رد: علي الطنطاوي مربِّيًا
28-01-2018, 10:50 AM
علي الطنطاوي مربِّيًا
(3)
عبد العظيم بدران


على مدى ما يَقْرُب من ثلاثَةِ عقودٍ منَ الزَّمان، تَحَمَّل علي الطنطاوي عبْء التربية والتوجيهِ لِشرائحَ مِن جماهيرِ الأُمَّة، من الذين شغُفوا بالاستماعِ إليه، وخاصَّة في برامِجه:" مسائلُ ومشكلات"، و:" نورٌ وهداية"، و:

" على مائدةِ الإفطار".
ولقد شَهِدَ لِحُسْنِ منطقه وجودة حديثه كثيرون ممن عاصروه، واستمعوا إليه، وتابعوه، ففي ذلك يقول الأستاذ: محمد بن لطفي الصباغ:
" الأستاذ الطنطاوي مُتحدث ناجح في الإذاعة والتلفاز؛ فقد شَهِدَ له الخبراء المخْتَصُّون بأنه أنجحُ متحدث في هاتين الأداتَيْن من أدوات الإعْلام، ويمتازُ بإلقائه الجميل المحبَّب إلى النفس"[1].

أما تُراثُه المكتوب في هذا الإطار التربوي، فقد قدَّم منه للصغار والكبار: "سبْع حكايات من التاريخ"، وهي من أدَبِ الأطفال، و:" في سبيل الإصلاح"، و:" رسائل الإصلاح"، و:" مقالات في كلمات - مجموعتين"، كما تعرَّض في ذكرياته لقضايا تربوية كثيرة، ومن أشهرِها: قضايا التربية والتعليم قديمًا وحديثًا، ومن ذلك ما كتبه بعنوان: " خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم"، و:" ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثْرَ رُسوخًا رغم مساوئه؟"، و: "من ذكرياتي في تعليم التلاميذ وتربية البنات"[2].


بعض آرائه وتوجيهاته التربوية:

يخط الطنطاوي منهَجَه في التربية، فيقول:
" يجب على المعلمين أن يَدُلُّوا التلميذ على الطريق السوِيِّ والخطَّة المستقيمة، وأنْ يعلِّمُوه: من أجدادُه؟، وما حضارَتُه؟، وأن يصبُّوا في نفسه أخْلاقَ العروبة وآدابَ الإسلام، وأن يُحَبِّبوا له العلم؛ حتى يُقْبل عليه بلذَّةٍ وشغف، لا لنيل الشَّهادَةِ والنَّجاح في الامتحان، بل ليستفيدَ في ترْقِيَةِ حياتِه وحياة أمَّتِه، وخدمة بلاده وقومه، وأن يفَهِّموهُ حقائقَ الحياة"[3].
إنَّها كلمات معدودة ومكثَّفة، لا يمكن أن تَصْدُر إلاَّ عن دِرايَة طويلةٍ، وخبرة عريضةِ، وانشغال فكري حقيقي بهذا المجال الحسَّاس.

ويوصي برعاية الأطفال، ورفع الظُّلم عنهم، فيقول:

" ارفعوا الظُّلم يرتفع الإجرام، وأَذْهِبُوا البؤْس يذهب الخطر، واعلموا أنَّ هؤلاء المجرمين الذين تمتلئ بِهم السجون كانوا يومًا أطْهارًا، وأنَّ هؤلاء الأطفال المهمَلين المظلومين سيصيرون يومًا مجرمين أشرارًا، وإن رأس الإجرام ومنْبَعَ الشَّرِّ هو: الذي ظَلَم هؤلاء الأطفال"[4].

ويُسأل عن ضَرْبِ الأطْفال، فيُجيبُ:

" يا سيدي، المسألة ما فيها (نعم) للجميع أو (لا) للجميع، المسألة مرتَبِطة بالشخْصِيَّة والحدث، فبعض الأخطاء ينبغي أن يُضْرب الطفل عليها، وقد يكون هناك طِفْلٌ آخر يكفيه التوبيخُ، وضرب المعلم للطفل في المدرسة ينبغي أن يكونَ مثل ضرب الأب له"[5].

وجدير بالذِّكْرِ - هنا - أن تربويات الطنطاوي التي أودعها تراثَه، قد نالت حظًّا من الدراسة الأكاديمية في صورة رسالة ماجستير بعنوان :" بعض الآراء التربوية للشيخ علي الطنطاوي"، للباحث عبدالله بن جبريل، بجامعة أم القرى، 1420هـ، 1999م.


الطنطاوي وثقافة الطفل:
حَرَص "عليٌّ" على تزويد الطِّفل بالثَّقافة المناسبة لمرحلته العُمْرِيَّة، بعيدًا عن المجَلاَّتِ المترجمة والمقتبسة، وتلك التي تُشَجِّع على السَّرقة والاحتيال، يقول حين رأى مرَّةً مَجلَّة من هذا النوع في يد أحد التلاميذ:
" فجعلت أفَكِّرُ في هؤلاء الأطفال المساكين، كيف يكونون رجالاً صالحين ذوي إرادة وعزم وفهم للواقع وحب للاتحاد، إذا كانت المجلات المدْرَسِيَّة، التي تنشأ لتوجيههم إلى الخير والفضيلة، إنما توجههم إلى الغش والاحتيال؟"[6].

ويقَرِّر حقيقةً تربَوِيَّة، تراءت له بعد طول مِرَاسٍ، وقَدِ اتَّخَذَها العالم الغربي أساسًا في مسيرته التعليميَّة المعاصرة؛ إذ يقول:

" المعلِّم الابتدائي هو الأساسُ، والبناء الذي حدثونا عنه في أمريكا وقالوا: إنَّ فيه مائة طبقة، مائة دَوْرٍ بعضها فوق بعض، لا يقوم ولا ينتفع به إِنْ لم يحْملْه أساسٌ متين غائض في الأرض، والأساس لا يُرَى، ولكنَّ البناء لا يقوم إلا عليه، هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناسُ على حقيقته ولا يقدرونه قدره، ولو كان بيدي شيء من الأمر، أو كان لرأيي قليلٌ من الوزن، لاقترحت أن يشترط في معلم الابتدائي الشهادة الجامعيَّة، وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار، وأن يُعطى مثلَ راتب أستاذ الشهادة الثانوية، نطالبه بالكثير بعد أن نُعْطِيَه الكثير، إنَّ ضعْف معلم الابتدائي لا تصلحه قوَّة مدرس الثانوي ولا أستاذ الجامعة"[7].

وفي حديثه عن المدْخَل التربوي الثقافي المحبب للأطفال، يقول:

" لا أدري لِمَ لم ينتفع المعلمون والمربون بهذا الميل المستقر في كلِّ نفس، فيجعلوا دروسهم ومواعظهم حكايات وقصصًا؟، ولِمَ يَدَعُون الميدان كلَّه لهؤلاء المفسدين، الذين يستغلون وحدهم هذا الميْلَ، فينشرون في الناس القصص المفسدة للخُلُق، من قصص (أرسين لوبين) وأشباهها، أو المفسدة للعقل كقصص السحرة والعفاريت"[8].

إن طول فترة عمل الطنطاوي معلمًا، وتنقله بين البلدان الشامية والجزيرة الفراتية، ثم إلى الجزيرة العربية، قد أكسبه من الخبرات العميقة ما يندر أن يتيسَّر لغيره من المربين؛ لذلك فإن ما أودعه تراثه العلمي عن جوانب التربية وطرائقها جديرٌ بالالتفات إليه قبل غيره.


وقارئ الطنطاوي يدرك جليًّا: أنه اتخذ في طريقته التربوية أساليب عديدة، منها:

" ضرب الأمثال، وإيراد الحجج والبراهين، وسرْد القصص الاجتماعية والواقعية، والحكايات التاريخية، وأسلوب الحوار والاستجواب"[9]، ومخاطبة العاطفة مع العقل، واستخلاص العبر من المواقف، وتوجيه الخطاب للكبار، وكذلك للصِّغار في الموقف الواحد.
وهكذا يستطيع الآباء، والمربون، والباحثون، والمصلحون أن يحصلوا من هذا التراث على خلاصاتِ خبيرٍ تربويٍّ، وأديب تاريخِيٍّ، أودعها أسْفارَه بأسلوبه الغني وصياغته الأدبية الرائقة؛ مما يصعب أن يعثروا على مثيل له لدى غيره.

هوامش:

[1] "ملحق صحيفة الجزيرة"، الرياض، العدد 37، 97، نقلاً عن مجلة الأدب الإسلامي، 9/116.
[2] "ذكريات"، علي الطنطاوي، 6/23، 32، 66.
[3] "من حديث النفس"، علي الطنطاوي، ص52.
[4] "مقالات في كلمات"، علي الطنطاوي، 1/13.
[5] "مجلة الأدب الإسلامي"، 9/117.
[6] "مقالات في كلمات"، علي الطنطاوي، ص77.
[7] "ذكريات"، علي الطنطاوي، 3/263.
[8] ابن الوزير "حكايات من التاريخ"، علي الطنطاوي، ص7.
[9] "مجلة الأدب الإسلامي"، 9/117.