سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
28-09-2008, 04:09 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الأولى

أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله
وقفتُ على مقال منشور في هذا الموقع الطيب (الألوكة) بعنوان ((فك الشفرة الجزائرية وفتح الأيقونة الباريسية)) كتبه محمد المبارك . وهذا المقال منشور في كثير من المواقع الإسلامية ، والغرض منه الحديث عن شخصية الأمير عبد القادر الجزائري ، ولكن بطريقة ومضمون لم يسبق إليهما ، وطبعًا لا يُقرُّ عليهما!
وقبل أن أبدأ بالرد على مغالطات صاحب المقال ، أود أن أبدأ بمسألة ذكَرَها صاحب المقال معتمدًا عليها ؛ ويذكرها بعضُ من خاض في عرض الأمير عبد القادر ويظنون أنها ثابتة أو صحيحة ويبنون عليها أحكامهم ، ويبالغ بعضهم كاذبًا فيقول إنها متواترة!! ويحاول البعض أن يدلّس على الناس فيوهمهم أنّ بعض علماء الحديث الكبار في عصرنا هذا ؛ قد أثبتها!!
وهذه المسألة هي ما رواه عبد الرحمن الوكيل في المقدمة التي كتبها لكتاب الإمام برهان الدين البقاعي رحمه الله (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) نقلاً عن الصفحة الأولى من نسخة الشيخ محمد نصيف الذي أهدى هذا الكتاب إلى الشيخ محمد حامد الفقي ليطبعه حيث قال: وقد كتب الشيخ الجليل محمد نصيف على نسخته ما يأتي :
"أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355هـ عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على ابن عربي ، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة ؟ فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة ، وطالعها كلها ، ثم أحرقها بالنار ، وقد ألف الأمير عبد القادر كتاباً في التصوف على طريقة ابن عربي . صرّح فيه بما كان يلوّح ابن عربي ، خوفاً من سيف الشرع الذي صرع قبله:" أبو الحسين الحلاج " ، وقد طبع كتابه بمصر في ثلاث مجلدات ، وسماه المواقف في الواعظ والإرشاد ، وطبع وقفاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"
.انتهى [ص14]
وأقول : إذا كان ما رواه الوكيل عن الشيخ محمد نصيف صحيحًا ، فإننا مع احترامنا للشيخ محمد نصيف ولمنزلته ، لا يمكن أن نقبل هذا الكلام لأنه كلام غير مقبول أبداً وليس علمياً ولا منطقياً!! والذين يقبلونه هكذا على علاّته عندهم مشكلة ولا ريب ، ونحن مسلمون نكتب في منتدى أهل الحديث ، فيجب علينا أن نقتفي طريقة أهل الحديث في قبول الروايات وردّها ، فما بالك برواية عجيبة كهذه؟!
أوّلاً ـ لماذا لم يترجم الشيخ نصيف لشخصية السائح التركي ولي هاشم؟ من هو ، وما منزلته العلمية ، ومتى ولد ، وما عمله واختصاصه ، وعَمَّن تلقى تلك الرواية عن الأمير؟ أسئلة كثيرة يجب أن تُعرف قبل القبول برواية شخص مجهول الحال!
ثانياً ـ من المعروف أن الشيخ محمد نصيف من أشهر أصحاب المكتبات في مدينة جُدّة والمهتمّين بالكتب ، فما حاجته إلى سؤال أحد السّائحين الأتراك عن تلك الكتب؟ وهل ذلك التركي أعلم بالكتب والمخطوطات من الشيخ نصيف؟ وقد ذكر عبد الرحمن وكيل ص13 أنّ السيد أحمد زكي أهدى صورة مخطوط (تنبيه الغبي) للشيخ محمد نصيف سنة
(1352هـ)
أي قبل اجتماعه بالسائح التركي بثلاث سنوات!! إذن عمَّ كان يسأله والكتاب عنده؟!
ثالثاً ـ إنّ سؤال الشيخ نصيف غريب ، فما هي الكتب التي صُنّفت في الرد على ابن عربي؟ نحن لم نسمع أو نقرأ عن كتاب صنّف لأجل الرّد على ابن عربي غير كتاب الإمام البقاعي (تنبيه الغبي) ، فلماذا لم يذكر لنا الكتب المفقودة التي صنّفت في الرد على ابن عربي؟ وجواب السائح التركي أغرب منه فقد زعم أنّ الأمير اشترى جميع (
انتبه جميــع
) تلك الكتب والمخطوطات وأحرقها!!
