رد: ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ
14-03-2017, 11:30 AM
ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ
(2 - 2)

عرضنا في الجزء الأول من المقال لطَبيعَةِ المرحلَةِ التي نَشأَ فيها الإمام العلامة: ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَه الله- ؛ وكيف أنَّه رَغمَ الظُّروفِ الصَّعبَةِ خَرجَت شَخصيَّات علميةٌ وفكريةٌ أَثرَت السَّاحَةَ الإسلامِيَّةَ بمؤُلفَاتِها المختَلِفَةِ، وآرَائِها وأَفكَارِها، فكانت شَخصَياتٌ مُوسُوعيةٌ، هَضَمَت عُلومَ الشَّريعَةِ وعُلومَ الطَّبيعَةِ وغيرها، ومن ثمَّ: نجد أنَّ الإمام العلامة ابن القيم –كشيخه ابن تيمية- رحمهما الله: عَكَسَ بمؤَلفَاتِه طَبيعَةَ الجَبهَات المختلفة التي يعمل عليها العَالمُ في ذلك الزَّمانِ، فهو تَارَةً: في مواجهَةٍ فِكريَةٍ مع أَهلِ الإلحَادِ: (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، وتَارةً: في مُواجهَةٍ مع أَهلِ الكتَابِ:(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)، وتَارةً: في مُواجَهةٍ مع أَهل البِدعِ:(شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، وتَارَةً: في مُواجهةٍ مع أَهلِ السِّياسَاتِ الظَّالمةِ:(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، وتَارةً: في مُواجهَةٍ مع أَهلِ الشَّهواتِ:(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وتارةً: في مواجهةٍ مع أَهلِ الجُمودِ والتَّقلِيدِ:(إعلام الموقعين عن رب العالمين).
وهو فيما يَكتُب يجمعُ بين:( رُوحِ الفقيه، وعَقلِيةِ المفَكِّرِ، وبَصِيرةِ النَّاقِدِ، وحَنَانِ المربِّي، وصِدقِ النَّاصحِ، ووِعي السِّياسي، وبَلاغَةِ الأَديبِ، وخِبرةِ المجرِّب، ومُوسوعيةُ المثقف)، وهنا نَعرِضُ للنَّص الثَّاني المختار له، والذي يُظهِرُ فيه:" اطِّلاعَه في عُلومِ الفلك".

النَّصُ الثاني: ابن القَيِّمِ فَلَكيًّا.
يقول رحمه الله: "فَتَأمَّل خَلقَ السَّمَاءِ، وارجِع البَصَرَ فِيهَا كَرَّةً بعد كَرَّةٍ، كيف تَرَاها مِن أعظَمِ الآيًاتِ في عُلُوها وارتِفَاعِها وسِعَتِها وقَرَارِها، بِحَيثُ لا تَصعَدُ عُلُوًا كالنَّارِ، ولا تَهبِطُ نَازِلَةً كالأجسَامِ الثَّقِيلَةِ، ولا عُمُدَ تَحتَها ولا عَلَاقَةَ فَوقَها، بل هي ممسُوكَةٌ بقُدرَةِ الله الَّذِي يُمسِكُ السَّمَاواتِ والأَرضَ أن تَزُولَا، ثمَّ تَأمَّل استوَاءَها واعتِدَالَها، فلا صَدعٌ فيها ولا فَطرٌ ولا شَقٌّ ولا أَمَتٌ ولا عِوَجٌ، ثمَّ تَأمَّل مَا وُضِعَت عليه مِن هذا اللَّونِ الَّذِي هو أحسَنُ الألوَانِ وأَشدُّها مُوَافَقَةً لِلبَصَرِ، وتَقوِيَةً له، حَتَّى إنَّ مَن أصَابَه شَيءٌ أَضرَّ ببَصَرِه يُؤمَرُ بإدمَانِ النَّظَرِ إلى الخُضرَةِ ومَا قَرُبَ مِنها إلى السَّوَادِ، وقال الأَطبَّاءُ: إنَّ مَن كَلَّ بَصَرُه فإِنَّ مِن دَوَائِه أن يُدِيمَ الِاطِّلَاعَ إلى أجَانَةٍ خَضرَاءَ مملُؤَةٍ مَاءً، فَتَأمَّل كَيفَ جَعَلَ أَدِيمَ السَّمَاءِ بِهذا اللَّونِ ليُمسِكَ الأبصَارَ المتَقَلِّبَةَ فِيهِ، ولا ينكَأُ فيها بُطُولِ مُبَاشَرتِها له، هذا بَعضُ فَوَائِدِ هذا اللَّونِ والحِكمَةُ فِيهِ أضعَافَ ذلك.
