إسلام عظيمين غيَّرا مسار الدعوة
16-02-2017, 06:50 AM




وصل المهاجرون المسلمون إلى أرض الحبشة -في هجرتهم الأولى إليها- لكنَّهم لم يَطُلْ مكثهم فيها، ولم يتسنَّ لهم أن يُقابلوا ملكها في هذه الزيارة! ذلك أنَّ حدثًا مهمًّا تزامن مع هجرة المسلمين أدَّى إلى تغييرٍ كبيرٍ في مجرى الأمور؛ ومِنْ ثَمَّ عاد المهاجرون إلى مكَّة مسرعين!

لقد كان التصوُّر عند المسلمين في مكَّة أنَّ الصورة ستزداد قتامة، وأنَّ الأحداث ستشتدُّ تعقيدًا، غير أنَّ الله عزَّ وجلَّ له تدبيره الذي لا نُدركه كبشرٍ قاصرين؛ فقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن ينقل المسلمين نقلةً نوعيَّةً إيجابيَّة، كان لها أكبر الأثر على مسيرة الدعوة؛ بل لقد غيَّرت من التفكير الاستراتيجي للمسلمين في هذه المرحلة، حتى نقلتهم إلى مرحلةٍ مغايرةٍ تمامًا!

والذي يخطر على أذهاننا عند قراءة مثل هذه السطور أنَّ هناك حدثًا مزلزلًا كبيرًا قد مرَّت به مكة؛ مثل إسلام قبيلةٍ من القبائل، أو حدوث آيةٍ عظيمةٍ مفاجئة، أو قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بحلفٍ سياسيٍّ كبيرٍ مع قبيلةٍ عزيزة، أو مثل ذلك من المواقف التي تُغيِّر مسار الجماعات والأمم؛ إلَّا أنَّ الواقع أنَّ كلًّا من ذلك لم يحدث، إنَّما الذي حدث هو إسلام رجلين فقط من المشركين!

لقد أَسْلَم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أوَّلًا، ثُمَّ بعده بثلاثة أيَّامٍ أَسْلَم عمر بن الخطاب رضي الله عنه! وجميلٌ أن تتغيَّر حياة الأمم بدخول فردٍ أو فردين فيها، وإنَّها النعمة الكبرى التي يمنُّ الله بها على بعض خلقه، حتى تُصبح حركاته وسكناته، وكلماته وأفعاله، وقراراته ومواقفه، مؤثِّرة في حياة البلاد والحضارات، وما أروع أن تُسْتَخْدَم هذه النعمة في سبيل الله عز وجل!

إنَّ أوَّل ما يخطر ببالنا عند مراجعة ظروف إسلام البطلين العظيمين حمزة وعمر رضي الله عنهما هي الآية الكريمة: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، فلا شكَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كلَّم أهل مكة جميعًا في الإسلام؛ فهذه ثلاث سنوات مرَّت منذ الإعلان العام الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق جبل الصفا، وحمزة رضي الله عنه تحديدًا من الأقربين الذين سمعوا دعوة الإسلام من أول أيَّام إعلانها، كما أنَّ عمر بن الخطاب أحد كبراء قريش وسفيرها[1]، ولا بُدَّ أنَّه سمع تفاصيل كثيرة عن هذا الدين الجديد؛ لكن شاء الله عز وجل -لحكمةٍ يعلمها- أن يُؤَخِّر إسلام هذين العلمين الجليلين إلى هذا التوقيت، ولعلَّ العلَّة من وراء ذلك هي حفظ دماء المسلمين في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الدعوة، التي تَعَرَّض فيها فريقٌ من المؤمنين للتعذيب، وتعرَّض فريقٌ آخر لترك الديار والهجرة إلى الحبشة، فكان إسلام العظيمين حمزة وعمر رضي الله عنهما تخفيفًا لهموم المسلمين آنذاك.

وكان حمزة أول الرجلين دخولًا في هذا الدين العظيم..

لقد انتقل حمزة رضي الله عنه بعد إسلامه -ومن فوره- من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش فقط لتجارته وملذاته وصيده، إلى رجل قد أصبح كلُّ همِّه أن يُعبِّد الناسَ لربِّ العالمين، وأن يُدافع عن دين الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظْهِر الإسلام، ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقَّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد تُرى على الخارطة في فترة محدودة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيدًا للشهداء في الجنَّة، فقد أصبح حمزة رضي الله عنه سيدًا لكل الشهداء على مرِّ التاريخ، وإلى يوم القيامة، وقد خلَّد بذلك ذكره في الدنيا، وخلَّد ذكره كذلك في الآخرة.

