رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر .. خلدون مكي الحسني
28-09-2008, 04:12 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة الثانية
نُشر في الكثير من المواقع الإسلامية!! مقال للأخ (محمد المبارك) بعنوان ((فك الشفرة الجزائريّة وفتح الأيقونة الباريسيّة)) والقارئ للعنوان يظن أنه سيطلع على خفايا ووثائق تكشف شيئًا عن السياسة في الجزائر وفرنسة ، ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الظن عندما يجد القارئ نفسه أمام مقال يترجم للأمير عبد القادر فحسب!! ولكن أيّ ترجمة؟ إنها ترجمة غير مسبوقة ولا يُقرُّ الكاتب عليها ، فهي وإنْ بدأَتْ بذكر شيء من مآثره ومزاياه ، إلاّ أنها في صلبها لا تُبقي للأمير أي خصلة حميدة إلاّ جرّدته منها ، وألصقت به خصال السوء .
كل ذلك دون ذكر أي مصادر أو مراجع أو إحالات لكتب أو علماء . اللهم ما كان من ذكر لأقوال بعض رجال الماسون ولكن أيضًا دون ذكر المصادر والإحالات!
وإذا راجعنا تاريخ تلك الحقبة ، وترجمة الأمير عبد القادر في كتب المغاربة والمشارقة الذين عاصروه أو كانوا قريبًا من عصره ، وهم بالعشرات ، فسنجد خلاف ما ذكره صاحب المقال!
وتحت إلحاح الكثير من الإخوة والأساتذة الكرام ، كتبتُ ردًا على ذلك المقال ، أُبيّن فيه ما وقفتُ عليه في كتب العلماء والمؤرّخين من الحقائق والوثائق ، وذلك لتجلية الموضوع وإظهار الحقيقة.
وتشمل حلقات الرد على بعض التوضيحات التاريخية والتراجم ، إضافة إلى دفع الشُّبه والاتهامات .
وأنا في ردي هذا إنما أنطلق من مبدأ الذَّب عن أعراض المسلمين الذي أُمِرْنا به ، فلا يجوز لي وأنا أرى ظلمًا واقعًا بأحدٍ من المسلمين ـ أيًّا كان مذهبه ـ وأعلم أنه بريء منه ، أن أسكت عنه أو أتجاهله . لا يجوز هذا لي ولا لغيري أبدًا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه)) . [وعِرْضُ الرجل : موضع المدح والذم فيه] .
وأنطلق من قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح : [((انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا)) . فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال : ((تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره))]
وأنا ـ إن شاء الله ـ في بحثي هذا سأنتصر للأمير عبد القادر (المظلوم) والذي انتقل إلى الدار الآخرة فلا يستطيع أن ينتصر لنفسه ، وسأنصفه وأدافع عن عرضه بالحق . وذلك لأنني على اطّلاع جيد على تاريخ حياته وسيرته وآثاره . وهو في حياته لم توجه إليه أي تهمة من هذه التهم الجديدة!!
وسأنصر الأخ محمد المبارك والإخوة الخائضين في هذا الموضوع بإبداء النصح لهم ، وذلك بعرض الحقائق والبيّنات التي لم يقفوا عليها ، وأدعوهم إلى الاعتماد على الحقائق عوضًا عن الظنون. والاطمئنان لأقوال المسلمين العدول ، والانصراف عن الأخذ بأقوال غيرهم وخصوصًا الماسون .
يقول الله عزَّ وجلّ :{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58]
ويقول تعالى : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15]
وإذا وجد الأخ محمد المبارك في خطابي شدّة فليعلم أنني لا أضمر له في نفسي بغضًا أو كرهًا ، وإنما خاطبته بلهجة النقد العلمي فحسب ، وقد ترفّقت به كثيرًا ، مع أنه في مقاله لم يترفّق بالأمير ، ولم يترك فضيلة إلاّ جرّده منها ، ولم يدع نقيصة إلاّ ووصمه بها ، حتى إن القارئ لمقاله ليظن نفسه أمام أبشع شخصية عرفتها الإنسانية .
وأرجو أن تجد كلماتي عنده وعند الذين خاضوا خوضه ، صدرًا سليمًا ، وقبولاً حسنًا . وأسأل الله تعالى أن يرشدنا جميعًا إلى سواء السبيل وصراطه المستقيم ، وكلي أمل ألاّ نصل إلى آخر حلقات هذا البحث إلاّ وقد آب الأوّابون وانصلح الحال .
فأقول مستعيناً بالله العظيم :
يقول الأخ محمد المبارك في مقاله (فكّ الشفرة): ((ومما حُفِظ عن الأمير خلال تلك الحوارات قوله :" لو كان العالم يسمعني لجعلت من المسلمين والمسيحيين إخوةً ولعملنا معاً من أجل إرساء السلام في العالم"ولعلَّ هذه الجملة كانت هي البروتوكول الذي انتهجه فيما بعد الأمير و التزم به كلالالتزام)).انتهى
يقول مما حُفظ! طيِّب ، مَنْ حفظه لنا يا أخي؟ سمِّ لنا العلماء المسلمين الذين حفظوا هذه المقولة كما ذكرتها! وأين أوردوها؟
ويبدو أنّ الأخ كاتب المقال لم يتنبّه إلى أمر هام وهو أنه أمام جملة شرطية مبدوءة بأداة الشرط [لو]! وهي : حرفُ امتناعٍ لامتناع ، أي تدلُّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط!!! ففي قولكَ : (لو درسَ لنجح) امتناعُ النجاح لامتناعِ الدَّرْس!
