رد: القانون الجنائي للأعمال
05-12-2011, 09:34 PM
الفصل الأول
ضرورات التدخل الجنائى فى مجال الشركات التجارية
إن تلاقى القانون الجنائى والشركات التجارية، باعتبارها عصب حياة الأعمال، قد شغل الفقه منذ سنوات طويلة واقتضى الأمر الخلاف حول ضرورات هذا التدخل على رأيين: الأول يرى ضرورة استبعاد النظام العقابى القائم على دعائم جنائية مفضلا التسامح و التغاضى عن بعض الأفعال غير المشروعة عن ذلك النظام القائم على الشك والاشتباه في القائمين على الإدارة في مجال الشركات . غير أن البعض يتحدث عن ضرورة اختيار الطريق الجنائى لردع الانحراف وضبط حركة الإدارة داخل الشركة ولا يرون في تلاقى القانون الجنائي وحياة الشركة بالوضع الحالى سوى انعدام الفاعلية فى بعض النواحى مما يتعين إحداث التعديل في هذه العلاقة دون فصمها كلية. ولقد أظهر المشرع الفرنسى ميلا للرأى الثانى الأمر الذى أصبح سمه وعلامة لقانون الشركات الفرنسى والذى يضم بين جنباته قسما كاملا للنصوص العقابية في مجال الشركات تتعدى نحو 160 مادة. هذا الاختيار من قبل المشرع الفرنسى يوجب البحث في دعائمه (مبحث أول) كما يوجب التساؤل حول العوامل التي ساهمت في تطور هذا الفرع من أفرع القانون الجنائى (مبحث ثان).

المبحث الأول
دعائم التدخل الجنائى لحماية الذمة المالية للشركة
للتعرف على دعائم التدخل الجنائى في مجال الشركات التجارية يتعين علينا أن نبرز المصدر الذي ينتمي إليه هذا الشكل من أشكال التدخل. وهنا يتفق الفقه على أن القانون الجنائى الذي يخص مجال الشركات التجارية هو أحد الفروع الهامة التي ساهمت في نمو الفرع الجنائى الأكبر المسمى بالقانون الجنائي للأعمال . وإذا كان هنا اتفاق على ذلك إلا أن هناك اختلاف حول المعيار الذي على أساسه اعتبرت جرائم الشركات ضمن جرائم الأعمال Criminalité d’affaires وتتسم بسماتها، وهذا التساؤل يهمنا نحن الدارسين المصريين و العرب نظراً لحداثة فرع القانون الجنائى للأعمال وندرة الدراسات حول كثير من جوانبه. هذا الأمر يتعين علينا إيضاحه (فرع أول) قبل أن نبين الجدل حول التدخل الجنائى فى هذا المجال (فرع ثان) والأسباب التى دعت إلى قبول هذا التدخل (فرع ثالث).




الفرع الأول
معايير تصنيف جرائم قانون عقوبات الأعمال
لقد شهدت المجتمعات الأوروبية، ومنها المجتمع الفرنسى، في نهايات القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين تطورا هائلا في مجال المعاملات التجارية الأمر الذي استدعى الحاجة إلي نظام عقابى خاص لهذا المجال أطلق عليه تسمية القانون الجنائي للأعمال Droit pénal des affaires. هذا الأمر يشهده المجتمع المصرى منذ منتصف السبعينات على أثر إتباع سياسات الانفتاح والرأسمالية مما أدى إلى خلق طبقة جديدة عرفت باسم طبقة رجال الأعمال، تلك الطبقة التي مارس بعض المنتمين إليها أنشطتهم فى إطار قانونى مهلهل وغير فعال، ويكفى للتدليل على ذلك الأزمة التي شهدتها مصر على أثر شركات توظيف الأموال التى فى مكافحاتها على المستوى الجنائى لم تفلح نصوص النصب وخيانة الأمانة بعقوباتها الفاضحة. هنا بدأت الأصوات تطالب بالتدخل الجنائى فى مجال الأعمال للإحداث الأثر الرادع ولضبط حركة المعاملات التجارية داخل المجتمع، الأمر الذي سيؤدى، فى السنوات القادمة، إلى نمو دراسات القانون الجنائى للأعمال من جانب المشتغلين بالدراسات الجنائية في مصر. فما هو هذا الفرع الذي يطل برأسه علينا ويدفعنا التطور الاقتصادى في المجتمع المصرى إلى التعرف عليه.
نبدأ بالقول إلى أن هذا الفرع يتسم بالغموض الشديد بحيث أنه من المتعذر أن نضع له حدودا واضحة مما دعا البعض إلى الاكتفاء بالقول بأنه هناك قانون جنائي خاص يتعين على المشتغل بالمعاملات التجارية التعرف عليه دون الحاجة إلى التعمق أكثر من ذلك في تحديد تعريف لهذا الفرع . وربما ينشأ هذا الغموض نتيجة عدم وضوح فكرة المعاملات التجارية ذاتها Affaires التي يحكمها فرع قانونى خاص يسمى باسمها يطلق عليه قانون الأعمال Droit des affaires . نخلص من ذلك إلى أنه ليس هناك تعريفا واضح وواحد للقانون الجنائي للأعمال وكل ما يمكن قوله إلى أنه فرع قانونى يحكم عالما يسمى بذات الاسم (عالم الأعمال) دون أن يستطيع الباحث القانونى التعرف على حدوده بدقة .
غير أن المتخصصين فى مجال القانون الجنائى للأعمال Pénalistes des affaires يتفقون على عدة معايير لتعريف هذا الفرع ولتحديد المعيار الذي على أساسه تدخل جرائم الشركات في عداد ما يعرف بجرائم الأعمال. هذه المعايير تنقسم إلى ثلاث: الأول معيار حصرى نوعىCritère énumératif et qualitatif ، وهو معيار قانونى يجد مصدرة في النصوص التشريعية والتوصيات الدولية إلى جانب بعض السمات الخاصة بالجريمة ذاتها مثل تعقيدها و خطورتها إلى جانب فنيتهComplexité, gravité et technicité . أما المعيار الثانى هو المعيار الشخصىCritère subjectif الذى يؤسس على فكرة الصفة المهنية للجانىQualité professionnelle du délinquant . أما المعيار الثالث فهو المعيار الموضوعى Critère objectif الذى يبنى على فكرة المشروع الاقتصادى والتجارى و التى تشغل بال الجنائيين منذ فترة بعيدة.





أولا: المعيار الحصرى والنوعى Critère énumératif et qualitatif

هذا المعيار فى تحديد القانون الجنائى للأعمال وما يندرج تحت لوائه قد تم يبنيه من قبل المشرع الفرنسى من خلال نصوص القانون رقم 75–70 الصادر فى 6 أغسطس عام 1975 والذى ينظم الاتهام والتحقيق والحكم فى الجرائم الاقتصادية والمالية. فهذا القانون قد أنشأ جهات قضائية متخصصة، يطلق عليها المشرع الفرنسى اسم الغرف الاقتصاديةChambres économiques لتختص بالجرائم المنصوص عليها حصراً فى المادة 704 من قانون الإجراءات الجنائية وتأتى على قائمة هذه الجرائم جرائم الشركات المنصوص عليها بالقانون رقم 66–537 الصادر فى 24 يوليو 1966 علاوة على الجرائم الخاصة بالتسوية والتصفية القضائية للمشروعات وجرائم التشييد والملكية الذهنية والضرائب والجمارك والاستهلاك والبورصة والبنوك وأخيرا الجرائم الماسة بحرية المنافسة التجارية.

