رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
30-11-2016, 03:52 PM
3 - حافظته القويَّة الواعيَة:
لقد وهَب الله - سبحانه - آل تيميَّة ذاكرةً واعِيَةً، لكن خرقت العادة مع شيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة رحمه الله؛ حيث عُرِفَ عنه: الحفظ وبطء النسيان، و:"إنَّ المكانة الاجتِهاديَّة في العلوم الإسلاميَّة التي أحرَزَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في عصره، وإنَّ التأثير العميق الذي خلَّفَه على أهل زمانه؛ لإمامته في التفسير والحديث معًا، وتبحُّره ونبوغه في العلوم - إنما كان الفضل الأكبر في ذلك يَرجِع إلى ذاكرته النادرة، وذكائه المفرِط، وكلُّ ذلك نعمةٌ أكرَمَه الله بها، وموهبةٌ اختصَّه بها"[31].
وهذه الذاكرة الحديديَّة قد عُرِف بها منذ صِباه، و:"كانت ذاكرته حديثَ زملائِه من الفتيان؛ بل تجاوَز صِيتُه دائرةَ الصِّبيان إلى دائرةِ الرِّجال، وتسامعت دمشق وما حولها بذكائه ونبوغه"[32]، يوضح هذا:"أنَّ بعض مشايخ حلب قَدِم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيٍّ يقال له: أحمد ابن تيميَّة، وأنَّه كثير الحفظ، وقد جئتُ قاصدًا لعلِّي أراه، فقال له خيَّاط: هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمرُّ ذاهبًا إلى الكتَّاب، فلمَّا مرَّ قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ وأخَذ منه اللوح، وكتَب من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن نظر فيه مرَّة بعد كتابته إيَّاه، ثم دفَعَه إليه وقال: أسمِعْه عليَّ، فقرَأَه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتَب عدَّة أسانيد انتخَبَها، فنَظَر فيه كما فعَل أوَّل مرَّة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إنْ عاش هذا الصبيُّ: ليكوننَّ له شأنٌ عظيم؛ فإنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، فكان كما قال"[33].
وقد علَّق أحد العُلَماء على هذه القصة بقوله: "وتبدو القصة عارية عن المبالغة، بعيدة عن الغلو، فإنَّه ممَّا تضافرت به الأخبار عن الإمام مالك[34]: أنَّه كان يستَمِع من ابن شهاب[35] بضعة وثلاثين حديثًا، ثم يتلوها في الجلسة، ومنها حديث السقيفة، وإن كان ثمَّة فرق بين العصرين؛ فعصر مالك كان عصر حفظ، الاعتِماد فيه على الذاكرة لا على الكتب، ومن شأن ذلك أن يقوِّي الحافظة ويرهفها؛ لأنَّ من المقرَّرات المستمدَّة من الاستِقراء: أنَّ العضو الذي يَكثُر عملُه يقوَى ويشتدُّ، أمَّا عصر ابن تيميَّة فكان عصر التدوين والتسطير والكتابة، وليس من شأنه أن يقوِّي الحافظة؛ للاعتِماد على السطور دون ما في الصدور، ومهما يكن، فمن الثابت أنَّ ابن تيميَّة - رضي الله عنه - قد آتاه الله ذاكرة واعِيَة منذ صِباه... ويظهر أن قوَّة الذاكرة قد ورثها ابن تيميَّة عن أسرته، (فجدُّه مشهورٌ بقوَّة الذاكرة وسرعة البديهة)، كما أنَّ أباه قد كان يمتاز بأنَّه يُلقِي دروسَه في الجامع الأكبر بدمشق غير مُعتَمِد على كتاب"[36].
وهذه الذاكرة المتوقِّدة قد شَهِدَ له بها المُخالِف قبل الموافِق، وهذا أمرٌ معروف ومشهور في حياته منذ صِباه حتى موته، فقوَّة الذاكرة وحدَّتها تميِّز العالِم العبقري عن غيره من العلماء؛ إذ إنَّه يحتاج إلى أدلَّة ونُقُول، كما يحتاج إلى سرعة استحضار للآيات، وانتِزاع الأحكام من متون الحديث باختِلاف رواياته، فضلاً عن أقوال الأئمَّة.
وهذه الذاكرة التي وُصِف بها الإمام ابن تيميَّة، تؤكِّدها المُناظَرات التي حدَثَتْ له مع كِبار علماء عصره، حتى عجبوا من قوَّة حفظه وسرعة استِحضاره للعلوم، إضافةً إلى ذلك العلماء الذين أرَّخُوا حياته ذكَروا أنَّه قلَّ أنْ سمع شيئًا إلاَّ حَفِظَه، مع قوَّة الإدراك، وبطء النسيان[37]؛ بل إنَّه:"كان يمرُّ بالكِتاب مطالعة مرَّة، فينتقش في ذهنه، وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه"[38].
والبديهة الحاضرة والذاكرة القويَّة من أقوى الحجج التي تُبهِر الخصوم، وكان إذا أراد بدء الدرس، فبعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم - "يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، فنون، (وفنون ونقول) واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، واستِشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يَجرِي كما يجري السَّيل، ويفيض كما يفيض البحر"[39].
وهذا يدلُّ على مدَى استِحضاره للعلوم، فيُخرِجها منظومةً مُتَراصَّة، مع إتقانٍ في النقل كأنما ينظر إلى كتاب، "ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيميَّة يتهيَّبون لقاءه، ومَن لا يعرفها فيه ويغترُّ بحجته إذا لقيه، كان عبرة المعتَبِرين"[40].
وهكذا يُسخِّر الله - سبحانه - لدينه مَن يشاء، ويهب لِمَن يشاء من عباده صفاتٍ لنصرة الدين، وليكونوا عبرة للمُعتَبِر.