إذن عندما يقول الأمير : ((لو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعت الخلاف بينهم))
فالذي يُفهم من هذا الكلام امتناع رفع الخلاف بين المسلمين والنصارى لامتناع إصغائهم!
فكيف تكون هذه الجملة منهجًا يلتزمه الأمير وهي ممتنعة؟!!
وللعلم فإنّ هذه المقولة أوردها عدّة أشخاص في الإنترنت وكل واحد منهم يأتي بها في صيغة مختلفة عن الأخرى ، وذلك لأنهم ينقلونها بالمعنى أو مترجمة عن لغات أخرى . ولكن أغرب ما رأيت في نقل هذه المقولة هو ما كتبه (عبد الحق آل أحمد) ؛ ولا أدري إن كان هذا اسمه الحقيقي ؛حيث قال :" قال الأمير عبد القادر الجزائري:(( لو أصغى إلي المسلمون و النصارى، لرفعت الخلاف بينهم، ولصاروا إخوانا، ظاهرا و باطنا، ولكن لا يصغون إلي)).اهـ من [ذكرى العاقل و تنبيه الغافل:ص/107]". انتهى
والغرابة في هذا النقل أنّ كاتبه ينقله هذه المرة من مصدره الأصلي وهو رسالة ((ذكرى العاقل وتنبيه الغافل)) للأمير عبد القادر الجزائري . ولكنّه نقَلَه بعد أن سلخه عن سياق الكلام ، فحذف ما سبقه وما لحقه لكي يُظهر العبارة بوجهٍ يساعده على ما يريد . ومِنْ ثَمَّ حَكَمَ على الأمير بأنه يدعو إلى المؤاخاة مع النصارى!!!
وأقول : إنّ رسالة (ذكرى العاقل) هي رسالة كتبها الأمير عبد القادر إلى علماء فرنسة يدعوهم فيها إلى الإسلام ؛ وقد بدأها بالكلام على ضرورة إعمال النظر وترك التقليد ، ثم بيّن فضل العلم والعلماء ، وبيان انقسام العلم إلى محمود ومذموم ، ثم بيّن فضل العلم الشرعي ، وتحدث عن ضرورة إثبات النبوة التي هي منبع العلوم الشرعية ، وتحدث عن قصور المكذبين للأنبياء ، وبرهن لهم أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء ، ثم تحدث عن الكتابة وضرورة التصنيف .
وبالطبع فإن هذه الرسالة موجهة إلى غير المسلمين وطريقة الخطاب فيها تراعي حال المخاطبين من أهل الكتاب ، كما أمرنا الله تعالى في قوله :{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125] .
فينبغي على القارئ لها أن يستحضر هذا الأمر ، ولا ينظر إليها بوصفها رسالة إلى علماء المسلمين في بيان عقيدة المؤلف! هذا أولاً
وأمّا ثانيًا ؛ فهذه الرسالة المطبوعة إنما هي الترجمة العربية للنص الفرنسي المترجم عن الأصل العربي!
فيجب على القارئ لها أن يدرك أنّ الألفاظ التي صيغت بها ليست من إنشاء المؤلِّف (الأمير) وإنما هي ألفاظ المترجِم لها من الفرنسية ، وكذلك المعاني هي ما فهمه المترجِم من النص الفرنسي!
وكذلك يجب أن يدرك أنّ النص الفرنسي أيضًا صِيْغَ على النحو الذي فهمه المترجم الفرنسي من النص العربي!
إذن نحن أمام نصّ تعرّض لشيء من التشويه عندما تُرجِمَ من العربية إلى الفرنسية وكذلك عندما تُرجِمَ من الفرنسية إلى العربية!!
ليس هذا فحسب وإنما يجب على القارئ أن يعلم أنّ النص الفرنسي الموجود هو نصٌّ محرّف!! والفرنسيون يخفون الأصل العربي الذي كتبه الأمير بخطّه ، ولا يروّجون إلاّ للنص الفرنسي أو النص العربي المترجم عن الفرنسي.