غير أن المشرع لم يجعل من اختصاص هذه الغرف بهذه الجرائم مبدأ عاماً اكتفاء بالمعيار الحصرى للجرائم لكنه أضاف معياراً مكملاً يعتمد على السمات الخاصة للجريمة. فإلى جانب لزوم توافر الطبيعة الاقتصادية والمالية لهذه الجرائم، والتى حددها المشرع تحديداً حصرياً منعا لكل جدل فقهى، فإن المشرع تطلب لزوم توافر قدر من التعقيدComplexité فى الجريمة حتى تدخل فى اختصاص الغرف الاقتصادية المنشأة بهذا القانون. ويهدف هذا المعيار إلى التضييق من عدد الجرائم المحالة لهذه الجهات وجعل مناط اختصاصها خروج الجريمة عن الفروض العادية لها وارتكابها بطرق معقدة يصعب الكشف عنها.
ولقد استشف الفقه من هذا أن ما يوصف بجريمة الأعمال إنما هى الجريمة التى تتصف بالطابع المالى إلى جانب اتصافها بالتعقيد. هذا التعقيد يكشف عنه الواقع القائم حاليا فى حياة الأعمال. فالانحرافات المالية يستخدم فى ارتكابها هياكل وهمية (كالشركات الوهمية) تمثل مجرد واجهة دون أن يكون لها وجود حقيقى. ويدخل فيها أيضا الجهات الائتمانية والبنوك إلى جانب مشروعات أخرى مساعدة تأخذ فى الغالب الشكل الهرمى وتمارس نشاطها فى إطار عبر وطنى أو متعدد الجنسيات . هذا التعقيد الذى يظهر أيضا فى المهارة التى يتمتع بها الجانى فى مثل هذه الجرائم، والذى يطلق عليه المجرم ذو اللياقة البيضاء, والذى يتستر خلف المستوى الاجتماعى المرموق والذى يسمح له بتسيير الصفقات المشبوهة يعاونه فى ذلك كبار رجال السياسة والحكم فى إطار عمليات الرشوة التى بدأت تأخذ حاليا نمط من أنماط المشروعية الواقعية بين صفوة رجال الأعمال ورجال السياسة والحكم .
غير أن هذا المعيار فى تعريف جرائم الأعمال والقانون الجنائى للأعمال، القائم على تعداد الجرائم إلى جانب فكرة التعقيد المالى والاقتصادى فى ارتكاب الجريمة, رغم تبنية على المستوى الدولى ، ورغم ما يتسم به من وضوح وسهولة قد وجهت له عدة عيوب تحد من هذه المزايا.
فعلاوة على أن هذا المعيار يعد بعيدا عن إرادة المشرع الذى لم يقصد تحديداً وضع تعريف لجرائم الأعمال، فإن الجريمة الموصوفة بهذا الوصف لا يشترط فيها أن تكون على قدر من الخطورة أو التعقيد أو الأهمية. فكما يشير أحد الفقهاء إلى أن الجرائم الموصوفة "بالأعمال" يمكن أن تكون على قدر من البساطةPeuvent être minimes وكونها لا يثير ارتكابها انتباه العامة ولا وسائل الإعلام فإنه لا يغير من طبيعتها أو وصفها. فيمكن لبعض التصرفات البسيطة أو العادية ولكنها ترتكب على سبيل التكرار أن تحدث أثرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية أكثر مما تحدثه قضية واحدة كبيرة تشد انتباه وسائل الإعلام والعامة من الناس. فالاستيلاء على جزء من رأس مال أحد الشركات يمكن لنا اعتباره جريمة أعمال حتى ولو انصب الأمر على مبلغ بسيط سواء اتخذ المدير فى ارتكابه للجريمة تدابير للتستر على جريمته وإخفائها أم لا. وعلاوة على ذلك فإن استخدام هذا المعيار يمكن أن يخرج جرائم عديدة تكثر فى عالم الأعمال كالرشوة والنصب والتزوير دون أن يعطى تبريراً لهذا الاستبعاد .
أمام هذه الانتقادات، لجأ الفقه فى تحديد مفهوم جرائم الأعمال وبيان الرابطة التى تربط كل من جرائم الشركات بغيرها من الجرائم التى يضمها فرع القانون الجنائى للأعمال إلى تبنى معيار يقوم على الصفة المهنية للجانى. مع اعتبار هذا المعيار معيار أساسى يمكن تكملته بعد ذلك بمعايير أخرى.

ثانيا: الصفة المهنية للجانى كمعيار أساسى La qualité professionnelle comme critère de base
اقتضى النقد الموجة للمعيار السابق فى تعريف القانون الجنائى للأعمال وبيان الرابطة بين جرائم الشركات وجرائم الأعمال اللجوء إلى معيار شخصى يبنى على الصفة المهنية للمجرم، الأمر الذى دعى البعض إلى القول إلى أن رجال الأعمال ذاتهم هم محور اهتمام هذا الفرع، سواء أكانوا أشخاصا طبيعية أو معنوية، رغم تعدد الطوائف التى تدخل تحت هذا الوصف دون أن يجمعها قدر من التجانس. وعلى ذلك يخرج من ذلك الأفراد العاديين حيث لا يجوز ملاحقتهم تحت وصف التجريمات التى تدخل فى عداد جرائم القانون الجنائى للأعمال، اللهم إلا تحت وصف الاشتراك إذا ثبت تدخلهم فى صفقات أملين تقليد هذه الطبقة . فجرائم الأعمال تخص إذا القائمين على إدارة المشروعات التجارية بغية الإضرار بالغير ممن يدخلون فى علاقات تجارية مع هذه الأخيرة. وما توصف هذه الجرائم بجرائم الأعمال إلا لأنها تمثل انتهاكا من قبل مهنيين أوجبت النصوص المتناثرة بالمدونات والقوانين ووفقا للأعراف التجارية بين المهنيين وما يربطهم من مواثيق شرف Codes de bonne conduite تحكم نشاطهم التجارى احترام واجب الأمانة فى إبرام الصفقات التجارية وفى تنفيذها.
لاشك أن هذا المعيار قد مس جانبا من الحقيقة, فالجانى فى هذا المجال يجب أن يكون فى جميع الأحوال مهنيا، فهذه الصفة هى القاسم المشترك بين جميع الجرائم التى يتفق الفقه على اعتبارها داخلة فى هذا الفرع القانونى وتعد بمثابة الشرط المفترض لمثل هذه الجرائم. ولنا أن نمثل بمدير الشركة الذى يساهم بقراراته الخاطئة فى إفقار الذمة المالية للشركة وكذلك المدير الذى يتلاعب بسوق الأوراق المالية لتحقيق أرباح طائلة غير مشروعة. ولنا أن نمثل أيضا بالتاجر الذى يتلاعب بدفاتره التجارية بنية التهرب من ضريبة الأرباح التجارية والصناعية المستحقة للدولة عن نشاطه أو بالسماسرة والوسطاء démarcheurs فى حالة إبرام بيوع تعسفية مع المستهلكين ولنا أن نضيف إلى ذلك من يتدخل بأسماء مستعارة كالعمال أو الإداريين بالمشروع لتهيئة عمليات النصب والغش التى يباشرها القائمين على الإدارة. خلاصة القول إلى أن هذه الصفة تخص كبار رجال الإدارة بالمشروعات التجارية ممن يمارسوا المهن الحرة والحرفيين والتجار .