ونحن نرى أنّ كتاب البقاعي كان موجوداً عند الشيخ نصيف وقد طُبع! إذن فالمخطوط لم يُحرق والحمد لله ، وكذلك كتب التراجم التي ترجمت لابن عربي وانتقدته ، مثل (ميزان الاعتدال) و(لسان الميزان) و(سير أعلام النبلاء) و(العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) وغيرها من الكتب كلّها موجودة ومطبوعة ، إذن فمخطوطاتها لم تحرق والحمد لله ، فعن أي كتب يسأل الشيخ نصيف؟ وأيّ جواب هذا الذي افتراه السائح التركي؟!!
رابعاً ـ إنّ الأمير عبد القادر توفي سنة
(1300هـ)! ، والشيخ نصيف من مواليد (1302هـ)!( ) أي بعد وفاة الأمير بسنتين ، والسائح التركي لا نعرف من هو ولا تاريخ مولده ، ولكنّ اللقاء جرى بينه وبين الشيخ نصيف سنة (1355هـ)
!!! أي بعد وفاة الأمير بخمس وخمسين سنة! فمن أين لهذا السائح التركي تلك المعلومات ؟ شراء جميع تلك المخطوطات أو استيهابها ثمّ الاطلاع على ما فيها وبعد ذلك إحراقها!!
إنّ واحدة من تلك المعلومات تحتاج من راويها أن يكون معاصراً للأمير ومخالطاً له ومطلعاً على أعماله واتصالاته ، فما بالها غابت عن كل من خالط الأمير واجتمع به وعاش معه من العلماء والوجهاء والأدباء والأعيان الذين ترجموا له وكتبوا عن سيرته ، وظفر بها السائح التركي المجهول والذي يفتقر إلى كل تلك الصفات؟!
خامساً ـ إن حادثة مثل هذه (إحراق مخطوطات) هي حادثة كبيرة جداً ، ومن الغريب والمستبعد جداً ألاّ يعلم بها أحدٌ من أهل الشام على مختلف طبقاتهم ، فكل من ترجم للأمير عبد القادر ، وهم من تيارات مختلفة : ففيهم الصوفي وفيهم السلفي وفيهم الكافر وفيهم المسلم وفيهم المستشرق والمغرض وفيهم المؤرخ الحر وفيهم الأدباء ، كل هؤلاء لم يذكروا هذه الحادثة أو يشيروا إليها لا من قريب ولا من بعيد!! فكيف علم بها السائح التركي وحده؟ وكيف قَبِل منه هذا الخبر الشيخ محمد نصيف؟!
وهؤلاء العلماء ذكروا ما للأمير وما عليه بإنصاف وعدل .
سادساًـ من المعلوم عند أهل العلم أن السلطان سليم العثماني هو من أشد الناس تعظيماً وتقديساً لابن عربي ، وبعد دخوله إلى الشام أسرع وأمر ببناء مقام للشيخ ابن عربي بصالحية دمشق في أعلى الجبل وفق إشارة الشيخ ابن عربي في أحد كتبه!![انظر (منتخبات التواريخ لدمشق) للحصني 2/573] (وكان يعبّر عن هذه الإشارة بعض شيوخ المتصوفة بقولهم : إذا دَخَلَت السِّين في الشين ظَهَرَ مقام محيي الدين! إذن فلتكن السين هي رمزٌ للسلطان سليم والشين رمزٌ للشام)
ومن المعلوم أيضاً عند أهل العلم أن السلطان سليم قام بمصادرة مخطوطات الحديث والسنة من الشام ومصر وألقاها في أقبية الآستانة (وهذا قبل أن يولد أجداد الأمير عبد القادر)، وآخر من اطلع على هذه المخطوطات من العلماء المشاهير الحافظ ابن حجر العسقلاني ،رحمه الله ، فلماذا لم يذكر أحد من أهل التواريخ أن السلطان سليم أحرق الكتب التي ترد على ابن عربي؟ ولماذا لم يقم بهذا الفعل أصلاً مع تعصبه الشديد لابن عربي؟
[والدليل على ما قاله أهل العلم من المؤرخين هو عثور الأستاذ أحمد زكي على مخطوط (تنبيه الغبي) في خزائن القسطنطينية (استنبول)!!
