رد: هام جدا: التنوير العربي: آفات ومعضلات
17-12-2016, 09:02 AM
ثانيا: آفة التقليد:
انطلق التنوير العربي من دعوى الاجتهاد والتجديد ونبذ التقليد!!؟، ولم يكن المقصود من التقليد: غير تدين المسلم بدينه واتباعه لتعاليم الشريعة وأصولها، ذلك التدين الذي صار في نظر التنويريين: مجرد تقاليد ينبغي نبذها وتجاوزها!!؟.
غير أنه وانطلاقا من النظر في سياق انتقال التنوير الغربي إلى العالم العربي والإسلامي، وانطلاقا من تماثل الأسس التي قام عليها كل من التَنوِيرَين -الغربي والعربي، وملاحظة حدود التشابه ومقدار التطابق بين النوعين: يتبين مقدار ما في تجربة التنوير العربي من مشكلة استنساخ النموذج الغربي!!؟، لذلك -وأمام هذه المشكلة- يحق لنا التساؤل:
هل التنوير العربي إبداع أم تقليد!!؟.
وهل هو نابع من خصوصيات الذات، أم هو مقحم عليها قسرا وقهرا!!؟.
وهل حارب التنويرُ العربيُّ التقليدَ السلفيَّ التراثيَّ الزمانيَّ بأدوات اجتهد فيها وأبدع، أم استلفها كما يستلف سائر تصوراته ومناهجه وأدواته من الغرب!!؟.
ألم يكن التنوير العربي بأخذه بالنموذج الغربي: قد سقط في تقليد جديد، وفي:"سلفية مضادة: سلفية غربية علمانية!!؟".
الواقع: أن مسألة استنساخ بعض العرب للتنوير الغربي، وتنزيله على الواقع العربي: باتت قضية مُسَّلمة، ليس مِن قِبَلِ المخالفين لهذا النموذج مِن التنوير، بل مِن قِبَلِ حملة المشروع الغربي في عالمنا العربي، وهم: أوَّل من نادى باستنساخ التجربة الغربية ونقلها، باعتبارها القنطرة الضرورية لعبور الفجوة بيننا وبين التقدم بجميع أبعاده!!؟، وهذا الأمر يؤكده غير واحد من:" دعاة التنوير" عندنا.
فعلى سبيل المثال: نجد الدكتور:( مراد وهبة) يقول:
" إنَّ ثمَّة فجوة حضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، ليس في الإمكان عبورها من غير مرور بمرحلتين:
إحداهما: إقرار سلطان العقل.
والثانية: التزام العقل بتغيير الواقع لصالح الجماهير.
بيد أنه ليس في الإمكان تحقيق هاتين المرحلتين من غير مرور بعصرين: عصر الإصلاح الديني الذي حرر العقل من السلطة الدينية، وعصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل"[2].
كما أكد الدكتور المصري -المتحمس للعقلانية:( عاطف العراقي) نفس الفكرة، حين قال: "عن طريق التنوير نستطيع إرساء نظام ثقافي عربي جديد، إنَّ أوروبا لم تتقدم إلا عن طريق السعي بكل قوتها وابتداء من عصر النهضة نحو تحقيق مبدأ التنوير، وبحيث وجدنا ثقافة أوروبية جديدة، تختلف في أساسها ومنهجها عن ثقافة العصور الوسطى"[3].
هذا الاستنساخ لنموذج التنوير الغربي هو: ما حدا بكثير من الدارسين إلى وصف هذا التنوير بكونه مجرد تقليد خال من أي ملامح الإبداع!!؟.
يقول:( محمد قطب) معددا سلبيات التنوير:" السلبية الأولى هي: التقليد في محاربة التقليد!!؟، فلم يكن شيء مما أنتجه التنويريون في مهاجمة الإسلام أصيلا، ولا صادرا من عند التنويريين أنفسهم!!؟"[4].