غير أن اتخاذ الصفة المهنية كمعيار مطلق لتعريف جرائم الأعمال يعيبه أن قد يدخل فى طائفة هذه الجرائم أفعال ترتكب بواسطة مهنيين ولكنها أبعد ما تكون عن حقيقة جرائم الأعمال ولنا أن نمثل مثلا بالرعونة أو عدم الاحتراز فى القيادة التى يرتكبها أحد رجال الأعمال أو الفعل الفاضح أو المخل بالآداب المرتكب من رئيس أو عضو مجلس إدارة إحدى الشركات أو السرقة المرتكبة من أحد الموظفين بالشركة، ومن أجل تجنب هذا التوسع فإنه من المناسب اللجوء إلى معيار تكميلى يقوم على فكرة المشروع التجارى كمحدد لقانون جنائى الأعمال ولما يعتبر من قبيل جرائمه.



ثالثا: المشروع التجارى كمعيار تكميلى L’entreprise comme critère complémentaire

يختلف الفقه فى تعريف المشروع التجارى على مذهبين الأول مضيق ناظراً للمشروع على أنه وحدة للإنتاج تهدف إلى الربح داخل السوق والثانى موسع ينظر إليه على أنه تنظيم يهدف إلى الإنتاج أو التبادل أو تداول الأموال والخدمات. فهو وحدة اقتصادية وقانونية تجمع بين عناصر إنسانية ومادية بغية القيام بنشاط معين . وآيا ما كان الخلاف على مستوى فقه القانون التجارى فى تعريف هذه الفكرة فإنه على المستوى الجنائى قد رأى البعض إلى أنه لتوصيف الفعل بأنه جريمة من جرائم الأعمال فإنه يتعين علاوة على ضرورة ارتكاب الفعل ممن يتمتعون بالصفة المهنية, أن يرتكب الفعل داخل المشروع التجارى سواء أكان ذلك لحسابهم الشخصى أو كان لحساب المشروع ذاته.

وعلى ذلك فلقد عرفت الأستاذة دلماس مارتىDelmas-Marty ، أستاذة القانون الجنائى بجامعة باريس وأحد أكبر المتخصصين فى فرع القانون الجنائى للأعمال، هذا الفرع بأنه "الفرع من القانون الجنائى الذى يعاقب من ناحية على الاعتداءات على النظام المالى والاقتصادى والاجتماعى وعلى ما يمس رفاهية الحياة ويعاقب من ناحية أخرى على الاعتداءات على الملكية والثقة العامة وعلى السلامة الجسدية للأشخاص إذا ما تصرف الجانى داخل مشروع تجارى سواء كان ذلك لحسابه الشخصى أو لحساب المشروع ذاته إذا ما كان أسلوب ارتكاب الجريمة يرتبط بسلطات اتخاذ القرار اللازمة لمباشرة المشروع لنشاطه" .

هذا المعيار منظورا إليه كمعيار موضوعى نميل له حيث تبرز أهميته فى إسباغ نوع من الوحدة العضوية على القانون الجنائى للأعمال. فهذا الأخير يبدو على أنه كوكبة غير متجانسة من الجرائم وكمجموعة من التجريمات، الشبيهة بالجزر البلقانية، التى تهدف إلى خلق نوع من المنطق الجنائى يتناسب مع الإجرام فى محيط الأعمال . هذا التبعثر ينشأ فى حقيقة الأمر، كما قال أحد الفقهاء، عن الغموض وعدم الدقة التى تحيط بمصطلح "الأعمال" ذاته. فلهذا المعيار الفضل فى خلق نوع من الوحدة بحيث يكون طبيعيا معالجة جرائم الشركات مثلا مع الجرائم فى محيط قانون العمل وقانون حماية المستهلك أو البيئة حيث يجمع كل هذه الجرائم رابطة قرابة وتشابه مؤداها أنها تقع بواسطة مهنيين فى إطار المشروع التجارى والاقتصادى. علاوة على أن هذا المعيار يبرز لنا العلة التى من أجلها تدخل الجرائم العامة المتعلقة بالأموال (النصب - خيانة الأمانة) ضمن ما يعالجه الفقه تحت مفهوم جرائم الأعمال حيث تقع هذه الجرائم داخل المشروع التجارى وترتبط بنشاطه الإنتاجى .

الفرع الثانى
الجدل حول ضرورات التدخل الجنائى فى محيط الشركات

إذا كانت العلاقة بين القانون الجنائى للشركات والقانون الجنائى للأعمال قد أوضحناها حيث يظهر هذا الأخير بمثابة الأسرة أو العائلة التى تضم فى طياتها جرائم الشركات إلا أن العلاقة بين قانون الشركات والقانون الجنائى ذاته ما زالت محل جدل فقهى كبير يتنازعه الفقه بين رافضين للتدخل الجنائى فى محيط الشركات وبين مؤيد لهذا الاتجاه وبين الاتجاهين يقف البعض عند حد القول بأن القانون الجنائى فى محيط الشركات يتصف بعدم الفاعلية، وهو الأمر الذى سنبينه على نقطتين نخصص الأولى للاتجاه الرافض الذى يرى عدم ضرورة اللجوء إلى الشكل الجنائى لحل التنازع بين المصالح الناشئ بين المساهمين والقائمين على إدارة الشركة مكتفين بالحلول التى يكفلها القانون المدنى والتجارى فى هذا المجال، بينما نخصص الثانية للاتجاه القائل بأن الشكل الحالى للتدخل الجنائى فى محيط الشركات مصاب بعدم الفاعلية مبررا هذا بالعديد من الأسباب.


