رد: علي الطنطاوي مربِّيًا
13-02-2018, 02:09 PM
لغة الفكاهة:
خلط الطنطاوي ما بثه لقارئه بالظرف والفكاهة وخفة الظل، وذلك دفعا منه للملالة والرتابة، وتحببا لقرائه ومستمعيه، وتخفيفا من وقع بعض الموضوعات، وكسرا لحدتها وآلامها: إن وجدت، ومزجا لبعض الإشارات أو النصائح بشيء من المعاني الخفيفة والطريفة، وقد وردت الفكاهة عنده دون سخرية أحيانا، وأحيانا أخرى ممزوجةً بها.
ولم تخل طرف الطنطاوي من سخريته من نفسه بقصد بث الفكاهة لقرائه أو مستمعيه، ومن ذلك: قوله عن عادته في الاستطراد في الحديث:
" أستطرد وأخرج عن الخط، فإذا انتهى الاستطراد وقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة، فلا أذكر من أين خرجت ولا إلى أين أعود.!"، ثم يردف بقوله: " ولا تسألوني من هو هذا الشيخ؛ فإن المثل خلد ذكر الحمار ونسي اسم الشيخ، ليعلمنا أن خلود الأسماء ليس الدليل على عظمة أصحابها"[52].
وأحيانا يمزج بين السخرية من نفسه ومن الآخرين، يقول:
"وأنا أذكر أن أول سيارة وصلت إلينا وصلت سنة 1916، وخرج الناس ينظرون إليها، فلما رأوها تمشي وحدها لا يسحبها حصان، قال قائل من العوام: إن الجن تسيرها!، فتدافع ضعاف القلوب هاربين، وهربنا نحن الصغار معهم، وضاعت حقيبة كتبي، ونلت على ذلك جزائي!"[53].
وكانت سنه حينئذ أقلَّ من سبع سنوات، وقد حمَّل "علي" هنا كلمة "جزائي" أمانة الإيحاء بنوعية العقاب الذي استحيى من ذكره لقرائه!.
ويتفكه ساخرا بكلمة عامية فصيحة متداولة، إذ يقول:
"واختار (الأستاذ ظافر القاسمي) المطبعة الكاثوليكية في بيروت، فأخرجت الكتاب إخراجا بلغ في فن الطباعة الغاية ولكن من تحت"[54].
وتأخذ كلمة "من تحت" معناها الساخر والفكاهي من سياق حديثه.
وأحيانا يطيل في تفاصيل بعض المواقف المضحكة، فيقول:
"وكان هؤلاء الأدلاء من البدو كلما أكلوا من طعامنا قالوا: أين هذا من (الحنينة)؟!. لا شيء أطيب ولا أمرأ من الحنينة!. فكنا أبدا نشتهي هذه الحنينة، وننتظر أن نذوقها، وهم يعدوننا ويمنوننا. فلما لبثنا هذا اليوم في الخور: أرادوا أن يكرمونا وينسونا ألم التعب بلذة الأكل، فأعدوا لنا الحنينة. جاءوا بالدقيق فعجنوه بهذه الأيدي القذرة، ذات الأظافر السود، وصبوا عليه السمن النيئ ومزجوه به، ثم جاءوا بالعجوة فعجنوها معه، فكانت الأكلة من ثلاثة أجزاء متساوية: جزء من الدقيق، وجزء من السمن، وجزء من العجوة، وانضم إليها جزء مثل ذلك من الرمل الذي طار إليها، وجزء من الشعر الذي نزل من رءوسهم ومن لحاهم فيها، وكنا نريد أن نفطر الصبح، فقالوا: لا، بل تصبرون حتى تأكلوا الحنينة على الريق، فصبرنا وصبرنا حتى اقترب الظهر، ولم تنته الحنينة، ثم جاءت، فأقبلوا عليها بأيديهم يكبكبون ويرمون في حلوقهم، وجئت لآكل فلم أستطع، فجاءوني بملعقة لم تغسل من خمسة أشهر ويومين، عليها أربعة وثلاثون غراما من الأوساخ، فحاولت أن آكل بها فلم أقدر، فأخذت بين إصبعي شيئا من هذه (الآفة) التي اسمها الحنينة، وأغمضت عيني ووضعتها في فمي، فغثت نفسي، فقمت فلفظتها بعيدا"[55].
وتظهر براعة الأديب هنا في مقدرته على الحفاظ على خفة الظل في مداد قلمه تماما كما هي في طيات صوته.
ومما ساقه في السخرية المضحكة من بعض ما لم يقدر على استيعابه قوله:
"وجدت في الرياضيات مصيبة تهون معها المصائب، هي الجذر التكعيبي. ولقد مرضت بعد ذلك حتى أشرفت على الموت، وغرقت في بحر بيروت، وأنا لا أحسن السباحة حتى عاينت الهلاك، وذقت السجن مدة يسيرة في حاشرة، ولكني لم أجد أشد ولا أصعب من الجذر التكعيبي..!".
ولا يترك "علي" هذا المقام حتى يربطه بآخر يشبهه، إذ يقول:
" وليس أصعب منه إلا حل رموز اللوحات التي وضعتها أمانة العاصمة في شوارع مكة لتدل الناس على الطرق، فلم أقدر أنا ولا وجدت مَن قدر على حلها، حتى أخي شيخ أساتذة الرياضيات! شرق (أ)، (ب) شمال، ق.ل.م جنوب غرب!، ما معنى هذا؟، ولمن وضعت اللوحات؟!، ما دام لا يفهمها الناس؟"[56].
وإن كنت أظن أن بهذه الإيماءة الأخيرة جزءا من المبالغة عنده.
ويسوق طرفة استقاها – فيما يبدو – من موقف رآه، فيقول:
"ولقد ضايق الأولاد المضيفة مرة، يَعدون بين رجليها، يكادون يُسقطون طباقها وكؤوسها – يقصد مضيفة الطائرة – فقالت لهم: يا أولاد اقعدوا أو اطلعوا العبوا (برا)!"[57].
لقد نجح "علي" بروح الظرف والفكاهة التي عبَّق بها كتاباته وأحاديثه: أن يصل إلى قلوب العامة والخاصة، وأن يقول كل ما يريد دون أن يستثير في المتلقي نوازع الرفض والمخالفة.
كما أنه وظَّف فكاهته أحيانا في إطار السخرية من أوضاع يعترض عليها في الحياة، ومن ذلك قوله:
"من طريف ما وقع لي: أنني مررت في إحدى قدماتي بغداد - لما كنت مدرسا فيها – بمخفر الرطبة، فوقفت سيارة فيها إحدى هؤلاء البنات، فلما جاء الموظف يدون اسمها ونعتها، وجد في الجواز أن مهنتها (أرتيست)، ومعنى الكلمة الحرفي: فنانة، فما عرف كيف يقرؤها، فسأل زميلا له أكبر منه، عراقيا عربيا أصيلا، كيف يكتب الكلمة، فقال له: اكتب...."[58].
إن كلمة "عراقيا عربيا أصيلا"، توحي بأن هذا الرجل قد أعطى خلاصة رأي الكاتب ورأي المجتمع في هذه الأعمال المستهجنة.
ويحكي "علي" عن زيارته للقائم مقام، مازجا حديثه بالسخرية والفكاهة، فيقول: " فاستقبلني مرحبا وقال (يعني القائم مقام): إنه كان يسمع بي ويقرأ مقالاتي ويتابع أخباري، وكان عليَّ أن أصدقه، أو أن أظهر أني مصدقه، ووجدت الموظفين يجلسون حوله كأن على رؤوسهم الطير، فلا يتحركون خشية أن تطير، أما أنا فلم يكن على رأسي إلا طربوشي، ووجدتهم يعظمون فيه الكرسي، لا ينظرون إليه، وإنما أنا أرى الرجل وأكلمه، وأعطيه قدر ما يعطيني"[59].
وفي صوره وخواطره، يكتب الطنطاوي عما يمكن تسميته بسلسلة الأعرابي، ومنها: "أعرابي في سينما"، و"أعرابي في حمام"، و"الأعرابي والشعر"، وقد شحنها بإشارات تحمل من السخرية والضحك والإيحاءات الكثير، وجمع فيها بين أطراف الزمان والمكان، وتوغل بها إلى دواخل النفوس وآفاق الشعور لدى قطاعات من المجتمع.
من ذلك ما ذكره في حلقة "أعرابي في حمام"، إذ يقول:
"ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد، فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري: إن رأيت من أحد شيئا أكرهه وجأتُه به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق. وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً، ثم التف على فخذيه، فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون، وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)!
قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة.
ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان، وجلست لا أنبس، فلم تكن إلا هُنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قَزدية[60]، إلا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه، فلببته وقلت له:
• يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه، لأمزقن عمرك..!، وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك ويضحك الناس ويعجبون من فعلي؛ لأن عمل هذا الرجل فيما زعموا، تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم".
وفي موقف آخر يكمل الطنطاوي المشهد، فيقول:
"قال لي صاحبي: هلم إلى الحمام. فقلت: وما الحمام يا ابن أخي؟.
قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر.
قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه، فأغتسل وأتنظف.
قال: هيهات.. إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟.
قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورِهْ.
وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً، فقلت له: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟، قال:
إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا، فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنا، فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج، ولكن صاحبي ألحّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت، وإن روحي لتزهق حزنا على أني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال.. حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما من مسلم؟، أما من عربي؟، أتكشف العورات في هذا البلد، فلا يغار أحد، ولا يغضب إنسان؟.
فهدّأ صاحبي من ثورتي، وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟، قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة، وتذهب عني في العرب، فتكون فضيحتي إلى الأبد؟.
قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟، هلا انتظرت!.
فانتظرت وسكت، فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزارا، فيحجبني به حتى أنزع أزراري وأتزر به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى، فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضل فيها الخرّيت، وهي مظلمة كأنها قبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دار الشياطين، وجعلت ألتمس آية الكرسي، فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختم لها هذه الخاتمة..."[61].
ويستطيع قارئ الطنطاوي هنا: أن يكتشف هذه الطريقة الأدبية التي حبَّذ الكاتب إحياءها، حين استعار شخصية "الأعرابي"، ثم أنطقها في مواقف شتى بما يجيش في خواطره، ويعتمل في داخله من آراء حول الحياة العامة من حوله، وتطوراتها المتلاحقة.
لقد استطاع أديبنا أن يوجه نقده غير المباشر على لسان هذا الأعرابي لبعض الظواهر المجتمعية والأخلاقية حين نجح في أن يخلع عليه شخصية الراوية "الحارث بن همام البصري"، الذي أنطقه الحريري - في مقاماته الشهيرة - بكل ما أراد نقده، فيما يتصل بالحياة الاجتماعية والسياسية حينئذ.
لقد أودع الطنطاوي كلماته هذه معاني مزدوجة وعمقا تاريخيا، وها هو يصرح في ذكرياته بأن هذه القصص التي كتبها هنا "متخيلة"، إلا أن بعض الباحثين قد ظن أن ما ورد فيها حقائق، واستشهد بها في بعض بحوثه. يقول عن ذلك:
" كتبت مرة قصصا متخيلة عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: (أعرابي في الحمام)، و(أعرابي في سينما)، و(الأعرابي ونقد الشعر)... قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها السوالم لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن ولا بلغتها العجمة، وكان ذلك خيالا مني، فأخذ ذلك الأستاذ (...)، فوضعه في بحث له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية"[62].
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطنطاوي لا يذكر ذلك على سبيل السخرية من الباحث الذي نقل عنه، وإنما من أجل التنبيه على حقيقة ما كتبه، لئلا تستقر في الأبحاث والأذهان أن هذه حقائق، وما هي كذلك.
كما أن هذا النقل من النصوص "المتخيلة" لأديبنا ليس هو الأوحد، ولقد ذكر الطنطاوي في ذلك مواقف أخرى، وكان حديثه من أجل التنبيه على أن ما نُقل عنه على أنه حقيقة إنما هو من وحي قلمه، وعن ذلك يقول:
" لي كتاب اسمه (قصص من التاريخ)، آخذ فيها أسطرا معدودة، أو حادثة محدودة، فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة... من هذه القصص: ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسام المسلمين وتقاعسهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعملت ما تقدر عليه: قصت ضفائرها، وبعثت بها إلى سبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق، ليكون منها قيدا لفرس من خيول المجاهدين، ويقول المؤرخون: إنه خطب خطبة عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة وأيقظت الهمم، فلما كتبت القصة على طريقتي، ألفت أنا خطبة قلت إنها التي ألقاها على الناس. وحسب الناس أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى أن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ: عبد الله الخياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبة سبط ابن الجوزي"[63].
ولعل ما يذكره الطنطاوي هنا يعد اعتذارا للحقيقة العلمية والمراجع التاريخية، وهو من طبعه – كما ذكر ذلك عن نفسه - لا يحب أن ينسب إليه ما ليس من عمله، تماما كما لا يحب أن يسرق مجهوده العلمي دون الإشارة إلى ما بذله فيه.
ولأنه كان يخشى ما حدث بالفعل، فقد حرص على أن يكتب في هامش قصصه التي استوحاها من التاريخ (أصل هذه القصة سطران في كتاب كذا).
إلا أن الدكتور "محمد رجب البيومي" يعتبر هذه الجملة صادمة للقارئ، ويرى أنه لا مبرر لذكرها، يقول عن ذلك:
" كنت آخذ على الطنطاوي أنه يكتب القصة في خمس عشرة صفحة ممتازة حقا بتصويرها وتعبيرها ومغزاها، ثم يقول في الهامش: (أصل هذه القصة سطران في كتاب كذا)، فلم هذا التعليق؟!، إنه يصدم القارئ بعد أن يعيش في جو القصة الرهيب، والناقد الأدبي يعرف سلفا أن القصة مستوحاة من سطر أو سطرين حينئذ، فلماذا نصدم القارئ العادي بهذا التعليق؟"[64].
ولعل بعض ما ذكره الطنطاوي عن هذه النقول من قبل باحثين وخطباء، لبعض نصوصه وقصصه وخطبه المتخيلة يبرر له ضرورة ذكر هذه الجملة في هامشه، حرصا منه على رواية التاريخ وأمانة النقل التي نادى بها، وقدَّمها على ما دونها، وخشية منه كذلك أن يُحمد بما لا يفعل.
أما مأخذ الدكتور البيومي في ذلك، فهو في محل أدبي معتبر، ولكن إذا حصلت المزاحمة بين إثبات رواية التاريخ وعزوها إلى مصدرها، وبين تقديم القصة الأدبية الرائقة بإهمال عزوها لمصدرها التاريخي؛ فإن الأَولى هو: تقديم ذكر الرواية وعزوها لمصدرها[65].
وأخيرا، تتبدى للباحث هنا نتيجة بينة، وهي: أن مقدرة الطنطاوي الأدبية قد أثبتت – من خلال هذه المواقف – أنه حين يضرب في عمق التاريخ ويتمكن من نواصي الكلم، فإن حدود الفصل بين كلماته التي كتبها في القرن الرابع عشر الهجري، وبين ما كُتب قبل قرون مديدة، لا تكاد تتبين لنفر من الباحثين، وهذه شهادة أخرى لأصالة قلمه وجزالة صياغته.

يتبع إن شاء الله.