بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحديث عن المرأة له نصيب كبير في الشعر العربي ، وذلك منذ العصر الجاهلي ،حيث غالبا ما يستفتح الشعراء القصائد بالنسيب ،فيبدؤونها بالتشبيب، وذلك لما فيها من متعة تشد السامع ، والمعلقات كذلك إذِ استفتحها أصحابها بالنسيب ، ولكن لم تبرز هذه الصورة للمرأة عند كل الشعراء ،بل إنّها تلوّنت أحيانا بألوان الخفر والحياء ، ومن هؤلاء الشعراء الشنفرى الأزدي ،وهو من الصعاليك في العصر الجاهلي ،وقد كان الشنفرى كثير الغزوات ، يقطع المفازات والفلوات، وفي أبياته الجميلة بقصيدته التائية يبيّن الأخلاق العربية الكريمة التي تتحلى بها زوجه أميمة ، فيقول الشنفرى فيها :
لقد أعجبتني لا سقوطا ً قناعُهـا
إذا ما مشتْ ولا بـذات ِ تلَفُّـتِ
تبيتُ بُعيدَ النوم ِ تُهدي غَبُوقَهـا
لِجارتِهـا إذا الهديـة ُ قَـلَّـت ِ
تَحُلّ ُ بمنجاة ٍ منَ اللـوم ِ بيتَهـا
إذا ما بُيوت ٌ بالمذمَّـة ِ حُلَّـت
ِ
كأنّ َلها في الأرض ِ نِسْياً تَقصُّهُ
على أَمِّها وإنْ تُكَلِّمْـكَ تَبْلَـت ِ
أميمة ُ لا يُخزي نثاهـا حَليلَهـا
إذا ذُكِرَ النِّسْوانُ عَفَّتْ وجَلَّت ِ
إذا هو أمسى آبَ قُـرَّةَ عينِـه
ِمآبَ السعيد ِ لم يَسَلْ أينَ ظَلَّـتِ
فَدقّتْ وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأ ُكْمِلَتْ
فلَو جُنّ َإنسانٌ مِنَ الحُسْن ِ جُنَّتِ
فبِِتْنا كأنَّ البيـتَ حُجِّـرَ فوقَنـا
بِرَيْحَانة ٍ رِيحتْ عِشاءً وطُلَّـتِ
بريحانة ٍ مِن بَطن ِ حَلْية َ نَوَّرَت
لها أرَج ٌ ما حولَها غيرُ مُسْنِت ِ
*******************************************
شرح الأبيات :
1-لقد أعجبتني لا سقوطا ً قِناعُها
إذا ما مشتْ ولا بذات ِ تلفُّتِ
يقول : لا تسرع المشي فيسقط قناعها، ولا تكثر التّلفّت ، فإنّه من فعل أهل الريبة ،أي :ليست هي كذلك.
*******************
2-تبيتُ بُعيدَ النوم ِ تُهدي غَبُوقَها
لِجارتِهـا إذا الهديـة ُ قَلَّـت
قوله:تبيت بعيد النوم يقال :بات يفعل كذا وكذا ، إذا فعله ليلا ،وظلّ يفعل كذا وكذا،إذا فعله نهارا.
وقوله :تهدي غبوقها لجارتها .جاء في القاموس المحيط الغبوق:ما يُشرب بالعشي . يريد أنها تؤثر بزادها لكرمها . وقوله :إذا الهدية قلت :أي في الجدب وبرد الشتاء وصعوبته، حيث تنفذ الأزواد،وتذهب الألبان .
3-تَحُلّ ُ بمنجاة ٍ منَ اللوم ِ بيتَها
إذا ما بيوت ٌ بالمذمَّة ِ حُلَّت
ِ
في رواية التبريزي والمنتهى :تـُحِلُّ بمنجاة ، المنجاة : المفعلة من النجوة وهي الارتفاع .فبيتها باليفاع لا تناله أصابع الريبة .
4-كأنّ َلها في الأرض ِ نِسْياً تَقصُّهُ *******على أَمِّهـا وإنْ تُكَلِّمْـكَ تَبْلَـت.
