رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة"
27-02-2009, 11:49 AM
إعصْار من الطّّيب
الطيب صالح
08/09/2006



قال الشاعر القرم في تلك القصيدة، التي هي عندي من روائع الشعر العربي، يصف الفتاة المحبوبة:
إذا حملتكِ العيْس أوْدى بأيْدها
جلا لُكِ حتى ما تكاد به تخطو
والبيت من القصيدة التي يمدح فيها خازن دار العلم ببغداد ومطلعها:
لِمَن جيرة سيموا النّوال فلم ينطو
يظلّلهم ما كان ينبته الخطّ
وقد ركب أبو العلاء فيها قافية حرونا فذ لّلها وأسلس قيادها.
قال التبريزي في شرح البيت:
(الأيد القوة، والجلال العِظَم أراد به ها هنا وفور الجسم).
وقال البطليّوسى:
(أودى، ذهب وهلك. والأيد القوة. والجلال ها هنا وفور الجسم وكثرة لحمه. يقول، إذا حملتك العيس ذهب بقوتها ثقل ردفك ووفور جسمك فلا تقدر على الأسرع في المشي).
وقال الخوارزمي:
(عنى بالجلال فخامة الجسم وضخامة البدن. الضمير في (به) يرجع للجلال. هذه السمينة المنعمة لو أدركت زمن محمد بن باه الخوارزمي، لما كانت له معشوقة غيرها، وذلك أن محمدا هذا كان من كبراء خوارزم وأمرائها، وقد بلغ به السمن والضخامة إلى حيث لم يستقل به مركوب ولا قدر هو نفسه على الركوب. وإنما كان يحمل في عجلة ...).
وأقول، رغم احترامي العظيم لهؤلاء الأساتذة الأعلام الأجلاء، هل يعقل أن يكون حنين الشاعر كل ذلك الحنين الممض، لامرأة تعجز الإبل الشداد عن حملها لضخامتها وكأنها من نساء الكاتب الفرنسي القديم (رابلى) أو بعض نساء الأمريكان في هذا الزمان؟
فلنمعن النظر في بقية أوصاف المرأة المشتهاة لنرى هل يوافق وصف الشاعر لها أوصاف هؤلاء الأساتذة.
منذ البداية، يصف الشاعر المرأة المعشوقة بأنها تعيش في عزة ومنعة تحت ظلال السيوف والرماح، وهي كالتي وصفها أبو الطّيّب بقوله:
وما شرقي بالماء إلا تذكراً
لماء به أهل الحبيب نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه
فليس لظمآن إليه وصول
امرأة كهذي، قد تكون مرفهة، ولكنها لا تكون خاملة.
ويقول أبو العلاء أيضا في وصفها:
تجل عن الرّهط الإمائىّ غادةٌ
لها من عقيل في ممالكها رهط.
وصفها الشاعر بالجلال، ونزهها عن أن تلبس (الرهط) الّذي تلبسه الإماء، وهو أزار من سيور الجلد كانت تلبسه الإماء والفتيات دون البلوغ. إنها امرأة شريفة من (عقيل) وهي قبيلة عزيزة أصلا ولها في قومها عزة وكبرياء. وقد اتفق الشرّاح الأجلاء على أنها ربما تكون من بنات الملوك. وليس من صفات الشرف، أن تكون المرأة خاملة جامدة الحس، تعيش مثل البهائم، مهما بلغت من الغنى والترف.
ثم يقول الشاعر:
قُريْطيّة الأخوال ألمع قرطها
فسرّ الثريّا أنها أبداً قرْط
هذه فتاة أصيلة (بنت قبائل) كما نقول ? أخوالها في قريط أو قريطة، من كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة. وقد بلغ من عظمة هذه الموصوفة أن كوكب الثريا، سرّها أن تشبّه بالقرط الذي يلمع في أذن الموصوفة.
فسر البطليّوسي بقوله:
(وشبه الثريّا بها في شكلها وامتناع مكانها من الوصول إليه، وفي قوله (أبداً) إشارة إلى قول ابن المعتز في وصف الثريّا:
في الشرق كأس وفي مغاربها
قرط وفي وسط السماء قدم
فشبهها وقت طلوعها بكأس، ووقت غروبها بقرط، ووقت توسطها في السماء بقدم. فولد أبو العلاء معنى آخر فقال إن الثريّا لما رأت قرط هذه المرأة، سرها ألا تشبّه في جميع أحوالها إلا بالقرط دون غيره مما شبّهت به...)
قال أبو العلاء مواصلاً وصف الفتاة:
إذا مشطتها قينة بعد قينة
تضوّع مسكا من ذوائبها المُشطُ
ربما لكثافة شعرها، لا تمشطها قينة واحدة، بل تشمطها قينة بعد قينة، وكل مرة يتضوّع المشط من المسك العالق بشعرها.
هذا، وقد ذكروا أن كلمة (مشط) تكون بفتح الميم وسكون الشين، وكسر الميم، وضم الميم مع سكون الشين، وضم الميم والشين.
قال أبو العلاء:
تقلّد أعناقَ الحواطب بالدّجى
فريداً فما في عُنق ما هنةٍ لََطّ
الماهنة هي الخادمة، واللطّ، يعني الحلىّ المزيّفة التي تشبه الحلىّ الحقيقية. يقول الشاعر أن هذه السيدة الفاضلة من شدة كرمها وعنايتها بالماهنات اللائي يخدمنها، تلبس حتى اللائي يجمعن الحطب بالليل، حليا حقيقية مصنوعة من الذهب. وبالليل لا يراهن أحد، فالأمر ليس للتظاهر!
هذا وكأنما الخوارزمي فجأة استفزه الطرب لجمال الوصف فقال:
(هذه الحبيبة موسرة كثيرة النعم، شريفة رفيقة الهمم، تقلد إماءها عقود الفرائد، ولا ترضى لهن بالدون من القلائد).
ويرفع إعصار من الطّيب لا يرى
عليه انتصار كلما سحب المرط
أجارتنا إن صاب دارة قومنا
ربيع فأضحى من منازلنا السنط
إذا حملتك العيس أودى بأيدها
جلالك حتى ما تكاد به تخطو
كلما رفعت مرطها ثار إعصار من العطر لا يقاوم. وقوله (إن صاب دارة قومنا ربيع) أراد أن الربيع أصاب بلاد الشاعر فأخصبت فانتجع إليها قوم المحبوبة، فأصبحوا جيرة. والسنط والسلط، بالنون واللام بلدة موجودة إلى اليوم في الأردن.
وحين نصل إلى هذا الحد من الوصف، يتأكد لدينا أن الشاعر حين قال في وصف المحبوبة (أودى بأيدها جلالك) فإنه لم يقصد بدانة المرأة وضخامة جسمها وإنما قصد جمالها وجلالها.
ولا يخفى أن الجمال والجلال لهما وزنٌ ووطأةٌ تحسّ بهما الإبل كما يحس البشر!
وقد صدق الخوارزمي حين لمع المعنى في خاطره فجأة فقال:
(هذه الحبيبة موسرة كثيرة النعم، شريفة رفيقة الهمم، تقلد إماءها الفرائد ولا ترضى لهن بالدّون بالقلائد).