. انظر مقدمة عبد الرحمن الوكيل ص13
فائدة :[الأستاذ أحمد زكي باشا والملقّب بشيخ العروبة كان من أصدقاء الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر]
سابعاً ـ إنّ الدولة العثمانيّة في كلّ أطوارها كانت ترسّخ التصوّف وتشجّعُ عليه في كلّ أرجاء دولتها ، وهي التي أنشأت الأضرحة والقباب والمقامات والزوايا وأجرت لها الأوقاف ، وعيّنت كبار شيوخ التصوف مُتَولِّين على الأوقاف الإسلامية . وكما نعلم فإنّ المتصوفة يعظّمون ابن عربي ويقدّسونه فهل يريد منا الشيخ نصيف أن نقبل أن جميع هؤلاء المتعصبين لابن عربي من السلطان سليم وباقي السلاطين والولاة مروراً بمشيخة الطرق والأضرحة لم يتعرّضوا للكتب الرادة على ابن عربي عبر تلك القرون كلها وحافظوا عليها واعتنوا بها ، وتركوا التفكير بإحراقها ، حتى إذا أهلَّ زمان الأمير عبد القادر ؛ ذلك القائد الفذ والأديب الشريف ، أقدم على التفكير بهذه الطريقة وقام بتنفيذها؟!!!
إنّ هذا حقاً لأمر عجيب ولا يمكن القبول به عند العقلاء .
وألفت الانتباه إلى أنّ السيوطي نفسه ؛ وهو الذي ردّ على كتاب الإمام البقاعي ؛ كان يعتقد بولاية ابن عربي ولكن كان يقول بحرمة قراءة كتبه!
وجلّ شيوخ التصوف كان هذا مذهبهم ينهون أتباعهم عن نسخ كتب ابن عربي أو قراءتها مع إقرارهم بولايته!! ويقولون للناس إن الفقهاء الذين ينتقدون ابن عربي لم يفهموا كلامه ونحن نعذرهم فهم أهل الظاهر وابن عربي من أهل الباطن!!
إذن فما الحاجة إلى إحراق كتب العلماء التي انتقدت ابن عربي؟
ليس هناك حاجة طبعاً سوى أن مختلق هذه القصّة (السائح التركي!) أراد أن يشوّه صورة الأمير عبد القادر فحسب ، فالأمير صوفي المشرب في الأصل وهذا يكفي عند البعض لأن يكون مباح العرض والدم فيفترى عليه بالباطل وتلصق به التهم.
ثامناً ـ أنا أعلم أنّ الأمير عبد القادر كان صوفيّ المشرب وقرأ "الفتوحات المكيّة" ، ولكن هذا لا يسمح لي أن أجزم من عند نفسي بأنّه كان موافقاً لابن عربي في كلّ شذوذاته وانحرافاته ، كيفَ لي ذلك وأنا أقرأُ في كتاب المواقف ؛ الذي نَسَبه الشيخ محمد نصيف للأمير!(وليس له)؛ قولَ
الأمير : "وما يُنسَبُ لسيدنا خاتم الولاية محيي الدين مِنَ الكتب المؤلّفة في علم التدبير والكيمياء ، ولغيره من الأولياء الدّاعين إلى الله تعالى ؛ فزورٌ وافتراء ، فإنّه مُحالٌ أنْ يَدُلَّ وليٌ من أولياء الله ، عبادَ الله على ما يقطعهم عن الله تعالى ... وكذا ما يُنسَبُ لسيدنا محيي الدين ، من الكتب المؤلّفة في الملاحم والجِفْر كالشّجرة النعمانيّة وغيرها .. وكذا الفتاوى المنسوبة إليه ، كذبٌ وزور"
.انتهى [المواقف 2/709]
فكما ترون فإنّ الأمير عندما اطّلَعَ على كلامٍِ يُنسبُ للشيخ ابن عربي ووجَدَه مخالفاً للشريعة أسرعَ فنفاه عنه وذلك في كتابه الخاص بعلوم القوم ، والسبب في ذلك أنّ الأمير نشَأ على محبّة من يُسمّونهم أولياء الله ، ومنهم ابن عربي . فمن باب حُسنِ ظنّه به نفى عنه ما رآه مخالفاً للشرع .
