رد: مقالات الطيب صالح في "المجلة"
27-02-2009, 12:02 PM

الطيب صالح : ماذا قال أول حاكم عام للسودان؟!
الطيب صالح
29/03/2007



> لا شك أن السودان، حين فتحه الإنجليز عام 1898، كان في حالة بالغة التعاسة.
كان السودان من الناحية الاقتصادية والسياسية والإنسانية، على درجة من الانهيار يصعب تصورها. بعد قرابة عشرين عاما من حكم (المهدويين) وخاصة الخليفة عبد الله التعايشي الذي خلف الإمام محمد أحمد المهدي بعد وفاته، كان عدد سكان السودان قد انخفض من ثمانية ملايين وخمسمائة ألف إلى مليوني إنسان. ويقول (ماكمايكل): (لقد أزيلت قرى بأكملها من الوجود، وتوقفت الزراعة، ونفقت قطعان الماشية، وقطعت أشجار النخيل، واستشرت الإغارة على الدقيق، ولم يكن هناك أمن أو ضمان للحياة أو الأموال. كان التمرد يقابل بانتقام وحشي، مما تمخض عنه الضغائن والكراهية والشكوك في كل منطقة. لم تبق هناك أي سلطة قبلية إلا وسط القبائل الرّحّل في مناطق لم تصل إليها جيوش الخليفة مثل الكبابيش ...).
عندما أخذت الحكومة الجديدة تبسط سلطتها، وجدت أن حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي عمت البلاد قبل الاحتلال، كانت حافزاً كبيراً للأهالي أن يأملوا في أوضاع أحسن. ويمضي (سير هارولد ماكمايكل) فيقول: (أما هدف المحتلين الواضح من نشر العدل وإشاعة الرحمة والتعمير بدل الهدم، فقد قوبل بارتياح كبير من الجميع بغض النظر عن ولاءاتهم السابقة. واتفق على أن إقامة حكم لا مركزي شامل سوف يكون ضرورياً وحكيما في كل المستويات. ومع أن اللورد كرومر قام بعدة زيارات إلى الخرطوم وباشر إشرافاً حكيما ومفيداً على مسار تقدم البلاد، إلا أنه لم يكن راغباً في إدارة السودان من القاهرة، كما لم يكن لدى الحاكم العام وموظفيه رغبة أو إمكانية لإدارة المديريات التي قسمت إليها البلاد من الخرطوم ...).
هذا كلام ليس فيه أي مبالغة، فكون غالبية شعب السودان، بعد سنوات من الغليان والحروب والانتفاضات وحملات القمع البالغة القسوة. والضرائب الفادحة، قد وجدوا نظاماً بديلاً للحكم، لاغرو أنه نظام أجنبي مفروض من الخارج، لكنه كان نظاماً (عقلانياً) يتوخى العدل.
لذلك لم يرفضوه رفضاً صريحاً، ثم قبلوا به تدريجياً.
إن القبائل في مراكز (الوعي) والاستقرار في الشمال والوسط والشرق والغرب، تعرضت إلى محنة حقيقية من جراء حكم يستند إلى أقل مناطق السودان تقدما. فنشأ نظام فوضوي يرتدي زيا من التطرف الديني. ولا شك أن تلك القبائل مثل الشايقية والجعليين في الشمال، والكبابيش والشكرية وغيرهما، بذلوا جهوداً متعددة للخلاص من حكم الخليفة عبد الله التعايشي. ولا يستبعد أنهم اتصلوا بقوى أجنبية.
هذا، ولم يكن صعباً على الحكام الجدد، بأفكارهم الحديثة المجربة في الحكم والإدارة، واحترامهم الموروث للقوانين، وتأثرهم بالفلسفات الليبراليه من جامعتي (أكسفورد) و(كيمبردج)، والفرص الواسعة التي أتاحها لهم التحكم في مساحات شاسعة متنوعة التخوم والمناخات، أن يقيموا في بلاد السودان، نظاماً مستقراً للحكم هو على النقيض تماماً من نموذج الحكم الذي أقامه الخليفة (عبد الله التعايشي).
أعلنوا أن النظام الجديد يقوم (على العدل والرحمة)، وهي عبارة تتردد في البيانات الرسمية مثل (موتيف) في سمفونية موسيقية من كتشنر حتى نيوبولد.
في التقرير السنوي لعام 1899، يقول (لورد كتشنر) أول حاكم عام للسودان، موجها حديثه للمديرين والإداريين ومفتشي المراكز: ( عليكم من أجل إقامة العدل في المديريات، أن تكونوا حريصين جدا على أن تروا التمسك بالصيغ القانونية يجري تماماً كما وضعت، وذلك كي تلقى المحاكم المعينة احتراماً خاصاً. عليكم أن تحاولوا بالتحري الدقيق الذي تقوم به المحاكم في القضايا المعروضة عليها الإيحاء إلى الشعب بالثقة المطلقة بأنه قد أعطي عدالة حقيقية.
إنه لمن المهم جدا ألا تفعل الحكومة شيئا يمكن أن يفسر بأنه دليل ضعف، وكل تمرد يجب أن يقمع بسرعة وشدة. وفي الوقت نفسه يجب أن تكون الروح الأبوية في عقاب الجرائم رائدكم في علاقتكم بالشعب، وأن تظهروا الرأفة في معالجة الجريمة الأولى وخصوصاً إذا كانت نتيجة الجهل أو حين يعترف بها علناً. وفي الحالة الثانية يجب أن يكون العفو أكثر من نصف العقوبة تشجيعاً لقول الحقيقة)
التعديل الأخير تم بواسطة فارس... ; 27-02-2009 الساعة 12:07 PM