أولا: رفض الحماية الجنائية للذمة المالية للشركة

من وجهة نظر تجارية بحته فإن بعض الفقه قد رأى فى النصوص الجنائية التى بدأت تغزو الحقل التجارى والقوانين التى تنظم هذا الميدان، ومنها بالضرورة قوانين الشركات, تدخل غريب عن هذا الجسد ولا يمكن التسامح فيه إلا على مضض Tolérée à contrecœur . هذا القيد الجنائى يسير فى اتجاه مناهض لما تقتضيه حرية الحركة الواجبة فى حياة الأعمال والروح التى يجب أن تسود المشروع وهى الجرأة التجارية وتجريب إستراتجيات جديدة للنهوض بالمشروع ورفع إنتاجيته، وبالجملة حرية الحركة للقائمين على الإدارة الأمر الذى لا يمكن التوفيق بينة وبين التهديد بالجزاء الجنائى ، مما دعى أحد كبار فقهاء القانون التجارى إلى أن يأسف إلى أن عصر النهوض بالشركات (خاصة شركات الأموال) قد صاحبة تدخل من قبل القضاء الجنائى . ودعا فقيه أخر إلى القول بأن هذا الأسلوب هو أسلوب من أساليب العصور القديمة ولا يتناسب مع الدور الذى يجب أن تلعبه الشركات فى الاقتصاد الوطنى .
ولقد تعجب احد الفقهاء الأمريكان من الأسلوب الذى اتبعه المشرع الفرنسى فى قانون الشركات الصادر فى عام 1966 بتكثيف النصوص الجنائية داخلة قائلا: إن واضعى نصوص القانون الخاص بعام 1966 قد استكملوا عملهم بنصوص جنائية ذات حجم وقسوة ليس لها مثيل فى دول العالم المتمدين ولى أن أتسال بأى منطق قد قبل واضعو هذا القانون معاملة مديرو الشركات على ذات النسق الذى يعامل به الأشقياء أو المنحرفون .
‘‘Les auteurs de la réforme de 1966 ont complété leur ouvrage par des dispositions pénales d’une ampleur et d’une sévérité sans doute inégalée dans le monde civilisé…Je me demande par quel processus de raisonnement, les auteurs de cette loi ont cru néanmoins traiter les dirigeants des sociétés sur le même plan que les malfaiteurs‘‘.

وفى الحقيقة لقد برر واضعو نصوص التشريع الفرنسى الخاص بالشركات التدخل الجنائى وقسوة الجزاءات الجنائية فى هذا المجال بالتخفيف الذى سوف يحدث لهذه النصوص على المستوى العملى. فمن ناحية فإن النيابة العامة لها سلطة الموائمة والتقدير فى توجيه الاتهام بموجبها لا يقع بين يد القضاء إلا الجرائم الخطيرة أو التى تحدث ضررا اقتصاديا مؤثرا. ومن ناحية أخرى فإن القضاء ذاته يمكن أن يطبق هذه السلطة التقديرية عند اختيار الجزاء الجنائى مقدرا أحيانا اللجوء إلى استعمال العقوبات المخففة أو إيقاف التنفيذ فى أحيان أخرى .

غير أن هذا التبرير لم يفلت من النقد حسبما أشار به البعض من أن إدارة الشركة لا تستوجب هذا الحشد من النصوص الجنائية، كما أن النيابة العامة ليست وحدها السلطة التى تمارس قبضتها على الدعوى العمومية، فهذه السلطة يجب أن تتقاسمها مع المدعى المدنى أحيانا. كما أنه إذا كان بعض القائمين على تحريك الدعوى العمومية من رجال النيابة على دراية بالقواعد والقوانين الجنائية فى المجال التجارى والشركات فإن هذا لا ينطبق على جميع النيابات الأمر الذى ينطبق بدورة على القضاة .
ثانيا: عدم فاعلية الحماية الجنائية للذمة المالية للشركة

فى إطار النقد الموجه للتدخل الجنائى فى محيط الشركات فإن بعض الفقه قد رأى هذا التدخل بالشكل الذى هو عليه الآن أمر تعيبه عدم الفاعلية. ويظهر ذلك بوضوح فى حالة ما إذا كان القائمين على إدارة الشركة من قبيل القوى الاقتصادية فى المجتمع ويتمتعون بالقرب من الدوائر السياسية فيه. فى هذه الحالة فإن الجريمة فى الغالب تظل خفية وفى حالة اكتشافها ففى الغالب من الأحوال يجرى التعتيم على الانحرافات وفى القليل النادر إذا ما تمت المحاكمة فإن الجزاء الموقع يكون فى الغالب غير رادع وغير كافى . وعلى الرغم من النص على عقوبات جسيمة لجرائم الشركات تتراوح بين الحبس من سنة إلى 5 سنوات والغرامة التى تصل أحيانا إلى مليونين ونصف من الفرنكات فإن الواقع العملى يكشف عن تطبيق نادر لعقوبات الحبس ويقف العقاب الحقيقى عند حد الغرامة التى لا تجد فرصة حقيقية للوفاء بها. ويزداد الأمر غرابة إذا ما علمنا أن العقوبات التبعية لا توقع وفقا للتشريع الفرنسى على جرائم الشركات ، ولعل هذا ما دفع البعض عند تعديل جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات إلى المطالبة بتخفيض عقوبة الحبس من خمسة إلى ثلاث سنوات وإلى رفع عقوبة الغرامة إلى خمسة ملايين فرنك مبررين ذلك بالطبيعة الاقتصادية والمالية للجريمة.

وتظهر عدم الفاعلية بوضوح إذا ما نظرنا إلى أنه على الرغم من كثرة عدد الجرائم المنصوص عليها فى قانون الشركات (حوالى 130 جنحة وأكثر من عشرين مخالفة) فإن معظم هذه الجرائم لم يجد محلا من التطبيق وقليلا منها هو الذى يجد تعليقا من الفقه فى الدوريات المتخصصة. وكما يؤكد البروفسير بلوك Bouloc فإن مراجعة الأحكام التى أصدرتها محكمة النقض فى مجال فى مجال الشركات منذ عام 1966 يظهر أن معظم الأحكام الصادرة قد انصب على جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات وعدد أخر يتعلق بالجرائم الماسة بالنظام المحاسبى للشركةL’ordre comptable وكذلك بالرقابة على الشركة خاصة جريمة عدم الإبلاغ عن وقائع جنائيةLa non révélation de faits délictueux ، وخارج هذه الدائرة فإن الجرائم المتعلقة بتأسيس الشركات وانعقاد الجمعيات العمومية نادرا ما تجد تطبيقا عمليا. بل إن الجرائم الخاصة بتعديل رأس مال الشركة أو المساهمة فيه لم تجد تطبيقا عمليا واحدا .

ولتبرير عدم الفاعلية للتدخل الجنائى فى محيط الشركات فقد أبرز الفقه نوعين من الأسباب الواقعية: الأولى تتصل بقصور الوسائل المتاحة أمام السلطات القضائية لكشف الجريمة والثانية تتصل بالأساليب المالية الملتوية التى تتبعها المشروعات والقائمين على إدارة الشركات.