وعلى حَدِّ تعبير:( محمد يحيى): "هو في حقيقته ليس تنويراً على الإطلاق، بل محاكاة وتقليد وجمود على أفكار غربية سقطت حتى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص.."[5].
ويعتبر الدكتور:( طه عبد الرحمن) -المفكر المغربي- واحدا من أكثر من اهتم ببيان مشكلة التقليد في الفكر العربي الحديث وحركاته التنويرية، وهو يرى أنَّ: "الغالب على الإنتاج الفلسفي المغربي: الوقوع تحت طائلة تقليد المنقول الفلسفي، حتى بلغ عنده هذا التقليد غايته، فصار المتفلسف المغربي يتقلب في نظرته الفلسفية تقلب هذا المنقول من غير داع سوى طلب التقليد!!؟"، ويدلل على هذه الدعوى بما يجده في هذا:"الإنتاج من مذاهب فلسفية هي عينها المذاهب التي تمخضت عن أسباب معلومة في المجتمع الغربي، واتجهت إليها همم مفكريه، وانشغلت بها عقولهم انشغالا؛ فهناك -كما هو معلوم- الشخصانية والتاريخانية، وهناك المادية والبنيوية، وهناك الحداثية وما بعد الحداثية، من اختلافية وهامشية؛ فهذا يقلد: إيمانويل مونيه، وذاك يقلد: هيغل، وهذا يقلد: ماركس وأتباعه، وذاك يقلد: باشلار وتلامذته، وهذا يقلد: مجموع الأنواريين، وذاك يقلد: فوكو وهيدجر أو نيتشه أو دريدا!!؟، وقد يتقلب الواحد منهم في التقليد، فيبدأ شخصانيا، ثم يصير أشبه بالمادي الجدلي، أو يبتدئ ماديا جدليا، فيصير بنيويا لينقلب على التنوير!!؟؛ والأدهى من ذلك: أنَّ المتفلسف المغربي لا يقع في تقليد المنقول الفلسفي فحسب، بل يقع في تقليد التقليد!!؟، ذلك أنه لا يأخذ هذه المذاهب من أصولها ومصادرها الأصلية في الغرب، بل إنما يعول فيها تعويلا على الكتابات والفهوم الفرنسية لهذه المذاهب لا لاختيار مدروس، وإنما: لاضطرار معلوم (نحو القصور عن معرفة لغات أخرى)، غير أن المتفلسف المغربي يأبى إلا أن يجعل من التقليد اجتهادا، ومن الضعف قوة، ومن النقص كمالا!!!؟؟؟"[6].
يظهر فعلا من شهادة:( طه عبد الرحمن): أن التقليد في الفلسفة العربية، وعند التنويريين العرب: تقليد من أجل التقليد، وتقليد التقليد، وإن كان طه في النص يخص الفكر المغربي إلا أنَّ الحكم ينطبق على الفكر العربي كاملا، فقد أثار الدكتور المسألة في كتابه:" فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة"[7].
وخلاصة القول:
إن وقوع الحداثيين في التقليد هو: في الحقيقة أقوى خطرا وأعظم أثرا من وقوع المفكر المسلم في التقليد، وإن كان كل منهما سقط في التقليد المحظور، إلا أن هناك فروقا واسعة بين التقليدين؛ فتقليدٌ أهون وأدون من تقليد، فالتقليد عند المفكر المسلم: قد ينجم عنه إبطاء مسيرة التطور، وليس إيقافها مع الحفاظ على الذات الحضارية من الذوبان، أما التقليد عند دعاة التنوير، فيقود إلى تجاوز الذات الحضارية، وإلغائها وتذويبها في الآخر، ولو حصل التقدم، فإنه ليس تقدما للذات، وإنما هو: تقدم للآخر في انتصاره على الذات غزوا ومحوا، تغريبا وتغييبا!!؟.

يتبع إن شاء الله.