وبعد ثلاثة أيَّام فقط[2] من إيمان حمزة رضي الله عنه آمن رجلٌ عظيمٌ آخر، وبإيمان هذا العظيم الجديد سيُغَيِّر الله عز وجل من وجه الأرض تمامًا؛ بل سيُغَيِّر من حركة التاريخ، ذلك الرجل الذي سيُزلزل عروش ملوك الأرض في زمانه، كسرى وقيصر وغيرهما، هذا المؤمن الجديد هو: عمر الفاروق رضي الله عنه، فمنذ أولى لحظات إيمانه حتى آخر أيَّام حياته رضي الله عنه كان فاروقًا، وإنَّ قصَّة إسلامه لأعجب من قصَّة إسلام حمزة رضي الله عنهما؛ فقد كان حمزة رضي الله عنه خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه محايدًا بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالنسبة إلى المؤمنين، فهو ليس معهم، وفي الوقت ذاته ليس عليهم، أمَّا عمر بن الخطاب فكان شيئًا آخر، فتاريخه مع المؤمنين كان صعبًا جدًّا؛ فقد كان حافلًا بالقسوة والعنف الشديدين، لذا كان إسلامه غير متوقَّع قط.

فعندما توجَّه عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُعلن إسلامه، كان في بيت الأرقم آنذاك ما يقرب من أربعين صحابيًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من هذا العدد فقد قام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يُدافع عن الجميع، ويتصدَّر هذا الموقف الخطير؛ مع أنَّ الإيمان لم يُخالط قلبه إلَّا منذ ثلاثة أيام فقط! قام حمزة يقول في صلابة: «ائذن له، فإن كان جاء يُريد خيرًا بذلناه له، وإن أراد شرًّا قتلناه بسيفه».

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذنوا له.

فُتِح لعمر رضي الله عنه، فدخل إلى الدار المباركة، دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثمَّ أدخلوه في حجرة، وقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه، واقترب منه، ثُمَّ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجمع ردائه، ثمَّ جبذه نحوه جبذة شديدة، وقال له في قوة: «مَا جَاءَ بِكَ يَابْنَ الخَطَّابِ؟ فَوَاللهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللهُ بِكَ قَارِعَةً».

عندئذٍ ردَّ عمر بصوت منخفض: يا رسول الله، جئت لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله.

الله أكبر!

انتصار هائل وكبير للدعوة؛ خاصَّة بعد دخول حمزة رضي الله عنه في دين الله عز وجل.

والفرحة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تُوصف، وكان أول ردِّ فعل له أن كبَّر اللهَ عز وجل: الله أكبر! الله أكبر! إنه سبحانه هو الذي صنع هذه المعجزة.

وكما وُلِد حمزةُ عملاقًا، فإنَّ عمر -أيضًا- وُلِد عملاقًا رضي الله عنهما؛ لقد وُلِد عمر فقيهًا، حازمًا، واضحًا، صريحًا، مضحِّيًا، فكانت أولى كلماته بعد إسلامه: يا رسول الله، ألسنا على الحقِّ؟

ولاحِظْ أنَّه يستخدم من فوره صيغة الجمع؛ فقد انصهر في الطائفة المؤمنة في لحظة واحدة.

قال: «بَلَى».

قال عمر: ففيم الاختفاء؟!

منذ أن أعلن عمر إسلامه حسب نفسه واحدًا من المسلمين، وقد أخذ يقترح عليهم الاقتراحات، ويُفَكِّر كيف يخدم هذا الدين، وما الأنفع والأصلح للدعوة، وكان هذا هو عمر!

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُرَتِّب حساباته بدقَّة، وكان الاختفاء في السنوات الستِّ السابقة لأسباب، أمَّا الآن فقد تغيَّر الوضع، وبعد أن كان للاختفاء مزايا، أصبح للإعلان مزايا؛ فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حساباته ثانية من جديد؛ وذلك بعد إيمان البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما.