ففيما يتعلق بالسبب الأول المتصل بالوسائل المتاحة للسلطات القضائية للكشف عن الجرائم فى هذا المجال فإن كما لاحظت الأستاذة دلماس مارتى والأستاذ بلوك فإن الكشف عن جرائم الشركات غالبا ما يتأتى من قبل المجنى عليهLa victime . فقلما يأتى الكشف من قبل السلطات العامة المختصة اللهم إلا إذا كشفت الصدفة البحتة عنها. ورغم الدور الهام للمجنى عليه (المساهم) فإنه قلما يتدخل للكشف عن الانحرافات المالية التى اطلع عليها أو يشتبه فى وقوعها وذلك لعدة أسباب منها أنه قد لا يعلم أنه مجنى عليه أصلا فى الجريمة. فالشخص الذى يبيع أسهمه فى سوق الأوراق المالية فى فترة معينة لعلمه أن الفترة ملائمة قلما يقوم بالإبلاغ عن جريمة المعلومات التفضيليةL’information privilégiée عندما يعلم أن الشخص الذى اشترى الأسهم كان على علم سابق من خلال مديرى الشركة بأن سعر الأسهم سوف يزداد فى فترة لاحقة على الشراء مما يوقع المدير الذى أعطى المعلومات التفضيلية تحت طائلة القانون بوصفة ترتكب جريمة إفشاء سرية معلومات عن الوضع المالى للشركة لا يجوز الكشف عنها فى فترة معينةDélit d’initié . هنا كثيرا ما لا يعلم الشخص أنه مجنى عليه كما لا يعلم أن حقوقه مصونة من قبل القانون الجنائى.

كما أنه إزاء نظرة القضاء إلى أن جرائم الشركات ومنها جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات لا تهدف إلا لحماية الشركة ذاتها كشخص معنوى فإن ممثلى هذا الشخص هم وحدهم القادرين على التصرف على المستوى القضائى. وبالتالى ففى الغالب يتم الانتظار حتى وجود الفرصة المواتية بانتهاء الدور الوظيفى للمدير الذى انحرف بسلطته فى إدارة أموال الشركة حتى يمكن للسلطات الرقابية والقضائية أن تعلم بهذا الانحراف من خلال المدير الجديد أو مجلس الإدارة الجديد أو من خلال الأطراف المشاركة فى عمليات التسوية القضائية عند دخول المشروع فى أزمة مالية توجب تصفيته أو شهر إفلاسه . وبغير مثل هذه الفرصة فإنه لا يتسنى للسلطات القضائية العلم بالانحرافات المرتكبة من قبل القائمين على الإدارة.

ويمكن للبعض القول بأن وجود عضو الرقابة المتمثل فى مراقبى الحسابات Commissaires aux comptes داخل شركات المساهمةSociétés anonymes وبعض الشركات ذات المسئولية المحدودSociétés à responsabilité limitée لا يجعل لهذا السبب من أسباب عدم الفاعلية للتدخل الجنائى فى محيط الشركات أثرا حيث يلزم مراقبو الحسابات بالكشف للنيابة العامة عن الوقائع الجنائيةFaits délictueux التى تصل إلى علمهم (المادة 457 من قانون الشركات الفرنسى) . غير أن هذا القول مردود عليه بأن هذه الرقابة هى الأخرى يعيبها عدم الفاعلية نظراً للوضع الغامض لمراقب الحسابات داخل الشركة حيث تجرى مكافئه هذا الأخير من قبل مديرى الشركات التى يلزمه القانون بالكشف عن جرائمهم . بالإضافة إلى ذلك فإن المجلس القومى لمراقبى الحساباتCompagne Nationale des Commissaires aux Comptes قد أصدر فى 12 سبتمبر 1985 توصية مؤداها أن عمل مراقب الحسابات هو ضمان سلامة المعلومات المحاسبية والماليةFiabilité des informations comptables et financières المقدمة من المسئولين عن إدارة الشركة ولا يجب أن ينفصل الالتزام بالكشف عن الوقائع الجنائية الواقع على عاتق مراقب الحسابات عن هذا التحديد لمهمته داخل الشركة. ووفقا للمنشور الصادر فى 23 أكتوبر عام 1980 الصادر عن وزارة العدل وموجة إلى رجال النيابة العامة فإن الإبلاغ عن الانحرافات المحاسبية والمالية من قبل مراقب الحسابات لا ينطبق إلا بشأن الوقائع الجنائية الواضحةFaits significatifs والعمديةFaits délibérés . وبالتالى فإن على الرغم من وجود هذا العنصر الهام من عناصر الرقابة داخل الشركة فإنه ليست كل الوقائع الجنائية قادرة على الوصول إلى سلطات التحقيق والاتهام والحكم.

يضاف إلى كل ذلك أن القضاء يتشدد فى قبول الدعوى المدنية من قبل بعض الأشخاص كالدائنين والعاملين بالشركة أو المرفوعة من قبل جمعيات الدفاعAssociations de défense ، مثل تلك المرفوعة من تجمع المساهمين المكونين لما يسمى برابطة المساهمين Syndicat d’actionnaires، التى لم تصب بضرر شخصى ومباشر وفقا لما تشترطه المواد 2 و 3 إجراءات جنائية فرنسى .

أما بالنسبة للنوع الثانى من الأسباب التى قدمها الفقه لتبرير عدم فاعلية التدخل الجنائى فى مجال الشركات فتتعلق بالتعقيد المالى أو الأسلوب المالى الملتوى الذى يتبعه المشروع التجارى أو الشركة عند مباشرة نشاطه. ومن قبيل ذلك قيام الشركة, خاصة شركات المساهمة, بشراء أسهم شركة أخرى ثم بيعها إلى شركة ثالثه والقيام بعمليات الاندماج والانشطار. ومن قبيل ذلك أيضا القيام بالعمليات المالية خارج إقليم الدولة وفى مناطق تتمتع بنظم ضريبية متساهلة وتمنح مزايا هائلة لتأسيس الشركات على إقليمها وبنظم بنكية تفرض سرية صارمة على حسابات عملائها (سويسرا, لكسمبورج، موناكو الخ) بحيث يجعل من الصعب إجراء التحقيقات من قبل السلطات الوطنية لتتبع الانحرافات المالية الواقعة. ويتطلب الأمر غالبا وجود تعاون قضائى مع السلطات الأجنبية عن طريق الإنابة القضائية الدوليةCommission rogatoire internationale التى تقف عدة شروط لتحد من فاعليتها كشرط التجريم المزدوجDouble incrimination وعدم الاصطدام مع وجود السر المهنى وبحظر تبادل المعلومات للأغراض ضريبية Fins fiscales.

وعلى الرغم مما يسمح به القانون الفرنسى من منح الاختصاص للقاضى الفرنسى إذا وقع أحد العناصر المكونة للركن المادى للجريمة على الإقليم الفرنسى (المادة 113/2 عقوبات فرنسى جديد – المادة 693 عقوبات فرنسى قديم) وتوسع القضاء الفرنسى فى تطبيق هذا النص عندما قرر فى حكم له صادر فى 7 نوفمبر 1974 بتطبيق جريمة الإخفاءRecel على من يحصل على معلومات تفضيلية تتعلق بأسهم إحدى الشركات المتداولة فى سوق الأوراق المالية حتى ولو كان استعمال هذه المعلومات سيجرى بالخارج ، فإن تدخل وسطاء أجانب وإجراء العمليات على إقليم دولة أجنبية يجعل من الصعب الحصول على المعلومات المفيدة للإجراء التحقيقات مما يؤدى فى النهاية إلى صدور أمر بحفظ أو أمر بالأوجه للإقامة الدعوى .