وهذا الذي أقول ليس ظنًا أو تخمينًا ، وإنما عندي دليل عليه . فقد ذكر محمد باشا في كتابه (تحفة الزائر) قصة هذه الرسالة فقال : ((إنّ علماء باريس تذاكروا في علماء الإسلام المشاهير ، وانتهى بهم الحديث إلى ذكر الأمير ومؤلفاته التي اتصلت بأيديهم ومواعظه التي كان يلقيها على من يجتمع به منهم ، وأجوبته على أسئلتهم التي كانوا يبعثونها إليه ، فوقع اتفاقهم على أن يثبتوا اسمه في ديوان العلماء من كلِّ أُمّة وملّة من أهل القرون الماضية ، فأثبتوه وكتبوا إليه يخبرونه بذلك فكتب إليهم رسالةً ضمّنها علومًا جمّة ذَكرَ في خطبتها ما نصّه : (((الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، ورضي الله تعالى عن العلماء العاملين ، أمّا بعد : فإنه بلغني أنّ علماء باريس كتبوا اسمي في ديوان العلماء ، ونَظَموني في سلك العظماء ، فحمدت الله على ستره عليَّ حتى نظر عباده بالكمال إليّ ؛ وقد أشار عليَّ بعض المحبين منهم أن أكتب إليهم بعض الرسائل ، فكتبتُ هذه العجالة، وسميّتها "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" ورتبتها على مقدمة وثلاث أبواب...إلخ))).انتهى
هذا هو الأصل العربي الذي افتتح به الأمير رسالته ، وللأسف ليس لدينا إلاّ هذا الجزء الذي نقله محمد باشا . وإذا قارناه بما كُتبَ في الرسالة المطبوعة باللغة العربية المترجمة عن الفرنسية وجدنا أنه حتى في هذه الافتتاحية الصغيرة (خمسة أو ستة أسطر) وقع حذفٌ وزيادة وتحريف للنص الأصلي!!
وإليكم النص المطبوع والمنشور (المحرّف) : (()الحمد لله ربّ العالَمين . ورضي الله تعالى عن العالِمين. أما بعد : فإنه بلغني أن علماء بريز . وفّقهم العليم الحكيم العزيز . كتبوا اسمي في دفتر العلماء . ونظموني في سلك العظماء . فاهتززت لذلك فرَحا . ثم اغتممت ترَحا . فرِحت من حيث ستر الله عليّ . حتى نظر عبادُه بحسن الظن إليّ . واهتممت من كون العلماء استسمنوا ذا ورم . ونفخوا في غير ضرم . ثم أشار عليّ بعض المحبين منهم بإرسال بعض الرسائل إليهم . فكتبتُ هذه العجالة للتشبه بالعلماء الأعلام . ورميت سهمي بين السهام .
فتشبهوا إن لم تكونوا منهمُ ***** إن التشبه بالكرام رباحُ
وسميتُ هذه الرسالة (ذكرى العاقل . وتنبيه الغافل) ورتبتها على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة ...إلخ()) . انتهى
إنّ كل قارئ يقظ وسليم الصدر ، سيرى بوضوح الفوارق الكثيرة بين النصين (الأصلي والمحرّف)!!
لقد حذف المزور الصلاة على النبي بدايةً ـ التي وصفه فيها الأمير بخاتم النبيين لأنّ الرسالة تتضمن إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين ـ ، ثمّ حذف كلمة العلماء العاملين ، ووضع مكانها كلمة العالِمين!! ، ثم غير كلمة باريس فجعلها باريز ، وأضاف جملةً كاملة فيها دعاء وثناء على علماء باريس أتى بها مسجوعة ، وبعد ذلك حذف المزوّر الجملة التي حمِد اللهَ فيها الأمير ، ووضع مكانها جملاً ليس فيها معنى الحمد ، ثم أضاف كلامًا وشعرًا ، وكل ذلك ليس له وجود في كلام الأمير!!
حتى بيت الشعر جاء بصيغة غير الصيغة المعروفة والتي لا تخفى على الأمير الشاعر!وهي :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلَهمْ*****إن التشبه بالكرام فلاحُ
وسيدرك القارئ الفطن أنّ المحرّفين للنص الأصلي هم من المستشرقين الفرنسيين أو من عملائهم من نصارى الشرق (لبنان) بخاصة! (وأعني بذلك أنّه كان بحوزتهم النص العربي الأصلي يستعملون ألفاظه ومبانيه ، في صياغة النص المحرّف).
وللعلم فإنّ النص المترجم إلى العربية طُبِع أوّل مرة في لبنان دون ذكر اسم الناشر أو دار النشر!!
وقبل أن أنقل لكم كامل الصفحة التي اقتُصّت منها تلك العبارة . سأنقل لكم بعض الجمل والعبارات التي وردت في رسالة الأمير حتى تكونوا على شيء من الاطلاع على فحوى هذه الرسالة.
(والرسالة مطبوعة وأنا أدعو الجميع لقراءتها بأنفسهم) .
