درر ذهبية من سورة المائدة /الوفاء بالعهود وخمسة عشر نداء من الله
29-01-2013, 03:23 PM
بسم الله الرحمان الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته







ذرر ذهبية من سورة المائدة /الوفاء بالعهود وخمسة عشر نداء من الله




أخواتي الفضليات إخوتي الأفاضل بعدم رأينا تبليغ سورة البقرة للإنسان مسؤوليته في الأرض لا حظنا كيف جاءت سورة آل عمران لتحثه على الثبات ثم سورة النساء لتبلغنا أنه حتى نثبت لا بد من أن نحقق العدل والرحمة مع الضعفاء خاصة مع النساء(وسأفرد لها موضوعا بإذن الله) عند توقفي مطولا في سورة المائدة لاحظت أنها جاءت لتأمرنا بالإيفاء بالعهود و كأنها تأمرنا بإيفاء تلك العهود المدكورة في السور السابقة .....سورة الوفاء بالعهود ومعها خمسة عشر نداء من الله عز وجل




تعريف سورة المائدة



سورة المائدة سورة مدنية ومنها ما نزل في مكة بعد حجة الوداع نزلت بعد سورة الفتح، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة النساء وعدد آياتها 120 آية وهي السورة الوحيدة في القرءان التي ابتدأت بـ (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ...).
وتكرّر هذا النداء في القرءان كله 88 مرة، منها 16 مرة في سورة المائدة لوحدها.
يقول عبد الله بن مسعود: "إذا سمعت (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ) فارعها سمعك فإنه أمر خير تؤمر به أو شر تنهى عنه". ومعنى (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ) أي يا من آمنتم بالله حقا يا من رضيتم بالله ربا يا من أقررتم بالله معبودااسمعوا وأطيعوا




وقد تناولت كسائر السور المدنية جانب التشريع بإسهاب مثل سورة البقرة والنساء والأنفال إلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب قال أبو ميسرة :المائدة من أخر ما نزل من القران ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة




لماذا سميت بسورة المائدة


لقد كتبنا أنها سورة تتحدث عن الوفاء بالعهود فما الذي يربط بينها وبين المائدة

قالى تعالى (إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء قَالَ ٱتَّقُواْ ٱلله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللهمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ * قَالَ ٱلله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ) الاية 112-115


فالآية الأخيرة هي آية محورية (قَالَ ٱلله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ)أي فمن ينقض العهد بعد إنزال المائدة فارتبطت قصة المائدة بقصة قوم طلبوا آية من الله تعالى فأعطاهم ربهم ما طلبوا وأخذ عليهم عهدا شديدا، إن نقضوه فسوف يعذبون عذابا شديدا
أما بالنسبة لأمتنا فقد أعطاها الله تعالى في هذه السورة الآية المحورية (ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً) هذه الآية منحة ربانية مشابهة للآية التي أعطيها الحواريون المائدة وهم قد وفوا بعهدهم فهل سيفي المسلمون بعهدهم؟




هدف ســــــورة المائـــــــدة



هدف هذه السورة الكريمة واضح في أول نداء جاء فيها (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ) أي أوفوا بعهودكم لا تنقضوا الميثاق والعقود تشمل ما عقده الإنسان من إفراد الله عز وجل في العبودية ومن المسؤولية عن الأرض واستخلاف الله له إلى أمور الطاعات كالصلاة والحجابإلى ترك المحرمات كشرب الخمر وأكل الحرام
وقد نلحظ أنه لم يتكرر نداء (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ) في أي سورة كما تكرر في سورة المائدة (16 نداء) فسورة البقرة مثلا فيها عشرة نداءات مع أن عدد آياتها أطول. هذه النداءات تشكل محاور السورة، فكلما يأتي نداء منها ترى بعده محورا جديدا للسورة فيه تفاصيل الأوامر أو النواهي. 16 أمرا والسورة تنقلنا من أمر إلى آخر، لتأمرنا بالإيفاء بالعقود.
ففي السورة نرى آخر آية أحكام في القرءان:( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً) من التي أنزلت في حجة الوداع
هنا يظهر هدف الآن وقد تم الدين فالتزموا بالعهد مع الله وحافظوا عليه، فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. إنها سورة الحلال والحرام في الإسلام



محـــــاور الســـــــورة




كما ذكرنا فكلما يأتي نداء (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ)تنتقل بنا السورة إلى محور جديد وأحكام جديدة تفصيلية والملفت أن كل آيات السورة تدور في فلك هذه المحاور التي تبيّن أحكاما كثيرة في الحلال والحرام:


1. الطعام والشراب والصيد والذبائح.
2. الأسرة والزواج.
3. الإيمان والكفارات.
4. العبادات.
5. الحكم والقضاء والشهادات وإقامة العدل.
6. تنظيم علاقات المسلمين والأديان الأخرى، خاصة اليهود والنصارى.


هناك تركيز في السورة على الحلال والحرام في الطعام والشراب والصيد والذبائح. وهذا يتناسب تماما مع اسم السورة "المائدة" فالطعام من أهم ضروريات الحياة ومع ذلك فيجب مراعاة الحلال والحرام فيه فما بالك بغيره من شؤون الحياة؟ أيضا خلال هذا الكم الهائل من أحكام الحلال والحرام في السورة يأتي التأكيد دائما على أن التشريع ملك الله وحده من أول آية (إِنَّ ٱلله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) إلى أن تأتي ثلاث آيات تحذر من الحكم بغير ما أنزل الله، كقوله تعالى( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ)




النداء الأول: (أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ)



(يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ)1
بتحليل الله تعالى لنا بهيمة الأنعام للذبح والطعام؟

إن أول ماذكر بعد طلب الوفاء هو ما قد أحل فلم يبدأ ربنا بما قد حُرِّم (أُحِلَّتْ لَكُمْ) وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمةوهذه طريقة ينبغي على الدعاة اتباعها لئلا يكون منفرا فكلمة (أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ) توحي بأن الخطاب بعدها شديد اللهجة فتأتي مباشرة كلمة لكسب القلوب فالداعية لا يجدر به أن يبدأ مع من يدعوهم بما قد حُرّم عليهم، لأن الأصل في الأشياء الإباحة فيبدأ بما أبيح أولا ثم ينبههم إلى المحرمات بعد ذلك
وإلى جانب الرحمة واللطف في الخطاب، هناك معنى لطيف في النداء الأول: أوفوا بالعقود حتى لا نضيّق عليكم دائرة الحلال، كما كان الحال مع اليهود
والملفت أن هذا المعنى أشارت إليه السور المحيطة بسورة المائدة 'النساء والأنعام' فنرى في سورة النساء قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)
وفي سورة الأنعام (وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ...).
لماذا كان هذا التحريم؟(... ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ)
فهم لم يوفوا بعهدهم مع الله فضيّق عليهم بعض الحلال عقاباً لهم، فحذار أيها المسلمون من أن يصيبكم ما أصابهم




النداء الثاني (لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱلله)


(يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱلله.. )
يا مؤمنين لا تغيِروا معالم دين الله تعالى من أوامر ونواهي


(... وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْىَ وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ وَلا ءامّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْوٰناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ)

فالآية الأولى: أقرّت ضروريات الحياة (الطعام)، ثمّ الآية الثانية: بدأت بتقرير مبادئ إنسانية عظيمة:
- العدل تأكيداً على هدف سورة النساء بإقرار العدل ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ... أَن تَعْتَدُواْ)
- التعاون تأكيداعلى إحدى رسائل سورة آل عمران (الوحدة وعدم الاختلاف) (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاََعاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ)
وهذه الآية تشمل آلاف الصور من العلاقات الاجتماعية التي تندرج تحت البر والتقوى والتعاون.
- التقوى (وَٱتَّقُواْ ٱلله إِنَّ ٱلله شَدِيدُ آلْعِقَابِ)
لتذكرنا بأن هذا الكتاب (هُدًى لّلْمُتَّقِينَ)كما جاء في أول سورة البقرة.
وبعد ذلك في الآية الثالثة ( حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ...)
فأول عقد ينبغي الوفاء به هو طيبات الطعام فلا يجوز أن يأكل المرء أكلا فيه خبث...
وبعدها في الآية الخامسة ( ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ)
وهنا قد أرشدت الآية إلى حلالين : الطيبات من الطعام والطيبات من النساء سواء كنّ مؤمنات أم من أهل الكتاب بشرط أن يكنّ محصنات وذوات خلق متين. وفي هذا لفتة رائعة إلى تسامح الإسلام مع أهل الكتاب، في نفس السورة ذات اللهجة الشديدة في الخطاب معهم ونقض عقائدهم. فالله تعالى أحل لنا النساء العفيفات سواء كنّ مسلمات أو من أهل الكتاب.
وفي نفس الآية يأتي قوله تعالى(ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً) هذه الآية محورية كونها ختام الأحكام في القرءان وعلاقتها مع موضوع السورة أنه لا وجود للعهود إلا بعد الإتمام. فبما أن الدين اكتمل، عاهد الله تعالى أيها المؤمن على الإيفاء بعهده والالتزام بشرعه. يا ترى هل أحسسنا يوما بهذه النعمةنعمة إتمام الدين وشكرنا الله تعالى عليها؟
جاء رجل من اليهود إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "يا أمير المؤمنين، إنكم تقرأون آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً". فقال عمر: "وأي آية؟" فقرأ اليهودي هذه الآية، فقال عمر: ''قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله تعالى لنا عيد".
وهنا ملاحظة لطيفة أخرى:
إن أكثر آيات السورة اختتمت بشدة وخاصة آيات المقدمة (إِنَّ ٱلله شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) و (إِنَّ ٱلله سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ)
إلاّ الآية الثالثة التي ذكرت حكم الاضطرار (فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ..) فقد اختتمت بسعة رحمة الله تعالى (فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ)


النداء الثالث (طيبات الروح)




(يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ...)
قد يتساءل البعض عن سبب ورود هذه الآية في وسط الكلام عن العقود والوفاء بها. فالواقع أن الآيات بدأت بطيبات الطعام ثمّ طيبات الزواج وكلها ملذات الدنيا وبعدها انتقلت الآيات إلى طيبات الروح وطهارة الروح التي تبدأ بالوضوء وبهذا تكون السورة قد اشتملت على جميع اللذات: لذة العبادة بالإضافة للذائذ الطعام والزواج.
ويمكننا أن نستشعر خلال هذه الآيات شمولية الإسلام في الأحكام، فأحكام المعاملات قد أتت في السورة جنبا إلى جنب مع أحكام العبادات



ملاحظة جميلة في سورة المائدة




كل 10 آيات تقريبا تأتي آية لتذكرنا بعهد الله وميثاقه. لقد ذكر العهد والميثاق في السورة 11 مرة في آيات صريحة وواضحة كأنها تقول للمسلمين "الآن وقد تمّ المنهج ووضح الميثاق، فهل ستلتزمون به؟" فتأتي الآية السابعة لتقول (وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا...) وهنا علاقة رائعة مع سورة البقرة التي مدحت المؤمنين في ختامها (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ) البقرة 285 بينما بنو إسرائيل كان قولهم (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)البقرة 93 أرأيت كيف تترابط سور القرءان الكريم وتتكامل في مواضيعها وأهدافها.




النـــــداء الرابع (العدل)


ويستمر تتابع الآيات بعد ذلك إلى أن نصل إلى النداء الرابع
(يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱلله إِنَّ ٱلله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون).
فبعد أن تناولت الآيات إيفاء العقود في الطعام والشراب والزواج والوضوء، انتقلت إلى عقد مهم جداً (العدل) ولو مع الناس الذين نبغضهم، ولو مع الناس الذين نحاربهم. إن هذه الآية قاعدة هامة من قواعد تسامح الإسلام وعدله مع الفئات الأخرى.





النداء الخامس (ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله)







الآية (11) تذكرنا أن الله تعالى قد حفظ المؤمنين من غدر أعدائهم، فاتقوا الله يا مؤمنين وأوفوا بعهده: (يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ)
فالله تعالى يفي بعهوده معنا سبحانه، ومن هذه الوعود الربانية الرائعة ما ذكر في الآية التاسعة: (وَعَدَ ٱلله ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)




فهل سنفي بعهدنا أمام الله تعالى؟
  • بنو إسرائيل وعقودهم
وبعد ذلك تذكر لنا السورة في ربع كامل نماذج من فئات لم تفِ بعهد الله تعالى وميثاقه، ولم تنفذ (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)كما أمرها الله تعالى وهم بنو إسرائيل (وَلَقَدْ أَخَذَ ٱلله مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱلله إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ وَءاتَيْتُمْ ٱلزَّكَوٰةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱلله قَرْضاً حَسَناً لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ)

فماذا كانت النتيجة؟ (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) إنها آية شديدة في التحذير من أن نكون مثلهم فيحل علينا غضب الله ولعنته.
  • قصة موسى عليه السلام مع قومه
وتنتقل بنا الآيات إلى قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل حين طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة (أرض فلسطين) التي كتبها الله تعالى لهم ووعدهم فيها (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـٰسِرِينَ & قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا..)
رفضوا ونقضوا عهد الله تعالى، فكان العقاب الرباني (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى ٱلاْرْضِ)حرّم الله عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة.
وقد أشرنا أن السورة بدأت بقوله تعالى بـ (َيـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ...)
للحثّ على إيفاء العقود حتى لا يضيّق الله دائرة الحلال على الأمة وهنا في القصة نرى أن الله تعالى ضيّق على بني إسرائيل لنقضهم عهودهم.

فالقاعدة العامة في السورة "إذا أوفى المرء بالعهود فإن الله تعالى يوسّع عليه وإن نقضها فإنه تعالى يضيق عليه".
  • قصة ابني آدم عليه السلام
(وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءادَمَ بِٱلْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـٰناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلاْخَرِ...)
فابن آدم قتل أخاه متهورا بسبب الغضب والحسد والغل، وأما علاقة قصة ابني آدم عليه السلام بقصة بني إسرائيل ودخولهم الأرض المقدسة هو أنهما نموذجان لنقض العهود: بنو إسرائيل نقضوا عهد الله تعالى لجبنهم، وأما ابن آدم فلقد نقض العهد لتهوره، فهما نموذجان معاكسان لبعضهما، وكلاهما يؤدي لنقض العهد مع الله تعالى. والإسلام يأمرنا دائما بالوسطية في كل شؤون الحياة.
ثم تأتي الآية (32) بعد القصة مباشرة للتعقيب عليها (مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) لما صوّر لنا القرءان الكريم بشاعة جريمة القتل في قصة آدم عليه السلام، أتت الآيات التي بعدها بأحكام شديدة للقضاء على الفساد، فبيّنت حدود الحرية والسرقة والإفساد في الأرض.
والجدير بالذكر أن العالم لم يعرف إلا في عصرنا هذا موضوع الحق العام في الفقه القانوني، بينما نجد القرءان قد سبق هذه القوانين بـ 1400 عام، فالله تعالى يبيّن بشكل واضح (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً) فالجريمة ليست اعتداء على فرد، وإنما هي خطر على المجتمع، وهناك حق عام لا بد أن يؤخذ.





يتبع بإذن الله...................
التعديل الأخير تم بواسطة مُسلِمة ; 29-01-2013 الساعة 05:58 PM