ولَسْتُ هنا في معرض تصويب أو تخطئة كلام الأمير في نفي تلك الكتب أو إثباتها ، ولكنّ الذي أُريد بيانه أنّ الأمير صرَّح بعدم موافقته على الكلام المخالف للشرع الذي نُسِبَ لابن عربي ، فكيفَ يسمح البعض لأنفسهم أن يجزموا بأنّ الأمير كان على معتقد الشيخ ابن عربي من الحلول والاتحاد؟!
كما فعل الشيخ محمد نصيف الذي لم يكتف بذلك بل قال : ((وقد ألف الأمير عبد القادر كتاباً في التصوف على طريقة ابن عربي . صرّح فيه بما كان يلوّح ابن عربي)) . سبحان الله!
وانظروا إلى تحذير الأمير من ذلك عندما كان يشرحُ بعض إشارات الصوفيّة قال في آخر كلامه :
" واحذر أن ترميَني بحلولٍ أو اتّحاد أو امتزاج أو نحو ذلك ، فإني بريء من جميع ذلك ومِنْ كل ما يُخالف كتابَ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .. ".انتهى [المواقف 2/869]
وانظروا إلى قوله : "... فإنّ هلاكه أقرب ، ونجاته أغرب ، إذ للشيطان فيه مدخلٌ واسع وشبهة قويّة فلا يزال أبو مُرّة (يعني إبليس) معه يستدرجه شيئاً فشيئاً يقول له : الحقُّ ـ تعالى ـ حقيقَتُكَ ، وما أنتَ غيرُه ، فلا تُتْعِب نفسك بهذه العبادات ، فإنّها ما وُضعت إلا للعوام الذين لم يصلوا إلى هذا المقام ، فما عرفوا ما عَرَفت ، ولا وصلوا إلى ما إليه وصلت. ثمّ يُبيحُ له المحرّمات، ويقول له : أنتَ ممَّن قال لهم : اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنّة ، فيُصبِحُ زنديقاً إباحيّاً حلوليّاً ، يمرقُ من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة".
انتهى [المواقف 3/1043]
يقول شارل هنري تشرشل : ((إن العرب ينسبون نجاح وحظّ عبد القادر السعيد إلى تعضيد سميّه العظيم (يقصد بسميّه الشيخ عبد القادر الجيلاني) ، ولكن كلّما سُئلَ عبد القادر عن عقيدته في هذه الخرافة ، أجاب بلا تغيير ، مُشيراً بإصبعه إلى السماء ، "إنّ ثقتي في الله وحده")) .انتهى [(حياة الأمير عبد القادر) ترجمة أبي القاسم سعد الله ص46]
وهذا نصٌّ واضح يرويه هنري تشرشل (البريطاني المسيحي) مباشرة عن الأمير ـ فقد لازمه مدة خمسة أشهر في دمشق سنة 1860م يسأله عن حياته العائلية ووقائعه في الجزائرـ وبعد أن سأله مراراً عن عقيدته فيما يعتقده بعض المتصوفة من أنّ نجاح الأمير كان بسبب عناية الولي الجيلاني به ومساندته له ، كان جواب الأمير ثابتًا دائماً ،
كان يُشير بإصبعه إلى السماء ويقول :"إنّ ثقتي بالله وحده"!!
وهذه النصوص التي سقتها لكم هي نصوص ظاهرة الدلالة يصرّح فيها الأمير عن معتقده ، فلا يجوز أن يُتغافل عنها ويُصار إلى الكلام عنه بالتخرّص والتوهّم!! بل يتعيّن الاعتماد عليها وطرح ما يخالفها.
وسيأتي مزيدٌ لبيان فكر وعقيدة الأمير عبد القادر عند الحديث على كتاب المواقف إن شاء الله .
أعتقد أنّ هذه الأشياء التي ذكرتها لكم تبيّن بوضوح عدم صحة الرواية التي أوردها الشيخ محمد نصيف عن السائح التركي ، على جميع الصُعد ، فهي لا تصح سنداً ولامتناً ولا مقبولة عقلاً ، ومتعارضة مع الحقيقة والواقع ، فقد زعم راويها أنّ الأمير اشترى كل تلك الكتب وأحرقها ، وها نحن نرى اليوم جميع تلك الكتب موجودة ومحفوظة! فالأخذ بهذه الرواية ليس من الدّين في شيء .
