رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
02-02-2017, 12:33 PM
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

وفيك بارك الله أخانا الفاضل العزيز:" عزيز".
جزاك الله خيرا على إضافتك القيمة المتميزة، لقد صدقت وبررت في ردك على ذلك:" المدعي الغمر!!؟"، وليس لي ما أضيفه على تعليقك سوى قول الشاعر:

ما ضر بحر الفرات أمسى زاخرا * أن رمى فيه غلام بحجر

ومثله:
يا ناطح الجبلَ العالي ليَكْلِمَه * أَشفق على الرأسِ لا تُشْفِق على الجبلِ


ومثله:
كناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيوهِنَها * فَلَمْ يَضِرْها، وَأَوَهى قَرْنَهُ الْوَعِلُ



وكنت قد رددت بتعليق مقتضب على دعوته ودعواه بعد إصداره لجذور بلائه!!؟، وتجد تعليقي تحت الرابط الآتي:
http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=360648


13 - جدُّه وحزمه مع النفس:
إنَّ النفس الطامحة للتحليق فوقَ العنان: نفيسة وتُتعِب الأبدان، ونفسٌ ظهرت وتَناقَلت الأخبار بمناقبها، لَجَدِيرةٌ بأن يكون صاحبها على درجةٍ عالية من الجدِّ والاجتهاد، فلا يتطرَّق إليها الملل، ولا يقتَرِب منها كسلٌ؛ بل دائمًا تُحاوِل مساواة الثريَّا، وكان لأسرته وبيئته العلميَّة العامل الأكبر في جِدِّه واجتهاده بعد توفيق الله - تعالى - له، "وكان من النتائج لهذه (الأسرة وتلك) البيئة العلميَّة: أن يتَّجِه الفتى الناشئ فيها إلى العلم، فاتَّجَه إليه الغلام ابن تيميَّة صغيرًا؛ فحفظ القرآن الكريم منذ حَداثَة سنِّه، وظلَّ حافظًا له إلى أن فاضَتْ رُوحُه إلى ربها، واتَّجَه بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث واللغة، وتعرف الأحكام الفقهية، وحفظ ما يسعفه به الزمن، وقد بدا فيه منذ صغره ثلاثٌ من المزايا، هي التي تمَّت وظهرت ثمراتها في كبره:

أولاها: الجِدُّ والاجتهاد والانصِراف إلى المُجدي من العلوم والدراسات، لا يلهو لهو الصِّبيان، ولا يعبث عبثهم.

ثانيتها: تفتُّح نفسه وقلبه لكلِّ ما حولَه يُدرِكه ويَعِيه، فلم يكن الغلام المنقَطِع عن الأحياء والحياة إلى الحفظ والاستِذكار فقط.

والثالثة: الذاكرة الحادَّة، والعقل المستيقِظ، والفكر المستقيم، والنبوغ المبكِّر"[117]، حتى وُصِف بأنَّه "لم يزل منذ إبان صغره مستغرِقَ الأوقات في الجدِّ والاجتهاد"[118].

فشخصيَّةٌ كهذه كانت بدايتها جد واجتهاد ونظر إلى معالي الأمور، فلا بُدَّ أن "يقف وراءها روح وثَّابة، ونفس طموحة، وهمة عالية، وإرادة لا تعرف السأم ولا الملل، قد هانت عليها لذَّات الدنيا ومُتعها، والعجب الذي لا ينقَضِي أن تكون هذه المعاني في غلامٍ لم يبلغ مبلغَ الرجال بعدُ!، وهذا يحتِّم أن يكون وراءَ ذلك ربانيَّة وحكمة إلهيَّة؛ ليتحقَّق به خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموعوده لأمَّة الإسلام في تجديد الدين على رؤوس المئين"[119].
حتى عُرِف من بين أقرانه بتلك الهمَّة العالية:"وكان من صغره حريصًا على الطلب، مُجِدًّا في التحصيل والدأب، لا يُؤثِر على الاشتغال لذَّة، ولا يُؤثِر أن يضيع منه لحظة في البطالة، وقيل: إنَّ أباه وأخاه وجماعة من أهله وآخرين ممَّن يَلُوذُون بظلِّه، سألوه أن يذهب معهم يومَ سبتٍ ليُشاهِد، فهرب منهم، ولا ألوى عليهم ولا شاهَد، فلمَّا عادوا آخِر النهار ولاموه على تخلُّفه وتركه لاتِّباعهم وما في انفِراده من تكلفة، فقال:" أنتم ما تزيَّد لكم شيء ولا تجدَّد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد"، وكان ذلك الكتاب:"روضة الناظر وجنَّة المناظر"، وهو مجلد صغير"[120].
فهِمَّتُهُ العالية بَدَتْ منذ صغره، ولازمَتْه حتى وفاته، وتنوَّعت جوانب همَّته؛ من همَّةٍ في كثرة التآليف، وهمَّةٍ عالية في كثرة العبادة والذِّكر والصلاة، إلى جانب همَّته العالية في الجِهاد في سبيل الله - عز وجل - وقد "كان كثيرًا ما ينشد:

تَمُوتُ النُّفُوسُ بِأَوْصَابِهَا *** وَلَمْ تَشْكُ عُوَّادَهَا مَا بِهَا
وَمَا أَنْصَفَتْ مُهْجَةٌ تَشْتَكِي *** هَوَاهَا إِلَى غَيْرِ أَحْبَابِهَا
مَنْ لَمْ يُقَدْ وَيُدَسَّ فِي خَيْشُومِهِ *** رَهَجُ الْخَمِيسِ فَلَنْ يَقُودَ خَمِيسَا[121]

ويؤكِّد علوَّ تلك الهمَّة وسموَّها: ما شرُف التاريخُ بتَسطِيره لحياة ذلك الإمام بجوانبه المتعدِّدة، وجعله روحه فداءً لوجه الله - عز وجل -.