن يقرَؤُه يلمَس نور الحقيقة ساطعًا ممَّا يقرأ؛ لأنَّه يجد حرارة الإيمان بيِّنة قويَّة لا تحتاج إلى كشف"[2].
ومن أمارات ذلك: أن يجعل المسلم نصبَ عينيه الإخلاص؛ وهو: "أن تكون العبادة لله وحدَه، وأن يكون الدِّين كلُّه لله... وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، وألاَّ يتوكَّل إلا عليه، ولا يُستعان إلا به"[3].
والناظر في حياة هذا الإمام: يجد له فيها أمثلةً رائعةً صارت مضرب الأمثال في الإخلاص العملي، ولِتكرُّر فعله تناقَلَه العلماء قبل العامَّة،"وقد تجلَّى إخلاصُه في أمورٍ أربعة: أظلَّت حياته كلها، فما كان يخلو منها دَورٌ من أدوار حياته؛ ممَّا جعَلَنا نُؤمِن بأنَّ هذا العالِم الجليل عاشَ دهرَه كلَّه مُخلِصًا لله العلي العليم ولدينه الكريم:

أولها: أنه كان يُجابِه العلماء بما يُوحِيه فكره، يُعلِنه بين الناس بعد طول الفحص والدِّراسة، خصوصًا ما يكون مُخالِفًا لما جرى عليه مألوف الناس وعُرِف بينهم.

الأمر الثاني: جهادُه في سبيل إظهار الحقِّ ولو بالسيف إن كان خصمه يحمل سيفًا، كما حمَل السيفَ على التتار، وكذلك في فتح عكا، والقضاء على المعتَدِين من سكَّان الجبال بالشام.

الأمر الثالث: تبرُّؤه من الأغراض والهوى والمُحاسَدة والمُباغَضة؛ بل اشتهر عنه عفوُه عمَّن أساء إليه، أمَّا تبرُّؤه من الأغراض والهوى، فيدلُّ عليه: أنَّه لمَّا أظهَر الله أمرَه للسلطان، دَعاه وأَراه فتوى لبعضٍ ممَّن تكلَّموا فيه بسوءٍ واستَفتاه في قتلهم، فأثنى عليهم كما ذكر ذلك هو بنفسه؛ إذ قال: "إنَّ السلطان لمَّا جلَس بالشباك أخرَج فتاوى لبعض الحاضِرين في قتله، واستفتاني في قتل بعضهم، ففهمت مقصوده، وأنَّ عنده حنقًا شديدًا عليهم؛ لما خلعوه وبايعوا الملكَ المظفَّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد دولتُك مثلهم، وأمَّا أنا، فهم حِلٌّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم".[4].
فلم يستغلَّ وينتَهِز فرصةَ غضب السلطان عليهم لينتَقِم لنفسه؛ بل دافَع عنهم، حتى قال القاضي:" زين الدين بن مخلوف": قاضي المالكيَّة بعد ذلك: "ما رأينا أتقى من ابن تيميَّة؛ لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنَّا! ".[5].
فهذا الموقف يُنبِئ عن صدقٍ مع الله وإخلاصٍ، وكذلك له موقفٌ آخَر من الصوفيَّة حينما آذوه، بل تعدوا عليه بالضرب، فلمَّا علم بذلك بعضُ مُحِبِّيه من الحسينيَّة جاؤوا لنصرته،" وقال له بعضهم: يا سيِّدي، قد جاء خلقٌ من الحسينيَّة، لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلَّها لفعلوا، فقال لهم الشيخ: لأيِّ شيء؟، قالوا: لأجْلك، فقال لهم: هذا ما يجوز، قالوا: فنحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذَوك فنقتلهم ونخرِّب دورهم؛ فإنهم شوَّشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحلُّ... فلمَّا أكثروا في القول قال لهم: إمَّا أن يكون الحقُّ لي أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي، فهم في حلٍّ، وإن كان لكم، فإن لم تسمَعُوا مِنِّي، فلا تستفتوني وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله، فالله يأخذ حقَّه كما يشاء وإن شاء"[6].
وعندما اقتَربت وفاة الشيخ: استَأذن وزير دمشق على الشيخ، وأخَذ يعتَذِر له عمَّا فعَلَه معه من تقصير أو غيره، فقال له: "إنِّي قد أحللتك وجميعَ مَن عاداني، وهو لا يعلم أنِّي على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظَّم من حبسه إيَّاي؛ لكونه فعل ذلك مقلِّدًا غيرَه معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه؛ بل لِمَا بلغه ممَّا ظنَّه حقًّا من مبلغيه، والله يعلم أنَّه بخلافه، وقد أحللت كلَّ أحدٍ ممَّا بيني وبينه، إلا مَن كان عدوًّا لله ورسوله"[7].
بل إنَّه قال في آخِر أيَّامه: "أنا لا أكفِّر أحدًا من الأمَّة، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))[8]، فمَن لازَم الصلوات بوضوء، فهو مسلم"[9].

الأمر الرابع: زهده عن المناصب وكلِّ زخرف الدنيا وزينتها؛ فلم يطلب ولم يتولَّ منصبًا، ولم يُنازِع أحدًا في رياسة؛ بل كان المدرِّس الواعظ الباحث؛ ولذلك عاش فقيرًا، وكان يكتَفِي من الطعام بالقليل، ومن الثياب بما يستر العورة، مع التجمُّل من غير طلبٍ للثمين، وكان يتصدَّق بأكثر رزقه الذي يجري عليه"[10].

فهذه أحوالٌ للشيخ تُضِيء لنا بعضَ جوانب إخلاصه، وتدلُّ على مَدَى تطلُّعه لما عند الله، فكلُّ حياته مِحَن وابتِلاءات، وهذه سماتُ مَن يدعو إلى الله - تعالى -.

يتبع بإذن الله.