ثمَّ تَأمَّل حَالَ الشَّمسِ والقَمَرِ في طُلُوعِهما وغُرُوبِهما، لإقَامَةِ دَولَتِي اللَّيلِ والنَّهَارِ، ولَولَا طُلُوعُهما لبَطُلَ أَمرُ العَالَمِ. وكيف كان النَّاسُ يَسعُون في مَعَائِشِهم، ويَتَصرَّفُون في أُمُورِهم، والدُّنيَا مُظلِمَةٌ عليهم، وكيف كانوا يَتَهنُّون بالعَيشِ مع فقَدِ النُّورِ، ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في غُرُوبِهما، فإِنَّه لولا غُرُوبُهما: لم يَكُن للنَّاسِ هُدُوءٌ ولا قَرَارٌ مع فَرطِ الحَاجَةِ إلى السُّبَاتِ وجُمُومِ الحَوَاسِ، وانبِعَاثِ القُوى البَاطِنَةِ وظُهُورِ سُلطَانِها في النَّومِ المـُعِينِ على هَضمِ الطَّعَامِ، وتَنفِيذِ الغِذَاءِ إلى الأعضَاءِ، ثمَّ لولا الغُرُوبُ لكانت الأَرضُ تَحمِي بدَوَامِ شُرُوقِ الشَّمسِ واتِّصَالِ طُلُوعُها، حتَّى يَحتَرِقَ كُلُّ ما عليها مِن حَيَوَانٍ ونَبَاتٍ، فصَارَت تَطلُعُ وَقتًا، بِمَنزِلَةِ السِّرَاجِ يُرفَعُ لأهَلِ البَيتِ: ليَقضُوا حَوَائِجَهم، ثمَّ تَغِيبُ عنهم مِثلَ ذلك، ليَقرُّوا ويَهدَؤُوا، وصَارَ ضِيَاءُ النَّهَارِ مع ظَلَامِ اللَّيلِ، وحَرُّ هذا مع بَردِ هذا، مع تَضَّادِهما مُتَعَاوِنين مُتظَاهِرَين، بهما تَمَامُ مَصَالحِ العَالَمِ، وقد أشَارَ تعالى إلى هذا الـمَعنَى، ونبَّهَ عِبَادَه عليه، بقَولِه عَزَّ وجَلَّ: ((قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عليكُم اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُون * قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عليكم النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بلَيلٍ تَسكُنُون فِيهِ أَفَلا تُبصِرُون))، فخَصَّ سُبحَانَهُ النَّهَارَ بذِكرِ البَصَرِ لأنَّه مَحَلَه، وفيه سُلطَانُ البَصَرِ وتَصَرُّفَه، وخَصَّ اللَّيلَ بذِكرِ السَّمعِ، لأنَّ سُلطَانَ السَّمعِ يكون باللَّيلِ، وتُسمَعُ فيه الحَيَوَانَات مَالَا تُسمَعُ فِي النَّهَارِ، لأنَّه وَقتُ هُدُوءِ الأَصوَاتِ وخُمُودِ الحرَكَاتِ، وقُوَّةُ سُلطَانِ السَّمعِ وضَعفُ سُلطَانِ البَصَرِ، والنَّهَارُ بالعَكسِ، فيه قُوَّةُ سُلطَانِ البَصَرِ وضَعفُ سُلطَانِ السَّمعِ، فَقَولُه:((أفَلا تَسمَعُونَ)) رَاجِعٌ إِلى قَولِه:((قُل أَرَأَيتُم إن جَعَلَ اللهُ عليكُم اللَّيلَ سَرمَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بضِيَاءٍ))، وقَولُه:((أفَلا تُبصِرُون)) رَاجِعٌ إلى قَولِه:((قُل أَرَأَيتُم إن جَعَلَ اللهُ عليكُم النَّهَارَ سَرمَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بلَيلٍ تَسكُنُون فِيهِ)).
وقال تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَاءِ بُرُوجًا وجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وقَمَرًا مُنِيرًا وهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ والنَّهَارَ خِلفَةً لمـَن أَرَادَ أن يَذَّكَّرَ أو أَرَادَ شُكُورًا))، فذَكَرَ تعالى خَلقُ اللَّيلِ والنَّهَارِ، وأنَّهما خِلفَةٌ أَي يَخلُفُ أَحَدُهما الآخَرُ، لا يجتَمِعُ معه، ولو اجتَمَعَ معه لفَاتَت المصلَحَةُ بتَعَاقُبِهما واختِلَافِهما. وهذا هو الـمُرَادُ باختِلَافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ، كَونُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهما يَخلُفُ الآخَرَ، لا يُجَامِعَه ولا يُحَاذِيه، بل يَغشَى أَحَدُهما صَاحِبَه فيَطلُبَه حَثِيثًا، حتَّى يُزِيلَهُ عن سُلطَانِه، ثمَّ يَجِيءُ الآخَرُ عَقِيبَه فيَطلُبَه حَثِيثًا حتَّى يَهزِمَه ويُزِيلَه عن سُلطَانِه، فهما دَائِمًا يتَطَالبَانِ، ولا يُدرِكُ أَحَدُهما صَاحِبَه.
ثمَّ تَأمَّل بعد ذلك أحوَالَ هذه الشَّمسِ في انخِفَاضِها وارتِفَاعِها، لإقَامَةِ هذه الأَزمِنَةِ والفُصُولِ، ومَا فيها مِن المـَصَالحِ والحِكَمِ، إِذ لو كان الزَّمَانُ كُلُّه فَصلًا وَاحِدًا: لفَاتَت مَصَالِحُ الفُصُولِ البَاقِيَةِ فِيهِ، فلو كان صِيفًا كُلُّه: لفَاتَت مَنَافِعُ ومَصَالحُ الشِّتَاءِ، ولو كان شِتَاءً كُلُّه: لفَاتَت مَصَالحُ الصَّيفِ، وكذلِك لو كان رَبِيعًا كُلُّه أو خَرِيفًا كُلُّه.