رجلان فقط من المسلمين غيَّرا مسار الدعوة الإسلامية بكاملها في هذه الفترة الحرجة.

ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإعلان، وسيظهر المسلمون في مكة، وتُقْضَى الشعائر أمام كل الناس، وفي وضح النهار.

لقد اختفى المسلمون هذه السنوات بكاملها حفاظًا على وجودهم، واستمرارًا لأمر الدعوة، مع أنَّ الاختفاء له عيوبٌ كثيرة، ومشاكل متعدِّدة؛ ولكن تحمَّلها المسلمون، وقَبِلوا بها لمناسبة المرحلة لذلك، أمَّا الآن فيُمكن الإعلان مع تحقيق إيجابيَّاته الكثيرة، التي من أهمِّها ازدياد فرصة إيمان أهل مكة بشكلٍ كبير، فلا شكَّ أنَّ فرصة عمل المسلمين مجتمعين عندما يظهرون ستكون أكبر، وستكون عندهم القدرة على الحديث عن الإسلام بوضوحٍ مع الناس، ومَنْ كان متردِّدًا في مفاتحة صديق أو قريب في أمر الدين الجديد، سيجد الفرصة سانحة الآن، كما أن أهل مكة سيرون كرام الناس قد اعتنقوا هذا الدين، فيكون ذلك حافزًا لهم على التفكير فيه، ثم الارتباط به، وإنَّ دينًا قائد الناس فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأتباعه أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ومصعب، وسعد، وغيرهم، لهو دينٌ جديرٌ بالاحترام والتقدير، فهؤلاء صفوة شباب مكة وخيرة مفكِّريها، وستكون الدعوة أقرب كذلك إلى قلوب النساء والأطفال؛ حين يرون العائلات المسلمة متآلفة متحابَّة، وستُصبح خديجة، وفاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت عميس، وأم الفضل، وأم سلمة، وغيرهن من النساء المسلمات، حديث النساء في كل المحافل والمنتديات.

إنَّها فترة جديدة ستحمل خيرًا كثيرًا بكل الحسابات.

أخذ المسلمون القرار من حينها، وفي اللحظة نفسها خرج المسلمون في صَفَّيْنِ، عمر على أحدهما، ولم يكن آمن إلَّا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وكان قد آمن منذ ثلاثة أيام فقط، ومن دار الأرقم إلى المسجد الحرام، حيث أكبر تجمُّع لقريش، سارت المجموعة الإسلامية المؤمنة!

ومن بعيد نظرت قريش إلى عمر وحمزة رضي الله عنهما، وهما يتقدَّمان المسلمين، فَعَلَتْ وجوهَهم كآبةٌ شديدة، يقول عمر: فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذٍ.

لقد كانت نقلة للإسلام والمسلمين، ولا شكَّ أن هذا سيدعو مكة وزعماءها إلى تغيير استراتيجية التعامل مع المسلمين، فلم تَعُدِ الوسائل القديمة قادرة على مقاومة المسلمين، وبات واضحًا أن المسألة مسألة وقت، وأن الإسلام يكتسب في كل يوم أعوانًا جددًا.

[1] قال ابن الزبير: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، وذلك أن قريشًا كانت إذا وقعت بينهم حرب، أو بين غيرهم بعثوه سفيرًا، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرًا ومفاخرًا. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1145، وابن عساكر: تاريخ دمشق 24/ 118، 44/ 258، 259، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/ 217، وابن الأثير: أسد الغابة 4/ 138، وقال عبد السلام بن محسن: الأثر ضعيف. انظر: عبد السلام بن محسن: دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية رضي الله عنه 1/ 123.

[2] قال أبو نعيم عن إسلام عمر أنه: بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام. انظر: معرفة الصحابة، 6/3410، ومحب الدين الطبري: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص174، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 11/90، وقال ابن الجوزي: قال علماء السير: أسلم عمر في السنة السادسة من النبوة، وهو ابن ست وعشرين سنة. انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/384، ورجح ابن كثير أنَّه أسلم في سنة تسع، فقال: فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين، والله أعلم. انظر: البداية والنهاية 3/103، ورجح عبد السلام بن محسن آل عيسى إسلام عمر رضي الله عنه في السنة السادسة أو السابعة، انظر: دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب 1/127.

د.راغب السرجاني