كل هذه الأسباب تجعل من التدخل الجنائى فى مجال الشركات حبراً على ورق مما لا يردع الانحرافات المالية الواقعة فى هذا المجال ويجعل من الجرائم المنشئة فى هذا الصدد لحماية أداء الشركات حال نشوئها وحال إدارتها مجرد كلمات صماء لا يظهر دورها كصمام أمانSoupape de sécurité إلا فى الحالات الفاضحة.




الفرع الثالث
حتمية التدخل الجنائى فى مجال الشركات

رغم الاعتراف من جانبنا بكل ما قيل حول عدم الفاعلية التى أصابت التدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات فإننا مع ذلك لا نقر أبدا بفكرة عدم لزوم الدور الجنائى فى هذا المجال. فكما أكد أحد الفقهاء إننا لا يمكن القول بعدم جدوى القانون بمجرد أن جريمة ما لم تجد محلا للتطبيق. فمجرد وجودها يردع كثيرين عن مخالفتها Le fait qu’aucune infraction n’ait été relevée n’implique pas l’inutilité de la loi. Sa seule présence dissuade un grande nombre de citoyens de la transgresser . هذه الوجهة من النظر يجب تأييدها حيث تؤكد الشواهد أن حالات الانحراف بإدارة الشركة فى تزايد مستمر وكما يؤكد المنشور الوزارى الصادر فى 20 أكتوبر 1981 عن وزارة العدل الفرنسية فإن اللجوء لنصوص جنائية صارمة هو أمر لا مفر منة من أجل مناهضة الانحرافات المالية داخل الشركات. بل ويدعو وزير العدل فى هذا المنشور القاضى الجنائى إلى التصرف بحزم تجاه إجرام رجال الأعمال حيث يمثل الانحراف اعتداء ليس فقط على المصالح المالية للمساهمين بل على المصالح الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل حيث يهتز الهيكل الاقتصادى والمالى للدولة ذاتها ويهز بالتالى ثقة الجمهور فى سياستها الاقتصادية مما يخش معه هرب رأس المال الوطنى والأجنبى وإحجامه عن الاستثمار فيها.

والواقع أن النظرة الحمائية للمساهمين, خاصة ممن لا يشتركون فى الإدارة ذاتها, وحماية الادخار العام والغير المتعاملين مع الشركة هو الذى شجع على إلباس قانون الشركات الفرنسى طابعة الجنائى حيث فشلت الجزاءات المدنية والتجارية (البطلان والتعويض) فى تحجيم الانحرافات فى الإدارة. ويقول أحد الفقهاء فى ذلك "أنه من أجل حماية الشركاء ودائنى الشركة ضد الأساليب المنحرفة وغير الأمنية للقائمين على إدارتها فإنه لا يكفى التسليم بالمسئولية المدنية والجزاءات المهنية. فإننا فى الواقع لم نجد علاجا ناجعا وأكثر فاعليه من التهديد بالعقوبات الجنائية الصارمة" .

هذه الحقيقة يؤكدها الشعور الدائم للمواطن العادى بأنه لا يعتبر خارجا عن القانون إلا من ينتهك النصوص الجنائية ويعتبر من قبيل الذكاء ودعوة للفخر وأمرا غير مشين التحايل على قواعد القانون المدنى أو التجارى وما يشابهها. من هنا جاء تفضيل الجزاء الجنائى دائما على الأنواع الأخرى من الجزاءات. فالمشرع لدية الاعتقاد أن هذا المنحى يضمن التطبيق الفعال لنصوص القانون بأفضل مما لو ترك الأمر لجزاءات من نوع أخر.

وتنكشف لنا أهمية اللجوء للجزاء الجنائى عندما نحلل البطلانLa nullité مثلا كجزاء مدنى وتجارى طبيعى ومنطقى لأى تصرف تم بالمخالفة للنصوص الآمرة التى تحكم الشركات. فهذا الجزاء يبدو لنا فى هذا المجال, خاصة بعد عدة سنوات من حياة الشركة, كارثة وإجراء غير عادل فى أثاره ويخلق نوعا من عدم الاستقرار فى العلاقات القانونية. فهذا الجزاء له نتائج أكثر خطورة فى مجال الشركات منه فى أى عقد أخر، حيث أن نشاط الشركة يهم طائفة كبيرة من الأشخاص من المساهمين والغير حسنى النية ممن تعاملوا مع الشركة كالعمال بها والموردين وغيرهم ممن يكون رجوعهم على مؤسسى الشركة عند القضاء بالبطلان بحقوقهم أمر تكتنفه الكثير من الصعوبات ويصبح أمرا مشكوكا فيه. بل إن خطورة هذا الجزاء تظهر حينما يمتد البطلان ليس فقط إلى تصرف من تصرفات الشركة ولكن إلى عقد الشركة ذاتها.

ويكفينا دليلا على ضرورة الاستعانة بالجزاء الجنائى فى هذا المجال أنه مع بداية الثلاثينيات من القرن الماضى، حينما بدأ المشرع الفرنسى فى الأخذ بفكرة التدخل الجنائى فى محيط الشركات عن طريق جرائم خاصة بعيدا عن القواعد التقليدية المتعلقة بجرائم الأموال، بدأ عدد المنازعات والانحرافات الخاصة بإدارة الشركة فى التناقص ولا يمكن إسناد هذه الظاهرة إلا للخوف من هذا الحارس الجديد المسمى بالقاضى الجنائى La peur de ce gendarme qu’est le juge pénal.

أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائى فى محيط الشركات التجارية أصبح حقيقة واقعه فى القانون الفرنسى الصادر فى 24 يوليو 1966 ولنا أن نقرر بأن هذا التدخل إنما تبرره ثلاثة أمور:

1- الحاجة لإعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة
2- حماية المصلحة العامة ضد احتمالات الانحراف من قبل القائمين على الإدارة
3- حماية روح المبادأة اللازمة لنجاح الإدارة داخل الشركة
وسنوالى شرح هذه العناصر على النحو التالى:




1- إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركةLe rééquilibrage des pouvoirs sociaux

إن تنظيم إدارة الشركات, وفق قانون 24 يوليو 1966, قد يبدو أنه يتصف بالطابع الديمقراطى الذى يظهر فيه المساهمين وكأن لهم اليد العليا داخل الشركة. فمن خلال تجمعهم فى إطار الجمعية العمومية فإن لهم حق اتخاذ القرارات الهامة فى حياة الشركة، ومنها تعيين وعزل القائمين علي الإدارة ورقابة الأداء والتصديق والأذن ببعض التصرفات، بينما يظهر القائمين على الإدارة فى وضع التابعين.

غير أن هذا المنظور الديمقراطى قد صادفه الفشل. فالتجربة العملية ومنطق حياة الأعمال قد أثبتت أن هناك تناقضا بين ما تضعه النصوص القانونية وبين حقائق التطبيق الواقعى والذى يخفى وراء هذا الشكل الديمقراطى نمطا من حكم الأقلية يتسيد فيه القائمين على الإدارة على قلتهم. فأولئك عمليا يمارسون سلطات واسعة يديرون بها دفة الأمور ويبدو وكأن المساهمين أو الشركاء وقد قد عبروا عن رضاء سلبى أو ضمنى بالتنازل عن السلطة. ويبدون كما عبر الفقيه Ripert بأنهم أصبحوا كقطيع بين يدى القائمين عن الإدارة .