ففِي الشِّتَاءِ تَغُورُ الحَرَارَةُ في الأجوَافِ وبُطُونِ الأَرضِ والجِبَالِ، فتَتَولَّدُ مُوادُ الثِّمَارِ وغَيرِها، وتَبرُدُ الظَّوَاهِرُ ويَتَكَثَّفُ فيه الهَوَاءُ، فيَحصُلُ السَّحَابُ والمـَطَرُ والثَّلجُ والبَرَدُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الأَرضِ وأَهلِها، واشتِدَادُ أَبدَانِ الحَيَوَانِ وقُوَّتِها، وتَزَايُدُ القُوَى الطَّبيعِيَّةِ واستِخلَافُ مَا حَلَلَّتُه حَرَارَةُ الصَّيفِ مِن الأَبدَانِ، وفي الرَّبيعِ تَتَحرَّكُ الطَبَائِعُ وتَظهَرُ المـَوَادُ المتَولِّدَةِ فِي الشِّتَاءِ، فيَظهَرُ النَّبَاتُ ويتَنَوَّرُ الشَّجَرُ بالزَّهرِ، ويَتَحرَّكُ الحَيَوَانُ للتَنَاسُلِ، وفِي الصَّيفِ يَحتَدُّ الهَوَاءُ ويَسخُنُ جِدًا، فتَنضُجُ الثِّمَارُ وتَنحَلُّ فَضَلاتُ الأَبدَانِ والأَخلَاطِ الَّتي انعَقَدَت في الشِّتَاءِ، وتَغُورُ البُرُودَةُ وتَهرُبُ إلى الأَجوَافِ، ولِهذا تَبرُدُ العُيُونُ والآبَارُ، ولا تَهضِمُ الـمَعِدَةُ الطَّعَامَ الَّذي كانت تَهضِمَه في الشِّتَاءِ مِن الأَطعِمَةِ الغَلِيظَةِ، لأنَّها كانت تَهضِمُها بالحَرَارَةِ الَّتي سَكَنَت في البُطُونِ، فلمَّا جَاءَ الصَّيفُ خَرَجَت الحَرَارَةُ إلى ظَاهِرِ الجَسَدِ، وغَارَت البُرُودَةُ فيه، فإِذَا جَاءَ الخَرِيفُ اعتَدَلَ الزَّمَانُ، وَصَفَا الهَوَاءُ وبَرُدَ، فانكَسَرَ ذلك السَّمُومُ؛ وجَعَلَه اللهُ بحِكمَتِهِ بَرزَخًا بين سَمُومِ الصَّيفِ وبَردِ الشِّتَاءِ: لِئَلَّا يَنتَقِلَ الحَيَوَانُ وَهلَةً وَاحِدَةً مِن الحرِّ الشَّدِيدِ إلى البَردِ الشَّدِيدِ، فيَجِدَ أذَاه ويَعظُمَ ضَرَرُه، فإِذا انتَقَلَ إليه بتَدرِيجٍ وتَرتِيبٍ لم يَصعُب عليه، فإِنَّه عند كُلِّ جُزءٍ يَستَعِدُّ لقَبُولِ ما هو أّشَدُّ مِنه حتَّى تَأتي جَمرَةُ البَردِ بعد استِعدَادٍ وقَبُولٍ:" حِكمَةٌ بَالِغَةٌ وآيَةٌ بَاهِرَةٌ"، وكذلك الرَّبِيعُ بَرزَخٌ بين الشِّتَاءِ والصَّيفِ، يَنتَقِل فيه الحَيَوَانُ مِن بَردِ هذا إلى حَرِّ هذا، بتَدرِيجٍ وتَرتِيبٍ. فتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمين وأَحسَنُ الخَالِقِين.
ثمَّ تَأمَّل حَالَ الشَّمسِ والقَمَرِ ومَا أُودِعَاه مِن النُّورِ والإضَاءَةِ، وكيف جَعَلَ لهما بُرُوجًا ومَنَازِلَ يَنزِلانِها مَرحَلَةً بعد مَرحَلَةٍ، لإقَامَةِ دَولَةِ السَّنَةِ، وتَمَامِ مَصَالحِ حِسَابِ العَالَمِ الَّذي لا غِنَاءَ لهم في مَصَالحِهم عنه، فبِذلك يُعلَمُ حِسَابُ الأعمَارِ والآجَالِ المؤجَّلَةِ للدِّيُونِ والإجَارَاتِ والمعَامَلاتِ والعِدَدِ وغيرِ ذلك، فلولا حُلُولُ الشَّمسِ والقَمَرِ في تلك الـمنَازَلِ وتَنقُّلِهما فيها مَنزِلَةً بعد مَنزِلَةٍ: لم يُعلَم شَيءٌ مِن ذلك، وقد نبَّه تعالى على هذا في غَيرِ مَوضِعٍ مِن كِتَابِه، كقَولِه: ((هو الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً والقَمَرَ نُورًا وقدَّرَه مَنَازِلَ لتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسَابِ مَا خَلَقَ اللهُ ذلك إلَّا بالحَقِّ يُفصِّلُ الآيَاتِ لقَومٍ يَعلَمُونَ))؛ وقال تعالى: ((وجَعَلنَا اللَّيلَ والنَّهَارَ آيَتَينِ فمَحَونَا آيَةَ اللَّيلِ وجَعَلنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبصِرَةً لتَبتَغُوا فَضلًا مِن رَبِّكم ولتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ والحِسَابِ)).
ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في طُلُوعِ الشَّمسِ على العَالمِ كَيفَ قَدَّرَه العَزِيزُ العَلِيمُ سُبحَانَه، فإِنَّها لو كانت تَطلُعُ في مَوضِعٍ مِن السَّمَاءِ، فتَقِفُ فِيهِ ولَا تَعدُوه: لمـَا وَصَلَ شُعَاعَها إلى كَثِيرٍ مِن الجِهَاتِ، لأنَّ ظِلَّ أَحدُ جَوَانِب كُرَةِ الأَرضِ[1] يحجِبُها عن الجَانِبِ الآخَرِ، وكان يَكُون اللَّيلُ دَائِمًا سَرمَدًا على مَن لم تَطلِع عليهم، والنَّهَارَ سَرمَدًا على مِن هي طَالِعَةٌ عليهم، فيَفسُدُ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ، فاقتَضَت الحِكمَةُ الإلَهيَّةُ والعِنَايَةُ الرَّبَّانِيَّةُ: أن قَدرَ طُلُوعِها مِن أَوَّلِ النَّهَارِ مِن المشرِقِ، فتُشرِقُ على ما قَابَلَها مِن الأُفُقِ الغَربيِّ، ثمَّ لا تَزَالُ تَدُورُ وتَغشَى جِهَةً بعد جِهَةٍ، حتَّى تَنتَهِيَ إلى الغَربِ، فتُشرِقُ على مَا استَتَرَ عنها في أوَّلِ النَّهَارِ، فيَختِلِفُ عندهم اللَّيلُ والنَّهَارُ، فتَنتَظِمُ مَصَالحُهم.
ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في مَقَادِيرِ اللَّيلِ والنَّهَارِ تَجِدُها على غَايَةِ المصلَحَةِ والحِكمَةِ، وأن مِقدَارَ اليَومِ واللَّيلَةِ لو زَادَ على مَا قُدِّرَ عليه أو نَقَصَ: لفَاتَت المصلَحَةُ واختَلَفَت الحِكمَةُ بذلك، بل جَعَلَ مِكيَالَها أربَعَةً وعِشرِين سَاعَةً، وجُعِلا يتَقَارَضَان الزِّيَادَةَ والنُّقْصَانَ بَينَهما، فما يَزِيدُ في أَحَدِهما مِن الآخَرِ يَعودُ الآخَرُ فيَستَرِدَّه مِنه، قال الله تعالى: ((يُولجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارِ في اللَّيلِ))، وفِيه قَولَان، أَحَدُهما: أنَّ الـمَعنى يُدخِلُ ظُلمَةَ هذا في مَكَانِ ضِيَاءِ ذلك، وضَياءَ هذا في مَكَانِ ظُلمَةِ الآخَرِ، فيُدخِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنهما في مَوضِعِ صَاحِبِه، وعلى هذا فهي عَامَّةٌ في كُلِّ لَيلٍ ونَهَارٍ.
والقَولُ الثَّانِي: أنَّه يَزِيدُ في أحَدِهما مَا يُنقِصُهُ مِن الأخَرِ، فمَا يَنقُصُ مِنه يَلِجُ في الآخَرِ لا يَذهَبُ جُملَةً، وعلى هذا، فالآيَةُ خَاصَّةٌ ببَعضِ سَاعَاتِ كُلٍّ مِن اللَّيلِ والنَّهَارِ في غَيرِ زَمَنِ الاعتِدَالِ، فهي خَاصَّةٌ في الزَّمَانِ وفي مِقدَارِ ما يَلِجُ فِي أحَدِهما مِن الآخَرِ، وهو فِي الأَقَالِيمِ المعتَدِلَةِ: غَايَةَ ما تَنتَهِي الزِّيَادَةُ خَمسَ عَشرَةَ سَاعَةً، فيَصِيرُ الآخَرُ تِسعَ سَاعَاتٍ، فإِذَا زَادَ على ذلك انحَرَفَ ذلك الإقلِيمُ في الحَرَارَةِ أو البُرُودَةِ، إلى أن يَنتَهِي إلى حَدٍّ لا يَسكُنُه الإنسَانُ ولا يتَكوَّنُ فيه النَّبَاتُ[2]، وكُلُّ مَوضِعٍ لا تَقَعُ عليه الشَّمسُ: لا يَعِيشُ فيه حيَوَانٌ ولا نَبَاتٌ، لفَرطِ بَردِه ويُبسِه، وكُلُّ مَوضِعٍ لا تُفَارِقُه كذلك: لفَرَطِ حَرِّه ويُبسِه، والموَاضِع الَّتي يَعِيُش فيها الحَيَوَانُ والنَّبَاتُ هي الَّتي تَطلُعُ عليها الشَّمسُ وتَغِيبُ، وأَعدَلُها الـمَوَاضِعُ الَّتي تتَعَاقَبُ عليها الفُصُولُ الأربَعَةُ، ويكون فيها اعتِدَالَان: خَرِيفَانِ ورَبِيعَان.
