رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
24-01-2017, 11:09 AM
12 - تبحُّره في علمي المنقول والمعقول:
الباحث في تراجم أعلام المسلمين ممَّن كانت لهم قدمٌ راسخة في العلوم الشرعيَّة، لا يجد صعوبةً تُذكَر من حيث التنقيب واستِخلاص المعلومات عن أمثال هؤلاء العلماء؛ لكثرتهم وكثرة مَن تَرجَم لهم؛ حيث وُصِفوا بأنَّ لهم قصب السبق في فهْم النصوص الشرعيَّة وحفظها واستِحضارها بأدلَّة باهرة قاطعة، وستكون مادَّة كتابته ثريَّة، وسيجد هناك أرضًا خصبة لتعدُّد مَن تَرجَم لعُلَماء الأمَّة الإسلاميَّة شرقًا وغربًا من ذلك الصِّنف الذين حملوا علوم الشريعة: حفظًا وعلمًا وعملاً، وتبيانًا وتعليمًا.
وكذلك الأمرُ بالنسبة لعلماء الأمَّة الإسلاميَّة الباحِثين في العلوم العربية أو العقلية أو الطبيعية والرياضيات والفلك... إلخ، ولكنَّ الصعوبة تَكمُن إذا أراد باحِثٌ أن يُتَرجِم لعلمٍ من أعلام الأمَّة الإسلاميَّة جمَع بين العلوم الشرعية والعربية والعقلية والمنطقية والديانات الأخرى في آنٍ واحد، وهذا لا يعني أنهم غير موجودين، لكن يحتاج الباحث إلى بعض العَناء وشيء من المشقَّة في التنقيب على أمثال هؤلاء، مع الاطِّلاع على ما كتبوه من كِتابات، وتلك الصعوبة وهذه المشقَّة اللتان ستُقابِلان الباحث في مُحاوَلة ترجمته لمثل هؤلاء الأماجد، تظهَر من عدم شهرة صاحب الترجمة في العلوم العقلية وشهرته في علوم الشريعة أو العكس، مع علوِّ كعبه في العلمين، ومن هذا الصِّنف الإمامان: حُجَّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، والإمام تقي الدين السبكي، ولكن هذين الإمامين درَسَا الفقه واشتَهرَا به من خِلال مذهب معيَّن، وكذلك دراستهما لبعض العلوم العقلية أو الفلسفية وعلم الكلام إنما هو بالقدر الذي يتمشَّى مع طريقة عقديَّة معيَّنة محدَّدة لا تُتجاوَز؛ فقد تضلَّعا في العلوم المختلفة لكن لخدمة مذهب معيَّن، ولسلوك عقدي محدَّد، ومن أعلام الأمَّة الإسلامية مَن تبحَّر وتضلَّع في كلِّ العلوم المختلفة بأنواعها دراسة مجرَّدة، ومن هذا الصنف: شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فقد درس العلوم الشرعيَّة باختلاف مذاهبها، ولم تمنعه (تحمله) نشأته الحنبلية على الاقتصار على مذهب الحنابلة؛ بل تعدَّى التقليد والتعصُّب وترقَّى عنه، وأخَذ بما ترجَّح له دليلُه، كما تعمَّق في دراسة العربية بجميع فنونها، وكذلك الرياضيات والفلك والمنطق وعلم الكلام، وممَّا يشهَد لذلك شهادة خصمه الشهير الإمام تقي الدين السبكي حينما كتَب رسالةً موجهة إلى الإمام الذهبي، قائلاً في حقِّ الشيخ: "فالمملوك (يعني نفسه - رحمه الله - تواضُعًا منه مع مَن خالفه) يتحقَّق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسُّعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كلٍّ من ذلك المبلغ الذي يَتجاوَز الوصف"[110].
وهكذا كان موسوعة علميَّة متنقِّلة، ومكتبة ناطقة؛ لأنَّه كان:"عارِفًا بالفقه واختِلاف الفقهاء والأصوليين، والنحو وما يتعلَّق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة، والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقليَّة والعقليَّة، وما تكلَّم معه فاضلٌ في فنٍّ من الفنون إلا ظنَّ أنَّ ذلك الفنَّ فنُّه، وكان حفظه للحديث مميزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجاله، متضلِّعًا من ذلك"[111].
وكان يفهم كثيرًا من اللغة العبريَّة[112] كما كان يعرف اللغة التركيَّة[113]"، وهكذا نستطيع أن نقرِّر غير مُبالِغين أنه قرأ كتب العلوم الإسلاميَّة، وكتب الفلاسفة التي كانت معروفة في عصره، ويظهر أنه لم يكتَفِ بذلك؛ بل قرأ كتب النصارى والأدوار التي مرَّت عليها عقائد النصارى دراسةً فاحصة"[114].
فتعلَّم العلوم الشرعيَّة مع العلوم العقليَّة سواءً بسواء، وتبحَّر في كلِّ علم وُجِد في عصره، واطَّلع على كلِّ كتابٍ طالَتْه يداه، وما من سبيلٍ إلا سلَكَه ليُبَلِّغ دعوة الحق مُستَخدِمًا الأدلَّة من الكتاب والسنَّة "، ثم يقرب السنَّة بالعقل، فهو يستَخدِم العقل للتزكية لا للإنشاء، والتقريب لا للاهتِداء"[115]، ويدلُّ على تبحُّره أشياءُ كثيرة:

1 - شهادة علماء الأمَّة من مُعاصِريه ومَن بعدَهم بتبحُّره في علمي المنقول والمعقول.

2 - استدلاله واستشهاده في كتبه بسائر العلوم المُتاحَة في عصره، ويظهر ذلك من مراجعة فهارس:( مجموع الفتاوى[116]) له، ج36، ج37.

3 - قيام كثيرٍ من الباحثين بكتابة رسائل ومؤلَّفات في جانبٍ من الجوانب التربوية أو الدعوية في تخصُّصات مختلفة؛ مثل: موقفه من العقل، وموقفه من المنطق، وموقفه من المبتدعة، وموقفه من التكفير، وموقفه من الأشاعرة، والفكر التربوي عنده... إلخ.