وأعجب من ذلك أنّ بعض الذين أوردوا هذه الرواية فهموا منها شيئاً لم يُذكر فيها! وصاغوه كما يروق لهم ، فقالوا : إن الأمير عبد القادر من ألد أعداء دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وكان يُحرق كُتبه وكتب ابن القيّم!!
ودليلهم على ذلك هو الرواية التي ساقها الشيخ محمد نصيف .
ولا أدري من أين ظهر لهم اسم شيخ الإسلام ابن تيمية في كل تلك الرواية؟!
لعلّهم ظنوا أنّ الإمام ابن تيميّة ، رحمه الله ، كان الوحيد الذي يُنكر على ابن عربي ، ومِنْ ثَمَّ فالكتب التي أحرقها الأمير عبد القادر هي كتب الإمام ابن تيميّة ، ومن هنا استشفّوا العداوة بين الرجلين!
وهذا والله أمرٌ عجيب! أيكون الحكم على العلاقات بين الرجال بهذه الطريقة السقيمة؟!
توهّمٌ أوّل مضافٌ إلى توهّمٍ ثان والتوهمان مبنيان على رواية باطلة ، وبعد ذلك الخروج بحكم ما أنزل الله به من سلطان . ثم "نحن أهل الإسلام وأهل الحديث!!"
إنّ الواجب على الذي يدّعي هذا الكلام أن يأتي بالبرهان والدليل على كلامه ، وإلاّ فهو ساقط الرواية وليس بثقة ؛ هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فالموقف عصيب والدّيان شديد العقاب .
وأنبّه هنا إلى أمر هام وهو أنّ علماء عصرنا الذين ترجموا لابن تيمية وابن القيم وكذلك المحققين الذين تولوا إخراج تراثهما المكتوب ، لم يشيروا لا من قريب ولا من بعيد إلى حادثة إحراق كتبهما . وتفرّد بذكر هذه الحادثة صاحب مقال فك الشيفرة وأمثاله من الذين يلقون أوهامهم هنا وهناك في (الإنترنت) ، وهم ليسوا من أهل العلم بل وغير معروفين .وليس لهم أي مستند أو برهان لما ذكروه وافتروه!!
والأمير له بعض الكتب والرسائل ، لا يوجد في أي منها تعريض بشيخ الإسلام أو بغيره .
وبعد مطالعتي لتراث الأمير عبد القادر لم أقف على شيء يدل على نفور الأمير من ابن تيمية. ولكنني وقفت على بعض النصوص ، التي كتبها السيد أحمد بن محيي الدين الحسني الأخ الأصغر للأمير عبد القادر وتلميذه النجيب وهو صوفي المشرب أيضًا (وهو من أصفياء العلاّمة جمال الدين القاسمي)، هي أقوى في الدلالة وأظهر من تلك التي اعتمد عليها أدعياء العداوة بين الرجلين ؛
1ـ جاء في كتاب (نثر الدر وبسطه) لأحمد بن محيي الدين الحسني (وهو مطبوع سنة 1324هـ) في الصفحة 102 :
(( .. ثمّ إنّ مما يُستغرب منه ويُتعجّب ما كنتُ سمعته من بعض طلبة وقتنا ، وهو أنّ العلاّمة المحقق الشيخ ابن تيميّة رحمه الله تعالى ألّف كتاباً حاول فيه تعليل المسائل الفقهيّة التي عجز فحول العلماء عن تعليلها ، واستنبطَ لها جميعها تعليلات مقبولة ، فاستبعدتُ ذلك منه كل البعد ، وعددته من الأشياء المحالة أو الشبيهة بالمحال ، إذ لا يمكن للإنسان أن يلتمس لتلك الأشياء تعليلاً مقبولاً إلاّ أن يكون بقوة كشفيّة أو ملكة وهبيّة . فلربما يصحّ ذلك لمن أطلعه الحق تعالى على ما هنالك وتخرج وقتئذ عن كونها تعبّديّة ..))
انتهى
إذن فالسيد أحمد الأخ الأصغر للأمير وتلميذه المخلص إذا أورد اسم شيخ الإسلام قال عنه :
((العلاّمة المحقق الشيخ)) ثمّ يقول ((رحمه الله تعالى))
، مع أنّ الكلام الذي سيسوقه إنما هو في معرض الرد والمخالفة ، فهل يمكن أن يُفهم من كلامه أنّه من ألدّ أعدائه؟
وانظروا إلى ما قال الهيتمي بحق شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سُئل عنه فأجاب بقوله : ((ابن تيمية عبدٌ خذَلَه الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذله وبذلك صرّح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله)).انتهى [انظر فتاوى الهيتمي ص114].