هذا الخلل فى علاقات السلطة داخل الشركة، الذى يبرره فى رأينا فكرة سلبية المساهمينPassivité des actionnaires داخل الجمعيات العمومية ، استوجب الاعتماد على التدخل الجنائى من أجل حماية المساهمين من عسف التصرفات غير المشروعة أو غير الأمينة من قبل القائمين على الإدارة ولإعادة التوازن بين الحكام والمحكومين، على حد قول أحد الفقهاء ، عجزت عن تحقيقه نصوص القانون المدنى والتجارى بل وعجزت أيضا عن تحقيقه الجرائم العامة الواردة فى قانون العقوبات .

فهاهو العميد Hamel فى تقديمه لمؤلف القانون الجنائى الخاص لشركات المساهمةDroit pénal spécial des sociétés anonymes يتسآل هل من الضرورى أن يتدخل المشرع الجنائى فى حياة الشركة ؟ ويجيب على هذا التساؤل إيجابا بقوله : أنه إذا كان صحيحا أن القانون التجارى أو قانون الأعمال هو قانون يتعين أن يدافع من يطبق عليهم عن مصالحه الشخصية بالأسلحة التى يعرفها عالم الأعمال (الوسائل التى يكفلها القانون المدنى والتجارى للاقتضاء الحقوق) دون الحاجة إلى اللجوء إلى السلاح المرعب المتمثل فى القانون الجنائى الذى يجب أن يقف بعيدا عن هذا التناحر, غير أن هذا مشروط بتكافؤ الأسلحة بين الطرفين, بحيث لا يسمح معه لطرف أن يوجه لخصمه ضربة محظورة. وتفحص واقع الحياة داخل الشركة يكشف لنا عن الهوة التى تفصل المساهمين عن القائمين عن الإدارة وعن عدم تكافؤ بين الطرفين ومن هنا كانت الحاجة للجزاءات الجنائية .

غير أن هذا الفقيه قد ارتأى أن الجزاء الجنائى يجب ألا يطبق إلا على رجال الأعمال الذين يتصرفون بقصد الغش. فهذا الأخير يجب أن يكون الأساس للردع الجنائى فى هذا المجال بحيث يترك للجزاءات المدنية الساحة فى حالة التقصير أو الإهمال فى الإدارة.

ويكشف أيضا الفقيه Chavanne هذه الحقيقة حول ضرورة التدخل الجنائى لإعادة التوازن فى السلطة داخل الشركة بقوله: قد يبدو التدخل الجنائى فى حياة الأعمال أمر غير مرغوب فيه كى لا يعرقل روح المبادأة للقائمين على التجارة ويجعلهم يجبنوا عن تحمل المخاطر رغم أن روح المغامرة من بين شروط العمل التجارى والاقتصادى. وقد يبدو هنا كفاية النصوص المدنية، غير أن هذا إذا صح بالنسبة للحياة التجارية العادية حيث يكون التجار جميعا على قدم المساواة فإنه لا يصح بالنسبة لحياة الشركات. فالشركة هى أداة رائعةMerveilleux instrument للنصب على الأشخاص ولارتكاب الانحرافات المالية، ويبدو فيها الشركاء أو المساهمين وكأنهم فى قبضة القائمين على الإدارة مما يوقعهم فى وضع غير متكافئ يوجب اللجوء للردع الجنائى .

ونحن من جانبنا نؤكد صلاحية هذا المبرر لقبول تدخل القانون الجنائى فى مجال إدارة الشركات وبنصوص خاصة تناسب هذا المجال خاصة مع التزايد الكبير فى حجم إجرام ذوى الياقات البيضاء ورجال الأعمال بحيث لا يجب ترك هذا دون رادع فعال. فالحرية التجارية والاقتصادية، التى ينميها حاليا الشعور العام فى العالم بأثره، يجب أن يقابلها قدر من المسئولية، ولا يمكن فى رأينا القول بأن هذا القدر من المسئولية قد تم الأخذ به إلا إذا كان مصحوبا بدعم من النصوص الجنائية .

2- حماية المصلحة العامة La protection de l’intérêt général

بالإضافة إلى هذه الرغبة فى إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة أو بمعنى أخر الرغبة فى رسم حدود معينة لسلطة القائمين على الإدارة فإننا نلمح للتدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات دورا أكثر خطورة ألا وهو حماية المصلحة العامة أو بمعنى أخر الادخار العام فى الدولة من ناحية والغير المتعاقدين مع الشركة من ناحية أخرى.

وتبرر حماية الادخار العام فى محيط الشركات، فى شق كبير منها، نشأة القانون الجنائى للشركات، بل هو المبرر الأساسى إذا تحدثنا عن الشركات بالأسهمSociétés par actions . فالقانون الجنائى فى محيط الشركات يهدف أولا إلى بث الثقة فى الادخار العام كى ينمو ويتطور بل إن تحقيق هذا الهدف يمثل واجب قومىDevoir national حيث يعتبر الادخار أحد القوى المحركة للحياة الاقتصادية ويمثل عصب نموها وهو ما يوجب أن يحس الادخار العام فى الدولة أنه قد توافرت له حماية ملائمة.

ولقد سبق القول بأن التجريمات العامة المبنية على خيانة الأمانة لا تكفى لدعم الثقة وحماية الادخار العام وفشل هذا التجريم كما سبق القول إلى ضيق فكرة المحل الذى يرد عليه النشاط الإجرامى أو إلى طبيعة النشاط ذاته والذى يجب أن ينصرف إلى تغيير فى طبيعة الحيازةIntervention de la possession وانتقالها من حيازة ناقصة إلى حيازة بغرض التملك. غير أن الواقع العملى قد كشف عن أن هناك من الاعتداءات مالا ينصب على مال معين من أموال الشركة بل يصيب أو يضرر بإدارة الشركة ككل لا يتجزأ، ويكفينا مثالا على ذلك الاتفاقيات المعقودة بين مجموعة شركات لتفضيل شركة معينة بعروض إضرار بشركة أخرى دون أن يكون هناك بالضرورة تحريكا لجزء من رأس المال أو أرباح فى صورة ائتمان أو الأضرار التى تنشأ من جانب القائمين على الإدارة نتيجة الإهمال أو الامتناع كالتأخير فى تحصيل حق أو مال معين للشركة لدى الغير.

وتكشف هذه الأمثلة وغيرها، كما يذكر أحد الفقهاء ، عن النقص الذى يعتور التقنينات اللاتينيةCodes pénaux de type latin والتى لا تحتوى على جريمة خاصة "بالإدارة غير الأمنية" Délit de gestion déloyale والتى تعاقب "كل من يقع عليه التزام قانونى أو تعاقدى بأن يسهر على حماية المصالح المالية للغير إذا ما أخل بهذا الالتزام". هذا الفشل استوجب بالتالى التدخل بنصوص جنائية خاصة تتناسب مع حياة الشركة وتتناسب مع الأهمية التى يعنيها المشرع بالادخار العام فى المجتمع.

