رد: هام جدا: التنوير العربي: آفات ومعضلات
20-12-2016, 11:09 AM
ثالثا: آفة النظرة إلى الذات بعيون استشراقية:
إن:" التنوير العربي": لم يخف إعجابه بالتجربة الاستشراقية في قراءة الذات الإسلامية وتشريحها، وإذا كان من الضروري التمييز في الاستشراق بين نوعين: موضوعي، وغير موضوعي، فإن التنويري العربي يرى في الاستشراق: الحركة العلمية التي تمكنت من تفكيك البنية الفكرية الحضارية وكشفت عن حقائق عديدة!!؟.
وهنا نجد مثلا:( هاشم صالح) يشيد بالاستشراق،" لأنه هو الذي طبق المنهجية التاريخية النقدية على التراث الإسلامي لأوَّل مَرَّة، مثلما طبقها علماء أوروبا الآخرون على التراث المسيحي، وأتت بنتائج باهرة ومفيدة جدا... هل يعقل أن نظل جاهلين بما فعله جوزيف فان إيس –مثلا- عن كيفية تشكل الفكر الديني في بدايات الإسلام الأولى؟، هل يعقل أن تظل الأبحاث الاستشراقية المدعوة بالدراسات القرآنية مجهولة من قبلنا؟.
نقول ذلك، ونحن نعلم أنها شهدت تطورا هائلا في العقود الأخيرة، وكانت نقطة الانطلاق الأولى هي: المدرسة الفيلولوجية الألمانية، وأبحاث نولدكه الرائدة عن تاريخ القرآن!!؟، ولكن ظهرت بعده وعلى أَثَره أبحاث مستجدة عديدة لمستشرقين كبار، وينبغي أن نعرفها أو نتعرف عليها.
نفس الشيء يقال عن أبحاث البروفيسور وائل حلاق -الأستاذ في جامعة كولومبيا بنيويورك- عن كيفية تشكل الشريعة والفقه الإسلامي، وقِس على ذلك كثيرا.
ينبغي أن نعرف التمييز بين الرؤيا التبجيلية للتراث، والرؤيا التاريخية التي يقدمها لنا الاستشراق الأكاديمي"[8].
إنه لمن الطبيعي: أن يقع المثقف التنويري العربي في أسر الرؤية الاستشراقية وقوعا حتميا، لا فكاك عنه، لسبب جوهري هو: أن الاستشراق مثل الذراع الفكري والمنهجي للتوغل في العالم الإسلامي واكتشافه وتفكيكه، كما أنه هو الذي احتضن حركة "التنوير العربي": احتضان الأب لوليده؛ لذلك، فلم يكن بُدٌّ أن ينظر المثقف التنويري لذاته وتراثه بعيون استشراقية غربية!!؟.
يقول الدكتور إبراهيم السكران: "والحقيقة أنني بعد دراسة مشروعات التأويل الحداثي للتراث اتضح لي: أنها استمدت مادتها وتحليلاتها الأساسية من أعمال المستشرقين...، وفي كتب الحداثيين العرب ومصادرهم الاستشراقية تفاصيل كثيرة في وسائل التفسير وصيغ القراءة وأنماط الاستنتاجات، إلا أنه اتضح لي أيضا أن نقطة نهاية الطريق في عامة هذه التفسيرات تصل بالقارئ إلى نهايتين:
إما: رد علوم التراث الإسلامي إلى كونها مجرد اقتراض من ثقافات سابقة، كتابية أو هيللينية أو فارسية أو غيرها، دون برهنة ملموسة على ذلك، أي اعتبارها وافدة، وهو ما يمكن تسميته: تقنية (التوفيد).
وإما: رد علوم التراث الإسلامي إلى أنها حصيلة صراع سياسي، وليست حصيلة نظر موضوعي، حسب مقتضيات الدلائل العلمية، دون برهنة ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن تسميته: تقنية (التسييس).
فهاتان التقنيتان التفسيريتان، أي: توفيد الأصيل وتسييس الموضوعي؛ لاحظت أن عامة الاستشراق الفيلولوجي يؤول إليها، وعامة من أخذ عنهم من الحداثيين العرب: إنما يعيد إنتاجهما!!؟"[9].
ويقول الشريف زروخي، عن مشروع:( محمد أركون) باعتباره واحدا من دعاة الحداثة والتنوير في الفكر العربي المعاصر ممن اعتمد على منهجية استشراقية: "هذه المنهجيّة جعلت كثيرا من الدَّارِسين يرون أنّه مستشرق في ثوب جديد؛ لأنَّ جُلَّ تعاملاته مع التّراث تتّفق والذِّهنيَّة الاستشراقيّة"[10].
وأركون، وإن كان قد:" التزم ممارسة النقد الموضوعي على مناهج المستشرقين بهدف تجاوز آلياتهم ومناهجهم، لكن حضور الاستشراق بمقولاته ومفكريه ومناهجه بقوة في أعماله: جعل البعض يُصِرُّ على أن أعمال أركون متشبعة بأيدولوجية الاستشراق"[11].
ورغم نقد كثير من المثقفين العرب لهذه الرؤية الاستشراقية إلا أنَّه وَقَعَ في أَسرِها، فهذا:( محمد عابد الجابري) –أيضا- ينتقد وقوع التنويريين العرب في النزعة الاستشراقية وخدمة أغراضها، يقول: "فالصورة العصرية الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية العربية الراهنة عن التراث العربي الإسلامي، سواء منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صنف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب: صورة تابعة، إنها تعكس مظهرا من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية"[12].
وينتقد الجابري أصحاب الرؤية الماركسية[13] باعتبارها صورة من صور الاستشراق: "بكونها تعي تبعيتها للماركسية، وتفاخر بها؛ ولكنها لا تعي تبعيتها الضمنية للإطار نفسه الذي تصدر عنه القراءة الاستشراقوية لتراثنا.
إن المادية التاريخية التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق، وليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة هي الأخرى داخل إطار المركزية الأوروبية: إطار عالمية تاريخ الفكر الأوروبي، بل التاريخ الأوروبي عامة، واحتوائه لكل ما عداه،... وهذا يكفي ليجعل الصورة الماركسية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على الفهم من خارج لهذا التراث، مثلها مثل الصورة الاستشراقوية سواء بسواء."[14].
وغير خَافٍ على المطلع على كتب:( محمد عابد الجابري): وقوعه هو بذاته فيما انتقد غيره فيه، وعابه عليه.

يتبع إن شاء الله.