بمقارنة بسيطة بين كلام السيد أحمد الحسني وبين كلام الهيتمي يستطيع العاقل أن يميّز بين من هو مبغضٌ وعدوّ ، وبين من يحترم الآخر مع مخالفته له في المذهب الفقهي . ومِِنْ ثَمَّ يستطيع القول إنّ الهيتمي مبغضٌ وعدوٌ لابن تيميّة ، ولكنه لا يستطيع أن يقول ذلك أبداً عن السيد أحمد ، وغرضي من هذا أن موقف السيد أحمد هو بالضرورة يعبّر عن موقف أخيه وأستاذه الأمير عبد القادر .
2ـ وجاء في كتاب السيد أحمد بن محيي الدين الحسني (نُخبة ما تُسرُّ به النواظر) وهو مخطوط موجود عندي ، وقد قدَّم له العلاّمة جمال الدين القاسمي ؛ يقول السيد أحمد في الصفحة 173
:
(( .. وما أحسن قول العلاّمة محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيّم الدمشقي الحنبلي في وصف الحور العين في نونيّته المشهورة رحمةُ الله عليه ....))
.انتهى ، ثم أورد (32) بيتاً منها .
أهذا وصف الأعداء الألداء بعضهم لبعض؟! وابن القيّم هو من أخص تلاميذ ابن تيميّة ووارث منهجه .
إذن أستطيع أن أرى من خلال هذين النصين أن من زعم أنّ الأمير يكره ابن تيميّة وابن القيم هو متخرّص ومتكلّم بغير علم ولا تقوى .
وللفائدة فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن مكروهاً من قِبَل العلماء ولا الناس ولا المتصوفة ؛ لا في عصره ولا بعد ذلك ، وإنما كان له بعض المنافسين الذين حاولوا أن ينالوا منه ، ولكن هذا لم يكن له أي أثر عند الناس ، وفقهاء المذاهب الأربعة المتأخرون نقلوا عنه واستشهدوا بكلامه في كتبهم ؛ ولم يظهر التحامل على ابن تيمية والتعريض به على نحو عريض إلاّ في هذا العصر وذلك لأسباب أظن أنني غير محتاج إلى ذكرها في هذا المقام . والشيء نفسه يُقال بحق ابن القيّم رحمه الله.
وإنني أشهد أنني رأيت أناساً من المتصوفة ، بل ومن غلاتهم يقفون على قبر الشيخ ابن تيمية في دمشق خلف مشفى التوليد الجامعي وفي حرم كلية طب الأسنان القديمة ، ومدخل رئاسة جامعة دمشق ، ويقرؤون له الفاتحة كما هي عادتهم إذا زاروا القبور . (وقبره مع قبر صاحبيه) هي القبور الوحيدة المتبقّية من مقابر الصوفية! (المقبرة التي دُفن فيها ابن تيمية اسمها مقابر الصوفية) .
والآن سآتي على بيان فساد الادعاء الثاني ، وهو توهّم أن الأمير أحرق كتب ابن تيمية .