والادخار العام، الذى ينصرف أول ما ينصرف إلى الأشخاص الذين أصبحوا من حملة الأسهمActions أو السنداتObligations ، يستوجب عدد من العناصر أولها أن يتوافر عنصر نفسى جماعى نحو الاستهلاك الحذر أو الإنفاق المحسوب مما يؤدى فى النهاية إلى تراكم فى رأس المال من قبل الأفراد وثانيها أن يتوافر عنصر إيجابى يتمثل فى أن يجد المدخرينEconomiseurs بعض المصالح أو الأهداف التى ينون تحقيقها عن طريق الاستثمار بمدخراتهم لدى الغير والعنصر الأخير هو أن يتوافر عنصر الثقة والأمان خاصة على الجانب القانونى .

وهنا منشأ الخطورة من ترك الانحراف بإدارة الشركة دون ردع حيث يبدأ انعدام الثقة من قبل المستثمرين أو مالكى رأس المال. فبعض خربى الذمة قد يتوسلون من أجل تحقيق مأربهم باستعمال بعض الحيل من أجل جذب رؤوس الأموال ومنها إنشاء الشركات الوهمية أو التى تمثل واجهةSociétés de façade دون نشاط حقيقى, مع استخدام حسابات مزوره وميزانيات لا تعبر عن واقع الشركة مع توزيع أرباح عالية ووهمية تمثل فى حقيقتها جزء من رأس المال من أجل بث الثقة فى الجمهور. ومن قبيل ذلك أيضا إنشاء شركات وليدةFiliales يكون هدفها امتصاص الأرباح التى تحققها الشركة الأمSociété mère .

وإزاء هذه الخطورة كان لزوم التدخل الجنائى على نسق ما قرره المشرع الفرنسى فى القانون الخاص بالشركات التجارية. فإذا كان الفعل الذى يحدثه القتل يصيب فرد أو عائلة ما فإن فضيحة مالية واحدة قد تؤدى إلى انهيار فى الاقتصاد العام على أثر ما يتولد عنها من تصرفات غير محسوبة خاصة من صغار المدخرين أو على الأقل قد تؤدى برأس المال, الذى يعرف بجبنه، إلى الانتقال من قطاع اقتصادى معين إلى قطاع أخر اللهم إلا إذا أدى الأمر فى النهاية إلى هروبه كاملا إلى خارج البلاد.

وكما ينصرف هدف التدخل الجنائى فى إدارة الشركات إلى حماية الادخار العام المتمثل فى حاملى الأسهم والسندات فإن حماية الغير المتعاملين مع الشركة يمثلا هدفا أخر لهذا التدخل، حيث يتعاظم فى الآونة الأخيرة، كما سبق القول، طرق التحايل المتخذة شكل تكوين شركات وهمية التى لا يكون لها نشاط حقيقى. فإذا كان الاقتصاديين المعاصرين لم يترددوا فى القول بأن الرأسمالية المعاصرة لم يكن لها أى تطور بدون الشركات، خاصة الشركات بالأسهم، فإن لنا أن نقول بأن النصب لم يكن ليأخذ أبعادا حديثة دون الشركات أيضا خاصة شركات الأموال. فيعجز رجل الأعمال بمفردة، مهما تيسرت له وسائل، أن يخدع الغير فى حين يصبح طريقه أكثر سهولة عند ظهوره على رأس إحدى الشركات. فميكانيزم الشركة يعطى خربى الذمة الأداة التى يمكن أن تنصب الفخاخ للجمهور وحائزى رأس المال . فتأسيس شركات الأموال التى تدعو للاكتتاب العام كانت هى أسهل السبل لتجميع الأموال من الجمهور حيث لا يهدف هذا التأسيس إلى الاستفادة بالشخصية المعنوية لتحقيق مصالح الجميع ولكن لتحقيق رغبات قلة من الغامرين الذين يختفون خلف الشركة.

والتكتيك المستخدم لكسب ثقة الجمهور لدفعه إلى إيداع الأموال يبدأ عادة باتخاذ اسم رنان للشركة الوليدة "مثلا البنك الأمريكى الأوربى, أو الشركة الإسلامية ...الخ". بعد ذلك يتشكل مجلس إدارة توضع فيه أسماء عديد من الشخصيات العامة المشهورة وغالبا ما يكونوا من رجال الدين الذين ينالون الاحترام مثل ما عليه الحال فى مجتمعنا المصرى، ثم بعد ذلك يتم تجنيد عدد من المندوبين الماليين يقومون بترويج بيع الأسهم، حتى عن طريق المرور على منازل كبار المدخرين ، وما أن يتم تصريف العدد الكافى من الأسهم حتى يختفى المؤسسون بالأموال المجمعة تاركين وراءهم ألاف الأفراد مع قصاصات أوراق تمثل كوبونات الأسهم التى لم يعد لها قيمة.

كل هذا دعى إلى الاستعانة بجزاءات صارمة ورادعة تكفل الحماية لهؤلاء المتعاملين وتكفل هامش من الأمان والذى بدونه لا يتشجع هؤلاء للتعامل مع الشركة الوليدة. هذا الأسلوب هو ما اتبعه المشرع الفرنسى حيث استبان له عجز جريمة النصب عن كفالة هذه الحماية التى تفترض وفق المادة 313/1 استخدام الجانى, كى يدفع الغير إلى تسليم أمواله إلى استخدام وسائل احتيالية معينة لا يكفى معها مجرد الكذب أو ما يسمى بالكذب العارى. لذا فقد تدخل المشرع بتجريمات خاصة يكتفى فيها بمجرد وأحيانا بمجرد الامتناع الذى قد يخدع الغير حول حقيقة المشروع حتى ولو لم يصاحبه أفعال خارجية مؤيدة وباعثة على الاعتقاد بصدق الجانى.

3- حماية روح المبادأة La protection de l’esprit de l’initiative

حينما يتدخل المشرع الجنائى فى مجال الشركات فإن عليه أن يأخذ فى اعتباره أمرين هامين أولهما أن يضمن مناخا من الأمن لتشجيع الادخار العام، وثانيها ألا يعطى انطباعا بأنه استهدف بالنصوص الجنائية أن يخلق "بعبعا"Epouvantail لإخافة القائمين على الإدارة، الأمر الذى يشعرهم أنهم تحت رقابة دائمة تحجمهم بالتالى عن المخاطرة التجارية المطلوبة من أجل النهوض بالمشروع التجارى.

هذا الأمر هو الذى دفع البعض من رجال العمال إلى التأكيد على أن اللجوء إلى الوسائل الجنائية لا يترك لهم حرية العمل مما يدعوهم دائما إلى طلب التدخل لتعديل النصوص الحالية الخاصة لحماية أموال وائتمان الشركات الواردة فى المواد 420 و437 من قانون الشركات الفرنسى