ثمَّ تَأمَّل إنَارَةَ القَمَرِ والكَوَاكِب فِي ظُلمَةِ اللَّيلِ والحِكمَةِ في ذلك، فَإِنَّ اللهَ تعالى اقتَضَت حِكمَتُه خَلقَ الظُّلمَةِ لهُدُوِ الحَيَوَانِ وبَردِ الهَوَاءِ على الأبدَانِ والنَّبَاتِ، فتُعَادِلُ حَرَارَةَ الشَّمسِ، فيَقُومُ النَّبَاتُ والحَيَوَان، فلمَّا كان ذلك مُقتَضَى حِكمَتِه: شَابَ اللَّيلَ بِشَيءٍ مِن الأَنوَارِ، ولم يَجعَله ظُلمَةً دَاجِيَةً حندسًا لا ضَوءَ فيه أَصلًا، فكان لا يتَمَكَّنُ الحَيَوَانُ فيه مِن شَيءٍ مِن الحَرَكَةِ ولا الأعمَالِ، ولمـَّا كان الحَيَوَانُ قد يحتَاجُ في اللَّيلِ إلى حَرَكَةٍ ومَسِيرٍ وعَمَلٍ لا يَتَهيَّأُ له بالنَّهَارِ، لضِيقِ النَّهَارِ أو لشِدَّةِ الحَرِّ أو لخَوفِه بالنَّهَارِ، كَحَالِ كَثِيرٍ مِن الحَيَوَانِ، جَعَلَ في اللَّيلِ مِن أضوَاءِ الكَوَاكِبِ وَضَوءِ القَمَرِ مَا يَتَأَتَّى معه أَعمَالٌ كَثِيرَةٌ، كالسَّفَرِ والحَرثِ وغَيرِ ذلك مِن أَعمَالِ أَهلِ الحُرُوثِ والزُّرُوعِ، فجَعَل ضَوءَ القَمَرِ باللَّيلِ مَعُونَةً للحَيَوانِ على هذه الحَرَكَاتِ، وجَعَلَ طُلُوعَه في بَعضِ اللَّيلِ دُونَ بَعضٍ، مع نَقصِ ضَوئِه عن الشَّمسِ، لِئَلَّا يَستَوي اللَّيلُ والنَّهَارُ، فتَفُوتُ حِكمَةُ الِاختِلَافِ بينهما والتَّفَاوُتُ الَّذي قَدَّرَه العَزِيزُ العَلِيمُ. فتَأمَّل الحِكمَةَ البَالِغَةَ والتَّقدِيرَ العَجِيبَ الَّذي اقتَضَى أن أَعَانَ الحَيَوَانَ على دَولَةِ الظَّلامِ بجُندٍ مِن النُّورِ يَستَعِينُ به على هذه الدَّولَةِ المـُظلِمَةِ، ولم يَجعَل الدَّولَةَ كُلَّهَا ظُلمَةً صِرفًا، بل ظُلمَةً مَشُوبَةً بنُورٍ، رَحمَةً مِنهُ وإحسَانًا. فسُبحَان مَن أتقَنَ ما صَنَعَ وأَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه!.
ثمَّ تَأمَّل حِكمَتَه تَبَارَكَ وتَعَالَى في هذه النُّجُومِ وكَثرَتها، وعَجِيبِ خَلقِهَا، وأنَّها زِينَةٌ للسَّمَاءِ وأَدِلَّةٌ يُهتَدَى بها في طُرُقِ البَرِّ والبَحرِ، ومَا جَعَلَ فيها مِن الضَّوءِ والنُّورِ، بِحَيثُ يُمكِنُنَا رُؤيَتُها مع البُعدِ المـُفرِطِ، ولَولَا ذلك لم يحصُل لنَا الاهتِدَاءُ والدَّلَالَةُ، ومَعرِفَةِ الـمَوَاقِيتِ، ثمَّ تَأمَّل تَسخِيرَها مُنقَادَةً بأَمرِ رَبِّها تَبَارَكَ وتَعَالَى جَارِيَةً على سَنَنٍ وَاحِدٍ، اقتَضَت حِكمَتُه وعِلمُه أن لا تَخرُجَ عنه، فجَعَلَ مِنها البُرُوجَ والمنَازِلَ والثَّوَابِتَ والسِّيَّارَةَ والكِبَارَ والصِّغَارَ والمـُتَوسِّطَ والأَبيَضَ الأَزهَرَ والأَبيَضَ الأَحمَرَ، ومِنها ما يَخفَى على النَّاظِرِ فلا يُدرِكُهُ، وجَعَلَ مَنطِقَةَ البُرُوجِ قِسمَينِ: مُرتَفِعَةً ومُنخَفِضَةً، وقَدَّرَ سَيرَها تَقدِيرًا وَاحِدًا، ونَزَّلَ الشَّمسَ والقَمَرَ والسَّيَارَاتِ مِنها مَنَازِلَها، فمِنها ما يَقطَعُها في شَهرٍ وَاحِدٍ وهو القَمَرُـ ومِنها ما يَقطَعُها في عامٍ، ومِنها ما يَقطَعُها في عِدَّةِ أعوَامٍ، كُلُّ ذلك مُوجِبُ الحِكمَةِ والعِنَايَةِ، وجَعَلَ ذلك أَسبَابَ لما يُحدِثُه سُبحَانَهُ في هذا العَالَمِ، فيَستَدِلُّ بها النَّاسُ على تلك الحَوَادِثِ الَّتي تُقَارِنُها، كمَعرِفَتِهم بِما يَكُونُ مع طُلُوعِ الثُّريَّا إِذا طَلَعَت، وغُرُوبِها إِذا سَقَطَت، مِن الحَوَادِثِ الَّتي تُقَارِنُها، وكذلك غَيرُها مِن المنَازِلِ والسَّيَّارَاتِ.