إن شيخ الإسلام لم يتعرّض فيما أعلم لتأليف جزءٍ خاص في الرد على ابن عربي ، وإنما هو ذكره في فتاويه ورسائله خلال حديثه عن انحرافات الصوفية . وكان يذكر عباراته التي في (فصوص الحكم والفتوحات) وينتقدها ويصفها بما تستحق من الضلال إلى الكفر ، ولكنّه لم يتعرّض لتكفير شخص ابن عربي مباشرة ، بل انظروا ماذا قال عنه في الفتاوى :
((..المَقَالَةُ الأُولَى مَقَالَةُ ابنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ فُصُوصِ الحكم. وَهِيَ مَعَ كَونِهَا كُفْرًا فَهُوَ أَقْرَبُهُم إلَى الإِسلامِ لِمَا يُوجَدُ فِي كَلامِهِ مِنْ الكَلامِ الجَيِّدِ كَثِيرًا وَلأَنَّهُ لا يَثبُتُ عَلَى الاتِّحَادِ ثَبَاتَ غَيرِهِ بَل هُوَ كَثِيرُ الاضْطِرَابِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ مَعَ خَيَالِهِ الوَاسِعِ الَّذِي يَتَخَيَّلُ فِيهِ الحَقَّ تَارَةً وَالبَاطِلَ أُخرَى . وَاَللَّهُ أَعلَمُ بِمَا مَاتَ عليه))
انتهى.[مجموع الفتاوى 1/141]
وقال :
((وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ ابنَ عَرَبِيٍّ أَقْرَبُهُم إلَى الإسلام وَأَحسَنُ كَلامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَينَ الظَّاهِرِ وَالمَظَاهِرِ فَيُقِرُّ الأَمرَ وَالنَّهيَ وَالشَّرَائِعَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيهِ وَيَأْمُرُ بِالسُّلُوكِ بِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِن الأَخْلاقِ وَالعِبَادَاتِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِن العِبَادِ يَأخُذُونَ مِن كَلامِهِ سُلُوكَهُم فَيَنتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَإِن كَانُوا لا يَفقَهُونَ حَقَائِقَهُ وَمَن فَهِمَهَا مِنهُم وَوَافَقَهُ فَقَد تَبَيَّنَ قَولَهُ)) . انتهى [مجموع الفتاوى 1/ 196]وفي الجزء الثاني من مجموع الفتاوى ص464 : ((وإنما كنتُ قديماً ممن يُحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه : لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثيرٍ من "الفتوحات" ، و"الكُنْه"( ) ، و"المحكم المربوط" ، و"الدرة الفاخرة" ، و"مطالع النجوم" ، ونحو ذلك . ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ، ولم نطالع الفصوص ونحوه ، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبيّن الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا ...)) ثمّ ذكرَ طامّات من أقوال ومعتقدات غلاة الصوفية الفلاسفة وختمها بقوله : ((وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص (يعني ابن عربي) والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه ، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات {ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم})).
انتهى [مجموع الفتاوى2/ 469]
فهل في هذا الكلام ما يحمل على الحقد على ابن تيميّة؟ وهل في كلام ابن تيمية أي رائحة شدّة وتعسّف أو حقد على ابن عربي؟
وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة ابن عربي ، قال : وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخُنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربي : ((شيخ سوء كذّاب ، يقول بقدم العالم ولا يحرِّم فرجاً)).انتهى
وقال تقي الدين السبكي : ((ومَنْ كان مِنْ هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره ، فهم ضُلال جهالٌ ، خارجون عن طريقة الإسلام ، فضلاً عن العلماء)). انتهى . قال ذلك في باب الوصية من شرح المنهاج ونقله الكمال الدَّميري والتقي الحصني .
إننا إذا قارنا بين ما قاله الإمام العز بن عبد السلام أو السبكي وأبو حيان الأندلسي والبقاعي وغيرهم في ابن عربي وبين ما قاله ابن تيميّة ، تبيَّن لنا كم كان الإمام ابن تيميّة متلطفاً في العبارة ، ورعاً في الوصف مع الجرأة في بيان الحق ودحض الباطل . والشيء نفسه يُقال بحق ابن القيّم .
إذن فإحراق كتب هؤلاء أولى من إحراق كتب ابن تيمية وابن القيم!
ومع ذلك أقول للذين يصرّون بغير حق على اتهام الأمير بحرق كتب ابن تيميّة وابن القيّم .
هل تدرون أين وُجِدَت كُتب شيخ الإسلام ابن تيمية؟ وهل تدرون أين كانت تُحفظ وتتعهد بالرعاية ؟ إلى أن يسّر الله طبعها ونشرها .
لقد وُجد مجموع فتاوى ابن تيمية بتمامه تقريباً في دمشق ، موطنِ الأمير عبد القادر ومكان نفوذه وسلطته ، في المكتبة الظاهريّة غير البعيدة عن دار الأمير عبد القادر! فكيف يزعمون أنه أحرقها؟
أم أنهم سيقولون إنها فاتته ، إذن ماذا كان يحرق؟!