قال الأمير عبد القادر في مقدمة الرسالة في معرض حثّ علماء فرنسة (والغرب) على إعمال عقولهم لكي يصلوا إلى الدين الحق : ((اعلموا أنه يلزم العاقلَ أن ينظر في القول ولا ينظرَ إلى قائله ، فإن كان القول حقًا قبِلَه سواء كان قائله معروفًا بالحق أو الباطل ، فإنَّ الذَّهب يُستخرج من التراب والنرجسَ من البصل والتِرياقَ من الحيّات ويُجْتنى الورد من الشوك ؛ فالعاقل يعرفُ الرجال بالحق ولا يعرف الحقَّ بالرجال)).انتهى[ص5] ، ثمّ قال : ((والمتبوعون من الناس على قسمين ، قسمٌ عالمٌ مُسْعِدٌ لنفسه ومسعدٌ لغيره وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلّدوه ، وقسمٌ مُهلِكٌ لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلَّد آباءَه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون وتَرَكَ النَّظرَ بعقله ودعا الناسَ لتقليده ، والأعمى لا يصلح أن يقود العميان ؛ وإذا كان تقليد الرجال مذمومًا غيرَ مرضيّ في الاعتقادات فتقليد الكُتب أولى وأحرى بالذم ، وإنّ بهيمةً تُقاد أفضل من مقلِّدٍ يَنْقَاد . وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادّةٌ في الأكثر واختيارُ واحد منها واتِّبَاعُه بلا دليل باطلٌ لأنّه ترجيحٌ بلا مرجِّح فيكون مُعارَضًا بمثله)).انتهى[ص6ـ7] ؛ وفي معرض كلامه على فضل العلم والعلماء قال : ((ويُدرَكُ شرفُ العلم مطلقًا من حيث هو علمٌ بشيئين ، أحدهما شرف الثمرة والثاني قوة الدليل . وذلك كعلم الأحكام الدينية الشرعية وعلم الطب ، فإن ثمرة علم الدين السلامة في الدارة الآخرة وهي الحياة الأبدية . وثمرة الطب السلامة في الدنيا وهي سلامة بدنية منقطعة . فيكون علم الدين أشرف لأنه سببٌ لسلامة أبدية لا تنقطع)).انتهى[ص22] ؛ وقال : ((وأشرفُ العلوم النافعة معرفةُ الله تعالى ومعرفة حكمته في أفعاله وفي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما)).انتهى[ص33] ؛ وفي معرض كلامه عن الفرق بين الإنسان وغيره من المخلوقات قال : ((ولما كان المقصود الأعظم من خلق الإنسان هو معرفة خالقه وعبادته أكرمَ اللهُ الإنسان وميّزه بصفة أخرى أشرفَ من الكل وهي العقل ، فبه يعرف الإنسان خالقَه ويدرك المنافع والمضار في الحال والمآل)).انتهى[ص35ـ36] ؛ وفي معرض نقده لعلماء فرنسة قال : ((وقد اعتنى علماء افرنسا ومن حذا حذوهم باستعمال العقل العملي وتصريفه فاستخرجوا الصنائع العجيبة والفوائد الغريبة فاقوا بها المتقدمين وأعجزوا المتأخرين ، رقوا بها أعلى المراقي ، وحصل لهم بها الذكر الباقي ، فلو استعملوا مع هذا العقلَ النظري في معرفة الله وصفاته وفي معرفة حكمته في خلق السموات والأرض وما يلزم للإله من الكمال وما يتقدس عنه من النقص وما يمكن في حقّه أن يفعله وأن لا يفعله لكانوا حازوا المرتبة التي لا تدرك والمزية التي لا تُشرَك ، ولكنهم أهملوا استعمال هذه القوة النظرية حتى إنهم لا يُسمَع منهم لها ذاكر ولا يعثر عليها في كتبهم ناظر)).انتهى[ص40] ؛ وقال : ((وأقلّ أحوال من يقصد بعلم النجم الاطلاعَ على المغيبات أنه خوض في فضول لا ينفع ، فإن المقدورَ واقعٌ والاحتراز منه غير ممكن ، وأحكام النجوم ظنٌ خالصٌ والحكم بالظن حكمٌ بجهل)).انتهى[49] ؛ وقال ((اعلموا وفّقكم الله أنَّ العقل وإن بلغ من الشرف والاطلاع على حقائق الأشياء ما بلغ فثَمَّ علوم لا يصل إليها ولا يهتدي إلى الاطلاع عليها إلاّ بتصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد إليهم)).انتهى[ص50] ؛
وقال : ((فالذي يدعو الناس إلى التقليد المحض مع عزل العقل جاهل ، والمكتفي بمجرد العقل عن العلوم الشرعية مغرور ، فإياكم أن تكونوا من أحد الفريقين وكونوا جامعين بينهما ، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية ، وقلوب الخلق كلها مرضى ولا علاج لها إلاّ بالأدوية التي ركّبها الأنبياء ، وهي وظائف العبادات ، فمن اكتفى بالعلوم العقلية تضرر بها كما يتضرر المريض بالغذاء . كما وقع لبعض الناس فإنهم قالوا الإنسان إذا حصل له المعقول وأثبتَ للعالم صانعًا وصل إلى الكمال المطلق فتكون سعادته على قدر علمه وشقاوته على قدر جهله ، وعقلُه هو الذي يوصله إلى هذه السعادة . وإيّاكم أن تظنوا أنّ العلوم الشرعية مناقضةٌ ومنافرةٌ للعلوم العقلية ، بل كلُّ شيء جاء عن الأنبياء مما شرعوه للناس لا يخالف العقول السليمة ؛ نعم يكون في شرائع الأنبياء ما تستبعده العقول لقصورها عنه ، فإذا عرفتْ طريقَه عرفتْ أنه الحقُّ الذي لا ينبغي العدول عنه . مثاله في شرع الإسلام الذهب والفضة فإن الشرع يمنع من اختزانهما من غير إعطاء بعضها للفقراء والمساكين ، ويمنع من اتخاذ الأواني للأكل والشرب منها ، ويمنع من بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة بزيادة ، فإذا قيل لإنسان أعطِ بعضها للفقراء وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا تعبت وجمعتُها فكيف أعطيها مَنْ كان نائمًا مستريحًا هذا خارج عن العقل؟ وإذا قيل له لا تأكل ولا تشرب في أواني الذهب والفضة وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا أتصرف في ملكي ولا ينازعني فيه أحدٌ فكيف أُعاقب على التصرف في ملكي هذا خارج عن العقل؟ وإذا قيل له لا تبعْ الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة بزيادة وإلاّ تُحرق بالنار! يقول أنا أبيع وأشتري بِرِضًا مني ومن الذي أتعامل معه ولولا البيع والشراء لخربت الدنيا وتعطلت المنافع هذا شيء خارج عن العقل. وكلامه هذا صحيح فإن العقل غير مدركٍ للعقاب على هذه الأمور ، فيحتاج العقل إلى التعريف ، فيُقال له الحكمة التي خلق الله الذهبَ والفضة لأجلها هي أنّ قِوامَ الدنيا بهما وهما حجران لا منفعة في أعيانهما إذ لا يرُدَّان حرًّا ولا بردًا ولا يُغذيان جسمًا ، والخلق كلهم محتاج إليهما من حيث أنّ كل إنسان محتاج إلى أشياء كثيرةٍ في مطعمه وملبسه ، وقد لا يملك ما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك القمح مثلاً وهو محتاج إلى فرس ، والذي يملك الفرس قد يستغني عنه ويحتاج إلى البُرّ فلا بدّ بينهما من معاوضة ولابُدَّ من تقدير العِوَض إذ لا يعطى صاحب الفرس فرسَه بكل مقدار من البُر ، ولا مناسبة بين البُر والفرس حتى يُقال يُعْطَى منه مثلَه في الوزن أو الصورة فلا يدري أن الفرس كم يسوى بالبُر فتتعذر المعاملات في هذا المثال وأشباهه . فاحتاج الناس إلى متوسط يحكم بينهم بالعدل فخلق الله الذهب والفضة حاكمين بين الناس في جميع المعاملات ، فيُقال هذا الفرس يسوى مئة دينار وهذا القَدر من البُر يسوى مثلَه ؛ وإنما كان التعديل بالذهب والفضة لأنه لا غرض في أعيانهما وإنما خلقهما الله لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بالعدل ، ونسبتهما إلى جميع الأموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما كأنه ملَكَ كلَّ شيء ، ومن ملك فرسًا مثلاً فإنه لا يملك إلاّ ذلك الفرس ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الفرس لأنّ غرضه في ثوبٍ مثلاً فاحتيج إلى ما هو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء . والشيء إنما يستوي نسبته إلى الأشياء المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصّة ؛ كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون . فكذلك الذهب والفضة لا غرض فيهما وهما وسيلتان إلى كل غرض ؛ فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكمة الإلهية فإنه يُعاقب بالنار إن لم يقع السّماح)).انتهى[54ـ57] .
وفي معرض كلامه على إثبات النبوّة واحتياج كافة العقلاء إلى علوم الأنبياء قال : ((وإذا ثبت أنّ اللهَ تعالى فاعلٌ مختار لا عِلّةٌ موجبة وثبت أن إرسال الأنبياء ممكن غير محال في حقه ، وجاءت الأنبياء بما يصدقهم من المعجزات الخارقة للعادة لزم تصديقهم)).انتهى[ص65] ؛ ثم قال : ((ولو أن قائلاً قال إن هذا الإبريق تكوّن بنفسه من غير قصد قاصدٍ حكيم ، ولا فعلِ فاعلٍ بل اتفق تكوُّنه بنفسه كما اتفق تشكل هذه القطعة بهذا الشكل الخاص من غير قصد قاصد حكيم ولا جعل جاعل ، لشهدت الفطرة السليمة بأن هذا القول باطل محال ؛ ومتى ثبت القول بالفاعل المختار ثبتَ حدوث العالم ، ومن عرف هذا سهل عليه معرفة النبيّ)).انتهى[ص67] ؛ وقال : ((فإذا قال قائل إن هذا المنقول عنهم (يعني الأنبياء) خرافات وكذب! فنقول له ما بال الناس لا ينقلون نقلاً متواترًا عن غير الأنبياء مثلَ ما نقلوا عن الأنبياء؟)).انتهى[ص68]
وقال : ((وأساس الديانة وأصولهُا لا خلاف فيها بين الأنبياء من آدم إلى محمد ، فكلّهم يدعون الخلقَ إلى توحيد الإله وتعظيمه واعتقاد أن كل شيء في العالم صُنعه . وإلى حفظ النفس والعقل والنسل والمال ، فهذه الكلّيات الخمس لا خلاف فيها بين الأنبياء ، وجميعُ الشرائع متفقة عليها ، وحاصلها يرجع إلى تعظيم الإله والشفقة على مخلوقاته ، وطريان النسخ على هذه الكلّيات الخمس مُحال ، وإنما النسخ يمكن في الشرائع الوضعية ، وهي الأشياء التي يجوز ويصح أن لا تكون مشروعة ، دون الأحكام العقلية كتوحيد الإله وما ذكرنا معه من الكلّيات)).انتهى[ص71] .