ثمَّ تَأمَّل جَعلَه سُبحَانَهُ بَنَاتَ نَعشٍ ومَا قَرُبَ مِنها ظَاهِرَةً لا تَغِيبُ لقُربِها مِن المركَزِ، ولما في ذلك مِن الحِكمَةِ الإلَهيَّةِ، وأنَّها بمَنزِلَةِ الأَعلَامِ الَّتي يَهتَدِي بها النَّاسُ في الطُّرُقِ المجهُولَةِ في البَرِّ والبَحرِ، فهم يَنظُرُون إليها وإِلى الجَديِّ والفَرقَدَينِ كُلَّ وَقتٍ أَرَادُوا، فيَهتَدُون بها حَيثُ شَاؤُوا.
ثمَّ تَأمَّل اختِلَافَ سَيرِ الكَوَاكِبِ، ومَا فيه مِن العَجَائِبِ، كيف تَجِدُ بَعضَها لا يَسِيرُ إِلَّا مع رِفقَتِه، لا يَفرِدُ عنهم سَيرَه أَبَدًا، بل لا يَسِيرُون إلَّا جَمِيعًا، وبَعضَها يَسيِرُ سَيرًا مُطلَقًا غَيرَ مُقَيَّدٍ برَفِيقٍ ولا صَاحِبٍ، بل إذَا اتَّفقَ له مُصَاحَبَتَه في مَنزِلٍ وَافَقَه فيه لَيلَةً وفَارَقَه اللَّيلَةَ الأُخرَى، فبَينَا ترَاهُ ورَفِيقَه وقَرِينَه إِذ رَأيتَهما مُفتَرِقَينِ مُتَبَاعِدَينِ، كأَنَّهما لم يَتَصَاحَبا قَطُّ، وهذه السَّيَّارَةُ لها في سَيرِها سَيرَانِ مُختَلِفَانِ غَايَةَ الاختِلَافِ، سَيرٌ عَامٌ يَسيِرُ بها فَلَكُها، وسَيرٌ خَاصٌ تَسِيرُ هي في فَلَكِها[3]، كما شَبَّهُوا ذلك بنَملَةٍ تَدُبُّ على رَحَى ذَاتِ الشِّمَالِ والرَّحَى تَأخُذُ ذَاتَ اليَمِينِ، فللِنَّملَةِ في ذلك حَرَكَتَان مُختَلِفَتَانِ، إلى جِهَتَينِ مُتَبَايِنَتَين، إحدَاهما بنَفسِها والأخرَى مُكرَهَةً عليها تَبعًا للرَّحَى تَجذِبُها إلى غَيرِ جِهَةِ مَقصِدِها، وبذلك يَجعَلُ التَّقدِيمَ فيها كُلَّ مَنزِلَةٍ إلى جِهَةِ الشَّرقِ، ثمَّ يَسيِرُ فَلكُها وبمَنزِلَتِها إلى جِهَةِ الغَربِ.
فسَل الزَّنَادِقَةَ والمعَطِّلَةَ أَيُّ طَبِيعَةٍ اقتَضَت هذا؟، وأَيُّ فَلَكٍ أَوجَبَه؟، وهلَّا كانت كُلُّها رَاتِبَةً أو مُنتَقِلَةً، أو على مِقدَارٍ وَاحِدٍ، وشَكلٍ وَاحِدٍ، وحَرَكَةٍ وَاحِدَةِ، وجَرَيَانٍ وَاحِدٍ؟، وهل هذا إلَّا صُنعُ مَن بَهرَت العُقُولَ حِكمَتُه وشَهِدَت مَصنُوعَاتُه ومُبتَدَعَاتُه بأنَّه الخَالِقُ البَارِئُ المصَوِّرُ الَّذي ليس كمِثلِه شَيءٌ، أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه، وأَتقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَه، وأنَّه العَلِيمُ الحَكِيمُ الَّذي خَلَقَ فسَوَّى وقَدَّرَ فهَدَى، وأنَّ هذه إحدَى آيَاتِه الدَّالَّةِ عليه، وعَجَائِبَ مَصنُوعَاتِه الموصِلَةِ للأَفكَارِ إِذَا سَافَرَت فيها إليه، وأَنَّه خَلقٌ مُسخَّرٌ مَربُوبٌ مُدَبَّرٌ: ((إنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسخَّرَاتٍ بَأَمرِه ألَّا لَهُ الخَلقُ والأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رُبُّ العَالمين)).
فَإِن قُلتَ: فما الحِكمَةُ في كَونِ بَعضِ النُّجُومِ رَاتِبًا وبَعضِها مُنتَقِلًا؟، قِيلَ: إِنَّها لو كانت كُلُّهَا رَاتِبَةً: لبَطُلَت الدَّلَالَةُ والحِكمُ الَّتِي نَشَأَت مِن تَنقُّلِها فِي مَنَازِلها، ومَسِيرِها فِي بُرُوجِها، ولو كانت كُلُّهَا مُنتَقِلَةً لم يَكُن لمـَسِيرِها مَنَازِلُ تُعرَفُ بها ولا رَسمٍ يُقَاسُ عليها، لأنَّه إِنَّما يُقَاسُ مَسِيرُ المتَنَقِلَّةِ مِنها بالرَّاتِبِ، كما يُقَاسُ مَسِيرُ السَّائِرِين على الأَرضِ بالمنَازِلِ الَّتِي يَمُرُّون عليها، فلو كانت كُلُّهَا بِحَالٍ وَاحِدَةٍ لاختَلَطَ نِظَامُها، ولَبَطُلَت الِحكَمُ والفَوَائِدُ والدَّلالَاتُ الَّتِي في اختِلافِها، ولَتَشبَّثَ الـمُعَطِّلُ بذلك، وقال: لو كان فَاعِلُها ومُبدِعُها مُختَارًا لم تَكُن على وَجهٍ وَاحِدٍ وأَمرٍ وَاحِدٍ وقَدرٍ وَاحِدٍ!، فهذا التَّرتِيبُ والنِّظَامُ الَّذِي هي عليه مِن أَدَلِّ الدَّلَائِلِ على وُجُودِ الخَالِقِ وقُدرَتِه وإرَادَتِه وعِلمِه وحِكمَتِه ووَحدَانِيَّتِه.
ثمَّ تَأمَّل هذا الفُلكَ الدُّوارِ بشَمسِه وقَمَرِه ونُجُومِه وبُرُوجِه، وكيف يَدُورُ على هذا العَالَمِ هذا الدَّورَانِ الدَّائِمِ إلى آخِرِ الأَجلِ على هذا التَّرتِيبِ والنِّظَامِ، ومَا في طَيِّ ذلك مِن اختِلَافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ والفُصُولِ، والحَرِّ والبَردِ، ومَا في ضِمنِ ذلك مِن مَصَالحَ مَا على الأَرضِ مِن أَصنَافِ الحَيَوَانِ والنَّبَاتِ، وهَل يَخفَى على ذِي بَصِيرَةٍ: أنَّ هذا إِبدَاعُ الـمُبدِعِ الحَكِيمِ وتَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ؟، ولهذا خَاطَبَ الرُّسُلُ أُممَّهم مُخَاطَبَةَ مَن لا شكَّ عِندَه في اللهِ، وإِنَّما دَعُوهم إلى عِبَادَتِه وَحدَه لا إلى الإقرَارِ به، فقالت لهم:[ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ]، فوُجُودُه سُبحَانَهُ ورُبُوبيَّتُه وقُدرَتُه: أَظهَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ على الإطلَاقِ، فهو أَظهَرُ للبَصَائِرِ مِن الشَّمسِ للأَبصَارِ، وأَبيَنُ للعُقُولِ مِن كُلِّ مَا تَعقِلُه وتُقِرُّ بوُجُودِه، فمَا يُنكِرُه إلَّا مُكَابِرٌ بلِسَانِهِ، وقَلبُه وعَقلُه وفِطرَتُه كُلُّهَا تُكَذِّبُه".

وذهب رَحِمَه اللهُ تعالى يَستَشهِدُ بالآيَاتِ القُرآنِيَّةِ الكَريمَةِ، بما يَتَلاءمُ مع حَدِيثَه السَّابِقِ، وهي: آيَاتٌ دَاعِيةٌ للتَّفكُّرِ والتَّعقُّلِ والتَّذكُّر، مُشِيراً إلى أنَّ النَّاظِرَ لا يَنتَفِعُ بمُجَرَّدِ رُؤيَةِ العَينِ حتَّى يَنتَقِلَ مِنهُ إلى نَظَرِ القَلبِ فِي حِكمَةِ ذلك، وبَدِيعِ صُنعِه، والاستِدلَالِ به على خَالِقِه وبَارِيه، وأنَّ ذلك هو الفِكرُ بِعَينِه، فإذَا استَدَلَّ بهذه الآيَاتِ وأعطَاها حَقَّها مِن الدَّلَالَةِ: استَحقَّ مِن الوَصفِ مَا يَستَحِقُّهُ صَاحِبُ الفِكرِ، أَلَا وهو: العَقلُ، لأَنَّ مَنزِلَةَ العَقلِ بعد مَنزِلَةِ الفِكرِ، فالعَقلُ فَوقَ الفِكرِ، وغَايَةُ ذلك ومُنتَهَاه: التَّذكُّرُ، فإنَّه:" إذا تَفكَّرَ تَعقَّلَ، وإذا تَعقَّلَ تَذكَّرَ"،ـ ثمَّ قال: "ولهذا وَسَّعنَا الكَلَامَ في التَّفكُّرِ في هذا الوَجهِ لعِظَمِ الـمَنفَعَةِ وَشِدَّةِ الحَاجَةِ إليه، قال الحَسنُ:" مَا زَالَ أَهلُ العِلمِ يَعُودُون بالتَّذكُّرِ على التَّفكُّرِ وبالتَّفكُّرِ على التَّذكُّرِ، ويُنَاطِقُون القُلُوبَ حتَّى تَنطِقَ، فإِذَا لها أَسمَاعٌ وأَبصَارٌ"، ثم يَشرَحُ مَفهُومَ التَّفكُّرِ فيقول: "فاعلم أنَّ التَّفكُّرَ طَلَبُ القَلبِ مَا ليس بحَاصِلٍ مِن العُلُومِ مِن أَمرٍ هو حَاصِلٌ مِنها، هذا حَقِيقَتُه، فإِنَّه لو لم يكن ثمَّ مُرَادٌ يكون مَورِدًا للفِكر استَحَالَ الفِكرُ، لأنَّ الفِكرَ بغَيرِ مُتَعَلَّقٍ مُتَفكَّرٍ فِيهِ مُحَالٌ، وتلك الموَادُ هي الأُمُورُ الحَاصِلَةُ، ولو كان الـمَطلُوبُ بها حَاصِلًا عِندَه لم يَتَفكَّر فِيهِ، فإِذا عُرِفَ هذا فالمـُتَفكِّرُ يَنتَقِلُ مِن الـمُقدِّمَاتِ والمبَادِي الَّتِي عنده إلى الـمَطلُوبِ الَّذِي يُرِيدُهُ، فإِذا ظَفَرَ بِهِ وتَحصَّلَ لَهُ تَذكَّرَ بِهِ وأَبصَرَ مَوَاقِعَ الفِعلِ والتَّركِ، ومَا يَنبَغِي إيثَارُه ومَا يَنبَغِي اجتِنَابُه، فالتَّذكُّرُ هو: مَقصُودُ التَّفكُّرِ وثَمرَتُه، فإِذا تَذكَّرَ عَادَ بتَذكُّرِه على تَفكُّرِه، فاستَخرَجَ ما لم يكن حَاصِلا عِندَه، فهو لا يَزَالُ يَكُرُّ بتَفكُّرِه على تَذكُّرِه وبتَذكُّرِه على تَفكُّرِه مَا دَامَ عَاقِلًا، لأنَّ العِلمَ والإرَادَةَ لا يَقِفَان على حَدٍّ، بل هو دَائِمًا سَائِرٌ بين العِلمِ والإرَادَةِ، وإِذا عَرفَت مَعنَى كَونِ آيَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى تَبصِرَةً وذِكرَى يُتَبَصَّرُ بها مِن عَمَى القَلبِ، ويُتَذكَّرُ بها مِن غَفلَتِه، فإنَّ المضَادَ للعِلمِ: إمَّا عَمَى القَلبِ وزَوَالُه بالتَّبصُّرِ، وإِمَّا غَفلَتُه وزَوَالُه بالتَّذكُّر، والمـَقصُودُ: تَنبِيه القَلبِ مِن رَقدَتِه، بالإشَارَةِ إلى شَيءٍ مِن بَعضِ آيَاتِ اللهِ، ولو ذَهَبنَا نَتَتَبَّعُ ذلك: لنَفذَ الزَّمَانُ ولم نُحِط بتَفصِيلِ وَاحِدَةٍ مِن آيَاتَه على التَّمَامِ، ولَكِن ما لا يُدرَكُ جُملَةً لا يُترَكُ جُملَةً.
وأَحسَنُ مَا أُنفِقَت فِيهِ الأَنفَاسُ: التَّفكُّرُ في آيَاتِ اللهِ وعَجَائِبِ صُنعِه والانتِقَالُ مِنها إلى تَعلُّقِ القَلبِ والهِمَّةِ بِهِ دُونَ شَيءٍ مِن مَخلُوقَاتِه، فلذلك عَقَدنَا هذا الكتَابِ على هَذَين الأَصلَين، إِذ هما أَفضَلُ مَا يَكتَسِبُه العَبدُ فِي هَذِه الدَّار".

رحِمَ الله شيخ الإسلام ابن القيم، وأَجزَل له الأجر والمثوبة، ونفعنا والمسلمين بعلمه وميراثه.

هوامش:
[1] شيخا الإسلام:( ابن القيم، وشيخه: ابن تيمية) رحمهما الله، مِن عُلمَاءِ السَّلفِ الذين لم يكونوا يجادِلون في مَسأَلةِ كَرَويَّةِ الأَرضِ!.
[2] انظر إلى إشارته للقطبين الشمالي والجنوبي، في زمنه، ووصفه لهما.
[3] يُشِيرُ بذلك إلى دوران هذه الأجرام حول نفسها، ودورانها حول شمس (نجم عملاق