وكيف لم يستحوذ عليها كما ادّعى السائح التركي ، مع أنها تحت يده في دمشق؟
وإليكم ما قاله الشيخ محمد بن عبد الرحمن العاصمي ، في مقدّمة مجموع الفتاوى المطبوع ، قال : ((إن أباه الشيخ عبد الرحمن العاصمي الحنبلي رحمه الله بدَأَ بجمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة في نجد سنة
1340 هـ(انتبه للتاريخ)
فوجد منها ثلاثة مجلّدات عند الشيخ محمد بن عبد اللطيف ثمّ قال :" وكانت نجدٌ وما زالت ـ بحمد الله ـ أسعد الأقاليم بالانتفاع بمؤلّفات شيخ الإسلام ، وتداولها وتدريسها"
[طبعاً هذا الكلام بعد وفاة الأمير عبد القادر وقبل قصّة الشيخ نصيف مع السّائح التركي فتنبَّه!]
ثمّ استخرَج من مكتبة الحرم المكي عدداً منها ؛ كما تحصّل على مسائل من بعض العلماء الأفاضل . وأمّا فَرَحُه الكبير فقد كان عندما عَثَرَ في المكتبة الظّاهريّة بدمشق على الكمّ الأكبر من الفتاوى قال :" .. ثمّ تصفّحتُ ((المجاميع)) وهي تزيد على (150) مجموعة ، وقد اشتَمَلَت على مسائل ونبذٍ لا توجد في غيرها ، وهي بخطوط قديمة ، وفيها من خطّ شيخ الإسلام بيده ما يزيد على (850) صحيفة . ومن تلك المجاميع ((مجموعة مسودة)) كلّها بخطّه ، لا يوجد شيء منها في المكاتب ، ولا غيرها عدد صفحاتها ( 664).."
ويتابع الحديث عن بحثه في المكتبات الأهليّة (الخاصّة) بدمشق فيقول : " فوجدتُ عند الشيخ حسن الشطي كتابين في الوقف ضمن مجاميع لشيخ الإسلام ، وعند محمد حمدي السفرجلاني مسائل في التراويح والإمامة وغيرها ..وعند أحمد عبيد وإخوانه مسائل ..." .انتهى انظر مقدّمة مجموع الفتاوى بقلم الشيخ محمد بن عبد الرحمن العاصمي النجدي الحنبلي.
إذن بعض كتب شيخ الإسلام كانت في بلاد الحرمين قديماً ، ولكن عُثر على معظم تراثه في دمشق! حيث كان يعيش الأمير عبد القادر ، وحيث كانت دار الكتب الظاهرية التي أنشأها ومدّها بالمخطوطات والكتب أحدُ ألمع تلامذة الأمير عبد القادر والمقرّبين منه إنه الشيخ طاهر الجزائري السمعوني السَّلَفي ، والأمير كان يمدّه بالمال والمخطوطات ، ومعظم المخطوطات التي كانت عند الأمير أعطاها للشيخ طاهر ، والمكتبة الظاهرية أُسِّسَت سنة 1879م يعني قبل وفاة الأمير بخمسة أعوام . والشيخ طاهر يُجلّ الأمير كثيرًا ورثاه بمرثيّة من أبدع ما قيل.
والذي أرشد الشيخ عبد الرحمن العاصمي إلى مجموع فتاوى ابن تيميّة ، هو الأمير عبد المجيد حفيد الأمير عبد القادر ، الذي كان أمينًا للمكتبة الظاهرية قرابة أربعين سنة! وللفائدة فإن الأمير عبد المجيد هو الذي كان يقدم التسهيلات للشيخ المحدّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، أثناء وجوده في المكتبة الظاهرية . وكان الأمير عبد المجيد يأخذ برأي الإمام ابن تيمية في بعض المسائل!
وبالمناسبة فإن هواة الطعن في الرجال بالتشهي يتّهمون الشيخ طاهر الجزائري بالماسونية
!
إذن على طريقتهم فإنّ الماسون هم الذين حافظوا على تراث شيخ الإسلام ابن تيمية! وحسبنا الله ونعم الوكيل .
أعتقد أن في هذا القدر من التوضيح والبيان كفاية لمن يريد الحق .
وفي المشاركة القادمة إن شاء الله سأبدأ بالرد على التهم والتخرصات التي ساقها صاحب فك الشيفرة الجزائريّة . وسأجعل الرد مقسمًا على حلقات أتناول فيها التهم واحدة إثر أخرى .



والحمد لله ربّ العالمين
خلدون بن مكّي الحسني
للبحث صِلة
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة