رد: مقالات الطيب صالح في مجلة المجلةح في "المجلة"
27-02-2009, 12:00 PM
بريطانيا لم تستعمر السودان صراحة
الطيب صالح
23/03/2007



أقاموا في السودان بالفعل (نظاماً هجيناً) للحكم، ليس له نظير في القانون الدولي. ويقول (سير هارولد ماكمايكل) في كتابه (السودان)، إن بريطانيا فعلت ذلك مراعاة لمقتضيات العدل والسياسة.
لعل مقتضيات السياسة كانت هي الغالبة على مقتضيات العدل. كانت بريطانيا هي الدولة الكبرى في ذلك العهد، أواخر القرن التاسع عشر. ولو أنها فرضت نفوذها الكامل على السودان صراحة، لما استطاعت أي قوة أخرى أن تمنعها من ذلك.
الدول التي كانت ذات علاقة بما يجري في السودان، كانت مصر، وتركيا العثمانية.
ومن الدول الأوروبية كانت فرنسا تتلمظ لتنال قضمة من الكعكة في السودان، إذا صح القول!
أما مصر فقد كانت في هذه الفترة، مغلوبة على أمرها، تتبع اسمياً لنفوذ الدولة العثمانية المريضة المتآكلة، وتخضع في الواقع لنفوذ الدولة الاستعمارية الكبرى، بريطانيا.
لم يكن الباب العالي في اسطنبول، ولا الخديوي في القاهرة هو المتصرف في شؤون مصر، بل كان (لورد كرومر)، المندوب السامي لبريطانيا، وأحد دهاة المستعمرين، وصناع الامبراطورية. ويمكن القول أن لورد كرومر، كان هو العامل الفاعل في السياسة البريطانية من اسطنبول إلى وسط إفريقيا.
وكان من غير المستغرب أن يقول (سير هارولد ماكمايكل) في هذا الكتاب: (لقد قبلت بريطانيا المسؤولية لرعاية مصر وإنهاضها وأصبحت السلطة النيابية لمدة سبعة عشر عاما. لقد انقذت بريطانيا مصر من الخراب المالي والسياسي ومنحتها حكومة نظامية وجيشا مقتدراً وأمنا وعدلاً وازدهاراً. وقد صانتها من عواقب تهورها وسوء أحوالها ومن غزو جيوش المهدي.
وبثقلها في المجالس الأوروبية، فإن بريطانيا تمكنت من دحض ادعاءات الآخرين الذين دفعوا بأن السودان قد أصبح بعد إخراج المصريين منه، إقليما مباحاً للاستيلاء عليه من قبل أول قادم. وأخيراً بعون رجال مصر وأموالها، ولكن بقيادة بريطانيا والقوة الدافعة التي كانت متاحة لها، سحقت قوة الخليفة ووضعت نفسها في وضع يمكنها من إنهاض السودان أيضاً!).
أما فرنسا، الدولة الاستعمارية التالية في المرتبة لبريطانيا، فقد غامرت بإرسال حملة عسكرية من الشرق بقيادة الرائد مارشان،عبر نهري البارد والسوباط. وكان هدف فرنسا أكبر من احتلال (فشودة) البقعة التي عرفت بها هذه الحملة. كان هدف فرنسا كما يقول (سير هارولد ماكمايكل) هو إخراج بريطانيا من السودان، ومن مصر في نهاية الأمر.
لكن القوتين الاستعماريتين توصلتا إلى اتفاق، بعد أن كادتا تدخلان في حرب.
يبدو لي من هذا الكتاب الشيق، أن بريطانيا لم تستعمر السودان صراحة وتنفرد بحكمه قولاً وفعلاً لعدة أسباب:
أولاً لم تجد في السودان إغراء كافيا للاستيطان فيه كما حدث في كينيا ووسط إفريقيا. كان طقسه كما وصف لورد كرومر (رديئا جدا). لقد اكتشفوا بعد ذلك أماكن ومناخات أكثر إغراء.
ثانياً، كان من الواضح أن بريطانيا أرادت أن تستعمر السودان بأقل ثمن.
كان ضباط الجيش في الغالب بريطانيين، لكن غالبية الجنود كانوا مصريين وسودانيين. وحتى نفقات الحملة القليلة نسبياً، حملوها مصر، كما حملوا مصر دفع العجز في موازنة السودان، في السنوات الأولى للحكم الثنائي.
ثالثا وجد البريطانيون في مقاتلي الثورة المهدية، مقاتلين أشداء ذوي شجاعة وروح معنوية عالية جدا. رأوا كيف أن (الدراويش) كما كانوا يصفونهم أبادوا حملة (هكس باشا) بأكملها، وكيف أنهم قاتلوا بشراسة في معركة (أم درمان) رغم التفوق التكنولوجي للقوة الغازية.
خافوا أن يدخلوا في مغامرة لا يستطيعون أن يتنبأوا بنتائجها، تورطهم أكثر فأكثر في (وحل) السودان، لذلك دخلوا السودان يضعون على رؤوسهم الطرابيش، وكأن ذلك سوف يعصمهم ولو إلى حين من غضب الشعب.
ويضيف (سير هارولد ماكمايكل) سبباً آخر، وهو أن بريطانيا لم تكن راغبة في إثارة مخاوف فرنسا، أنها باستيلائها المطلق على السودان، بالإضافة إلى سيطرتها (المقنعة) على مصر، تكون قد سيطرت على حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب. ولم يكن (سونربري) رئيس وزراء بريطانيا، راغباً في الدخول في حرب ضد فرنسا، خاصة بعد أن عقدت فرنسا حلفاً مع روسيا.
الغموض والثنائية في الوضع القانوني والسياسي للسودان، تبلور في وظيفة الحكم العام، فبناء على الاتفاقية البريطانية المصرية لعام 1899، التي صارت بمثابة دستور للسودان، تنص المادة الثالثة: (تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان، إلى موظف واحد يلقب (حاكم عموم السودان) ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية.
(للحديث بقية)