رد: هام جدا: التنوير العربي: آفات ومعضلات
24-12-2016, 08:59 AM
خامسا: آفة التناقض:
التناقض عند أهل المناظرة موهن للحجج، والعاقل يصون كلامه عن التناقض، درءا لآفة إهمال قوله، غير أن التنويري العربي وقع في تناقضات كبيرة يمكن إبراز معالمها في جوانب منها:
أ - الدعوة إلى التحرر من الامبريالية والمركزية الأوروبية، وممارسة أدواتها وأساليبها في محو الثقافة الإسلامية والعربية، وتكريس واقع التبعية:
إن من:" كبار عيوب التنوير العربي": سقوط أهله في التناقض في هذا الجانب من دعوى التحرر من هيمنة المركزية الغربية، والقيام بوظيفتها في تكريس التبعية الفكرية والمذهبية والسلوكية، فسقطوا في أشنع صور التبعية، وأبشع حالات الاستلاب!!؟.

ب - التناقض بين الدعوة إلى العقل والعلم وممارسة الإيديولوجيا:
قام "التنوير" على الدعوة إلى العلم، وإعمال العقل وتحريره من سلطة التقليد والتعصب المذهبي والانغلاق على المقولات الجاهزة، غير أنَّ المفكر العربي خالف القاعدة، وصار يدعو في الظاهر لذلك، وصنع له في الواقع أصناما إيديولوجية: دعا إليها وحدها دون غيرها، ووظف مقولات العلم والعقل والموضوعية توظيفا ذاتيا ينضح بروح الإيديولوجيا وتحريف الكَلِمِ عن مواضعه، ولم يميز المثقف العربي -جهلا أو تجاهلا!!؟- بين الحقيقة العلمية والحقيقة في العلوم الإنسانية، ولا بين مفهوم الحقيقة ومفهوم النظرية والفرضية، ولا بين العلم وتوظيف العلم!!؟.

ج - التناقض بين الدعوة للاجتهاد والتجديد وممارسة الجمود والتقليد:
سبقت الإشارة إلى آفة التقليد في التنوير العربي، وأنها آفة تتعارض ودعوى الإبداع والاجتهاد؛ لذلك فالنقل الحرفي لهذا التنوير الغربي: أفقد مشروع التنوير العربي قيمته وحقيقته، وانقلب على نفسه، فأفرز نتائج معاكسة!!؟.
أفرز التقليد بدل الاجتهاد، وأفرز الجمود على المقولات الفلسفية والفكرية الغربية دون الاقتدار على تعديلها وتكييفها إلا بعد أن يعدلها أهلها في موطنها!!؟، فلم يستطع أحد من التنويرين الحداثيين العرب: أن يستقل في اجتهاده بإبداع جهازه المفاهيمي، ولا تأسيس منهجه وأدوات اشتغاله بنفسه وانطلاقا من ذاته الحضارية الخصبة.

د - الدعوة إلى الديمقراطية وممارسة الاستبداد:
فالتنوير الغربي نفسه قام نظريا على دعوى الديمقراطية في الخطاب، لكن في الممارسة: قام على ديكتاتورية ألغت كل الأصوات والاجتهادات الأخرى، النابعة من دين الأمة وثوابتها، واحتُكِرت مراكز القرار والتدبير السياسي لصالح دعاة التنوير والعلمنة، وأُقصي كل خطاب مخالف خاصة إذا كان خطابا إسلاميا يحمل مشروعا اجتماعيا وفكريا وسياسيا، وفي التاريخ الحديث والمعاصر شواهد قوية، وكم مرة حصل التحالف الاستراتيجي بين قوة الاستبداد والتزوير وقوى "التنوير"، لإبعاد المخالف وسحقه في حروب إعلامية وقانونية مفتعلة، وتحت أغطية دولية سافرة!!؟.

وأخيرا:
يمكن القول: إن التنوير العربي كان مجرد نقل للتنوير الغربي على مستوى الرؤية والمنهج الماديين، وعلى مستوى الغايات ذات الأبعاد المادية والعلمانية والهيمنية، لذلك السبب: سقط في معضلات نظرية وتطبيقية، تراوحت بين الإغراق في التقليد والتبعية ونفي الذات وخصوصياتها، وهدم مرتكزاتها ومقوماتها بدعوى الماضوية، كما لم يسلم من آفات التناقض والانتقائية والإسقاط.
وعليه، فرغم أن الأمة مضى عليها حوالي قرنين من عمر النهضة إلا أن مشروع النهضة وفق مذاهب التنوير العربي المقلدة للنموذج الغربي: عجز عن تحرير الأمة من مشكلاتها، بل كان نفسه واحدا من أبرز الأسباب في إعاقة انطلاقة الأمة نحو بعثتها الحضارية الجديدة، " إننا في حاجة إلى تنوير وحداثة حقيقية، تهزُّ الجمودَ، وتُدمِّرُ التخلفَ، وتحقق الاستنارة، لكنه تنوير وحداثة يجب أن يكون تنويرنا وحداثتنا نحن، وليست نسخة شائهة من التنوير والحداثة الغربية"، كما يقول الدكتور: عبد العزيز حمودة[16].

هوامش:
[1] ينظر مقال: الوطن العربي.. البحث عن إيديولوجيا، د. تركي الحمد، مقال بمجلة المستقبل العربي، عدد 110، أبريل 1988م.
[2] مدخل إلى التنوير، مراد وهبة: ص7.
[3] العقل والتنوير، عاطف العراقي: ص14.
[4] قضية التنوير في العالم الإسلامي، محمد قطب: ص90.
[5] مجلة البيان، عدد 159.
[6] اليقظة الفلسفية المغربية ودرء آفة التقليد، د. طه عبد الرحمن، مجلة مدارات فلسفية، الجمعية الفلسفية المغربية، الرباط، عدد 1، 1998م: ص97- 98.
[7] صدر الكتاب عن المركز الثقافي، ط1/1995م.
[8] هل أزف عصر الإصلاح الديني في العالم العربي؟، هاشم صالح، موقع مؤمنون بلا حدود- قسم دراسات وأبحاث، في 1/10/2013م.
[9] التأويل الحداثي للتراث: التقنيات والاستمدادات، إبراهيم بن عمر السكران، ، دار الحضارة للنشر والتوزيع، الرياض، ط1/1435ه- 2014م: ص11- 12.
[10] الاستشراق واستقلال السؤال الفلسفي دراسة في مشروع أركون: الشريف زروخي، مجلة العلوم الاجتماعية، عدد 18، يونيو 2014م.
[11] المصدر نفسه.
[12] الخطاب العربي المعاصر: محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، دار الطليعة، بيروت، مايو 1982م: ص81.
[13] كما هو الأمر عند طيب تيزيني، وحسين مروة، ومحمود إسماعيل وغيرهم.
[14] الخطاب العربي المعاصر: عابد الجابري: ص81- 82.
[15] ينظر مثلا كتاب: شخصيات قلقة في الإسلام، لوي ماسينيون، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط2/1964م. حيث خَصَّ بالتحليل والدراسة لشخصية سلمان الفارسي، والحلاج (وهما من تأليف ماسينيون)، والسهروردي (تأليف: هنري كوربان).
[16] المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك، د. عبد العزيز حمودة: ص11، ضمن سلسلة عالم المعرفة، عدد 232، ذو الحجة 1418هـ- أبريل 1998م.