ِ
كأنّ لها في الأرض نسيا ، النسي : الفقد أي شيء أضاعه إنسان .
على أَمِّها : بفتح الهمزة أي على قصدها .
وإن تكلمك تبلت ،
تبلت :تنقطع في كلامها لا تطيله ،والبـِلِّيت الذي إذا تكلم بكلام فصل به وأوجز ،أي إنّها لا تطيل الكلام في الطريق .
والمعنى : أنّها إذا مشت عيناها تنظران إلى الأرض كأنها قد أضاعت شيئا على الأرض وتريد أن تجده ،فعيناها لا تتركان النظر إلى الأرض لشدة حرصها ، وإذا تكلمت لا تطيل الكلام .
حقا إنه بيت جميل ، وتصوير رائع للحياء ، وهذا ما نراه في مشية كثير من الأخوات المسلمات الحافظات ،كأنهن أضعن شيئا في الأرض .
****************
5-أميمة ُ لا يُخزي نثاها حَليلَهـا
إذا ذ ُكِرَ النِّسوانُ عَفَّتْ وجَلَّت
قوله : أميمة لا يخزي نثاها حليلها ، والنثا : الحديث عن الشخص بالخير أوالشر ، وأراد الشر هنا ،يريد الشاعر :أنه لا يخزيه الحديث عنها إذا ذ ُكرت ،وذلك لخفرها وعفتها .
6-إذا هو أمسى آبَ قُرَّةَ عينِـه******** ِمآبَ السعيد ِ لم يَسَلْ أينَ ظلَّتِ
أي إنّه إذا عاد إلى بيته عاد مسرورا لثقته من طهرها .
قال الأصمعي : هذهِ الأبياتُ أحسنُ ما قيلَ في خفر ِ النساء ِ وعفتهنَّ .
7-فَدقّتْ وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأ ُكْمِلَتْ *****فلَو جُنّ َإنسانٌ مِنَ الحُسْن ِ جُنَّتِ
دقت : أي دقت محاسنها ورقت ، والمعنى : دقت في حسنها ،وجلت في خَلقها ، واسبكرت: طالت وامتدت.
فالشنفرى هنا يتحدث عن محاسنها الخَلقية بعد أن تكلم عن محاسنها الخُلقية.
فبِتْنا كأنَّ البيتَ حُجِّرَ فوقَنـا*******بِرَيْحَانة ٍ رِيحتْ عِشاءً وطُلَّتِ
قوله :بِرَيْحَانة ٍ رِيحتْ عِشاءً وطـُلَّتِ :
رِيحت :أصابتها ريح فجاءت بطيب نسيمها ،وطـُلَّت : أصابها الطلّ ُ وهو الندى ، وإنما قال عِِشاءً لأنه أبرد للريح عند مغيب الشمس .
فالشنفرى يشبه زوجه أميمة بريحانة أصابها الندى ، و الريح تمر وتحمل منها نسيم الشذا .
بريحانة ٍ مِن بَطن ِ حَلْية َ نَوَّرَتْ *******لها أرَج ٌ ما حولَها غيرُ مُسْنِت ِ
بطن حلية : موضع ، وبطن حلية : في حَزْن ٍ ،ونبت الحَزْن أطيب من غيره ريحا ،والحَزْنُ :ما غلُظ من الأرض .
ونوّرت : خرج نـَوْرُها :جاء في القاموس المحيط :والنَّوْرُ والنَّوْرَةُ وكرمَّان: الزَّهْرُ،أو الأبيضُ منه ، وأما الأصفر ،فزهر .
وقوله: لها أرَجٌ ما حولَها غيرُ مسنت : جاء في القاموس المحيط
الأرَجُ : محركة ،والأريج والأريجة : توهج ريح الطيب، والمُسْنِت : المُجْدِب .
يقول عن زوجته :إنها كريحانة بدا نـَوْرُها المتألق الجميل منظرُه ، وريحها قد توهج وانتشر في بيتِها ،وما حولها غير مسنت ، فأحبـِبْ بذلك !
منقول - بتصرّف -