والآن إليكم النص الذي وردت فيه عبارة الأمير التي يُراد من اجتزائها وتدليسها الطعن فيه بغير حق. وقد وردت في معرض احتجاجه على النصارى بأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين قال : ((والنسخُ في الحقيقة ليس هو إبطال وإنما هو تكميل....واليهود هم الذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردةً وخنازير . وقال المسيح ما جئتُ لإبطال التوراة بل جئتُ لأكملها ، قال صاحب التوراة "النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والجروح قصاص" وأنا أقول "إذا لطمك أخوك على خدّك الأيمن فضع له خدك الأيسر. وجوابُ النصارى لليهود هو جواب المسلمين للنصارى ، والذي قاله المسيح قاله محمد ، فإنه قال "ما جئتُ لأُبطل الإنجيل والتوراة وإنما جئتُ لأكملهما . ففي التوراة أحكام السياسة الظاهرة العامة ، وفي الإنجيل أحكام السياسة الباطنة الخاصة ، وأنا جئتُ بالسياستين جميعًا ، جئتُ بالقصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وهو إشارة إلى السياسة الظاهرة العامة ، وجئتُ بالعفو {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وهو إشارة إلى السياسة الباطنة الخاصة . وهذا دليلٌ على أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ؛ لأن النبوّة حكمةٌ ، والحكمةُ إمّا عملية أو علمية أو جامعة بينهما ، وحكمة موسى كانت عمليةً لاشتمالها على تكاليفَ شاقة وأعمال متعبة ، وحكمة المسيح كانت علمية لاشتمالها على التجرد والروحانيات والتصوف المحض ، وحكمة محمدٍ جامعةٌ بينهما ، فلا يجيءُ نبيٌّ بعده غير المسيح فإنه ينزل ثانيًا إلى الأرض لأنّ الذي يجيء بعد محمد إن كانت حكمته عملية فموسوي وإن كانت حكمته علمية فمسيحي ، وإن كانت جامعة بينهما فمحمدي ، فقد انختمت عليه النبوّة بالضرورة . فالدين واحدٌ باتفاق الأنبياء ، وإنما اختلفوا في بعض القوانين الجزئية ، فهم كرجالٍ أبوهم واحد وأمهاتهم متعددة ؛ فتكذيب جميعهم أو تكذيب البعض وتصديق البعض قصورٌ ؛ ولو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعتُ الخلاف بينهم ولصاروا إخوانًا ظاهرًا وباطنًا ، ولكن لا يصغون إليّ لِمَا سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد ؛ ولا يرفعُ الخلافَ بينهم إلاّ المسيح عند نزوله ولا يجمعهم لمجرَّد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئُ الأكمه والأبرص ، ولا يجمعهم إلاَّ بالسيف والقتل ، ولو جاءَني مَنْ يريد معرفة طريق الحق وكان يفهم لساني فهمًا كاملاً لأَوصلته إلى طريق الحق من غير تعب لا بأن يُقلّدني بل بأن يَظْهَرَ الحقُّ له حتى يعترف به اضطرارًا.
وعلوم الأنبياء من حيث خطابهم للعامة دائرةٌ على ما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم ، وما جاؤوا ليجادلوا الفلاسفة ولا لإبطال علوم الطب ولا علوم النجم ولا علوم الهندسة وإنما جاؤوا باعتبار هذه العلوم على وجهٍ لا يناقض التوحيد ، ونسبة كل ما يحدث في العالم إلى قدرته وإرادته سبحانه ..)).انتهى[ص75ـ78] .
هذا ما قاله الأمير عبد القادر ، والقارئ يرى بوضوح الاختلاف الكبير بين إيراد تلك المقولة ضمن سياقها ، وبين سلخها عن سياقها! . فالأمير يتحاور مع العلماء النصارى ويبيّن لهم الحقائق بطريقة تتناسب مع طبائعهم وتفكيرهم ، فضرب لهم المثل بداية باليهود وكيف اعترضوا على النصارى وأنكروا نبوّة المسيح ، ورفضوا مبدأ النسخ والتكميل في الشرائع .. إلى غير ذلك من الاعتراضات . ثم ذكّرهم بما ردّت به النصارى على اليهود! ثم قال لهم لقد اعترضتم على المسلمين بمثل ما اعترض عليكم اليهود ، ونحن نجيبكم بمثل ما أجبتم اليهود! فإذا كنتم تعدّون أنفسكم على الحق وأنّ ما رددتم به على اليهود حق ، فيلزمكم من ذلك أن تقبلوا ردّنا عليكم وتُقِرّوا بأنّ الإسلام هو آخر الشرائع وأنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء . ولا يليق بكم أن تعترضوا علينا بما اعترض به اليهود عليكم ، لأنكم في ردّكم عليهم بيّنتم بطلان أصل اعتراضهم .
والقارئ يلاحظ أن الأمير لم يقل : لو أصغى إليّ المسلمون واليهود!! وإنما قال والنصارى ، إذن نحن لسنا أمام فكرٍ يدعو إلى توحيد الأديان أو إزالة الفوارق بين المسلمين والكافرين ، كما يتوهّم البعض ، وإنما نحن أمام محاورة يُجْرِيها مسلمٌ مع أهل الكتاب من النصارى حصرًا ـ لأنّهم تعرّضوا لمثل ما تعرّض له المسلمون ـ يحاولُ فيها إلزامهم بالقواعد العقلية التي استندوا إليها في صراعهم مع اليهود .
ومع ذلك أعود فأقول إنّ العبارة ليس فيها الإشكال الذي يظنه البعض . فالجملة صدّرها الأمير بحرف الشرط (لو) ، وهو كما يعرف دارسو العربية : حرفُ امتناعٍ لامتناع ، أي يدلُّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط!!! ففي قولك : (لو درسَ لنجح) امتناعُ النجاح لامتناعِ الدَّرْس!
إذن عندما يقول الأمير : ((لو أصغى إليَّ المسلمون والنصارى لرفعت الخلاف بينهم))
فإنّ العربي يفهم من هذا الكلام امتناعَ رفعِ الخلاف بين المسلمين والنصارى لامتناع إصغائهم!
ومع ذلك فإنّ الأمير أوضح العبارة كي لا تلتبس على أحد ، فقال : ((ولكن لا يُصغون إليّ لِمَا سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد ؛ ولا يرفعُ الخلافَ بينهم إلاّ المسيح عند نزوله ولا يجمعهم لمجرَّد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئُ الأكمه والأبرص ، ولا يجمعهم إلاَّ بالسيف والقتل)).انتهى
فهل يبقى بعد هذا البيان أي غموض في العبارة؟ لقد قرر الأمير ما استقرّ في عقيدة كل مسلم أنّ النصارى ـ في مجموعهم ـ لن يصغوا إلى المسلمين ولن يعترفوا بالإسلام إلاّ بعد نزول المسيح عليه السلام ، ليس هذا فحسب ، بل إنهم حتى بعد نزول المسيح لن يستعملوا عقولهم ولن يصغوا بآذانهم وقلوبهم ، وإنما سيدفعهم المسيح إلى ذلك بالسيف والقتل!!
فهل في هذا الكلام أي مطعن في عقيدة الأمير الإسلامية؟! .
وما كان الأمير ليتودد إلى النصارى ولو ظاهرًا ، وهو عندما كان في أَسْرِهم وفي متناولهم ، وسمع من بعض أعيانهم ورجالاتهم كلامًا ينتقصون فيه دين الإسلام ، كتبَ كتابًا يرد فيه عليهم ووضع له عنوانًا جريئًا قويًا لا يهابُ فيه أحدًا منهم مع أنه يعلم أنه تحت سلطانهم ، ولكنّه الإيمان الراسخ بالله وحده، والعزّة بدين الإسلام ، والقوة في الدفاع عن هذا الدين . وعنوان الكتاب :
[المقراضُ الحادّ لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد] ؛وهو مطبوع
وحتى لا أدع أيّ مجال للمشككين أقول : لقد صرّح الأمير عبد القادر ـ بكل اطمئنان وبأوضح بيان ـ بعقيدته في اليهود والنصارى وذلك في رسالته الجوابية إلى مفتي الشام السيد محمود أفندي الحمزاوي ، الذي سأله عن بعض الطوائف والأديان . وقد أثبتَ هذه الرسالة محمد باشا في تحفة الزائر وهي من آخر رسائل وفتاوى الأمير!! ؛ جاء فيها : ((... وأمّا قولك أنّ منطوق الآية الشريفة في سورة الحج أنّ المشركين ليسوا هم النصارى(
[1]) .. الخ . فاعلم أنّ النصارى هم أتباع المسيح عليه السلام، وأُمَّته ممن كان تابعًا للمسيح قبل ظهور محمد عليه السلام فهو من أفضل الخلق وأعلاهم درجة ، وبعد ظهور محمد عليه السلام مَنْ آمن به فله أجران ويحشر مع الناجين الآمنين ومَنْ كفرَ بما جاء به محمد من النصارى وغيرهم فيُسمّى كافرًا لا مشركًا ، إلاّ من قال في المسيح عليه السلام أنه ابن الله ومن اليهود في عُزير أنه ابن الله فهو مشرك والنصارى الحقيقيون هم الذين يعتقدون أن المسيح عليه السلام روحُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البتول عليها السلام وأنه رسول الله إلى بني إسرائيل بشرعٍ ناسخ لبعض شرع موسى عليه السلام والإنجيل المُنزّل عليه كلام الله تعالى حقيقةً لا مجازًا . وفِرَقُ النصارى واعتقاداتهم المختلفة أنتَ أعلم بها فلا نطيل الكلام بذكر مذاهبهم وفِرَقهم . وبالجملة فالنصارى أجهل الناس بالمعقول والإلهيات . والكفرُ : إمّا كفر إنكار ، وهو أن يكفر بقلبه ولسانه ، وإما كفر جحود وهو أن يعرف الحق بقلبه ولا يقرّ بلسانه ، وإما كفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه، والجميع سواء في أنه من لقيَ اللهَ تعالى بواحد منهم لا يُغفر له . فقد بان لك أنّ أهل الكتاب لا يُقال فيهم مشركون وإنما يُقال لهم كفّار ؛ فإنّ الكافر اسمٌ لمن لا إيمان له بمحمد وبما جاء به من الشرائع والأحكام ، ومَنْ أخفى الكفرَ وأظهر الإيمان فهو المنافق ، وإن طرأَ عليه الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن كان متدينًا ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي ، وإن قال بقدم الزمان والدهر ونسبَ الحوادث له فهو الدّهريّ ، وإن كان لا يُثبتُ الباري تعالى فهو المعطّل ، وإن كان يجعل مع الله إلهًا آخر فهو المشرك ؛ وشريعة محمدٍ عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة كلّها ، فلا يقبل الله تعالى دينًا اليوم من أحدٍ ولو عبدَ اللهَ بعبادة الثّقلين ؛ الإنس والجن ؛ إلاّ مَنْ عبدَ اتّباعًا بمحمدٍ عليه السلام)) .انتهى[تحفة الزائر2/246]
وبعد فإنني أعتقد أنّ الأمر أصبح جليًا لا لبسَ فيه .
وأُذكّرُ كل من يتسرّع في اتّهام الآخرين ويُطلق عليهم أحكام الردة والكفر وموالاة الكفرَة ، بقول الله تعالى : {ستُكتَبُ شهادتهم ويُسْألون}[الزخرف :19]
([1]) في قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج :17]



وهناك أمر هام جدًّا أريد أن أنبّه عليه : وهو أنّ بعض الأوربيين قرؤوا أو سمعوا عبارات وكلمات من الأمير عبد القادر ففهموا منها معنىً ما ، ثمّ ترجموها إلى لغاتهم بحروفهم وأدبيّاتهم ، ثمّ جاء بعد ذلك بعض العرب ليقرؤوها ويفهموا منها فهمًا جديدًا قريبًا من المعنى الأجنبي ثمّ بعد ذلك يعيدوا ترجمتها إلى العربيّة . فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أننا نقرأ كلامًا بعيدًا عن الأصل في المعنى . أو لا وجود له ، وسأضرب بعض الأمثلة :
استمعَ شارل هنري تشرشل (البريطاني) لخطبة من خطب الأمير عبد القادر وكان من ضمن الخطبة استشهادٌ بآيات من القرآن ، فانظروا كيف ترجم تشرشل الآيات التي قرأها الأمير :
1ـ الآية الأولى : يقول تشرشل نقلاً عن الأمير : (( ..فأنتم تعلمون ما نصّ عليه القرآن الكريم من أنّ {النمل يغلب الفيلة وأنّ الجرذان تقتل الأسود}.انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص150]
2ـ الآية الثانية :{دع الظلم يسقط على رأس صاحبه}.انتهى[المرجع السابق ص168]
3ـ الآية الثالثة :{من الأفضل أن تكون مظلومًا من أن تكون ظالماً}.انتهى [المرجع السابق ص168]
4ـ الآية الرابعة يقول تشرشل : (( وألقى خطبة كان موضوعها آية قرآنية يلوم فيها محمدٌ صهره عليًا على قتل خمسمئة كافر بعد أن استسلموا)).انتهى [المرجع السابق ص207]
5ـ الآية الخامسة {أنا لا أوجّه الطلقة بل الله هو الذي يوجّهها}.انتهى [المرجع السابق ص146].
أرأيتم كيف تتحرّف الأشياء! هل سمعتم بتلكم الآيات؟ هل يظن عاقلٌ أن الأمير (الحافظ لكتاب الله) يقول تلك الآيات وعلى مسمعٍ من المسلمين أيضًا؟!
الواضح تمامًا أن تشرشل البريطاني فهم معنىً ما من الآيات التي ذكرها الأمير ثم ترجمه للغته ثم أتى المترجم العربي ففهم معنى آخر من الترجمة الأجنبية فصاغه بالعربية على النحو الذي رأيناه .
وقد قال الأستاذ أبو القاسم سعد الله عن ترجمة الآية الأولى : ((ولعل الأقرب إلى هذا المعنى قوله تعالى :{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} ، وقال عن الآية الثانية : والأقرب إلى هذا المعنى هو قوله تعالى :{ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله} )).انتهى .
وأما الآية الخامسة فالمقصود ولا ريب قوله تعالى :{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} .
هكذا يفعل العقلاء والمنصفون.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة وأظن أن ما أوردته يكفي لتوضيح الفكرة .

والحمد لله رب العالمين
خلدون بن مكيّ الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة