تحليل رواية غدا يوم جديد لعبد الحميد بن هدوقة - المريح بتصرف -
27-03-2009, 01:15 PM
) تقديم رواية غدا يوم جديد:
تعد رواية غدا يوم جديد العدد رقم خمســة (5) في تجربة الأديب الأستاذ عبد الحميد بن هدوقة, حيثصدرت له قبلها الروايات التالية: ريح الجنوب, نهاية الأمس, بان الصبح, الجازية و الدراويش.
و إذا رجعنا إلى المدة الزمنية التي كتبت أثناءها هذه الروايات الخمس و التي تمتد من سنـ1970ـة تاريخ صدور روايته الأولى " ريح الجنوب " و سنـ1992ـة تاريخ صدور روايته الخامسة " غدا يوم جديد ", فإننا ندرك أن فعل الكتابة الروائية لدى الأستاذ عبد الحميد بن هدوقة بطيئ, إذ كان ينجز عملا روائيا واحدا طوال أربع سنوات....*
و قد أسهم الدكتور عمار زعموش و أفاض الحديث في بعض القضايا حول
رواية " غدا يوم جديد " مثل: تشريح العنوان و تفكيك رمزية صفحة الغلاف و الفضاء الطباعي و فصول الرواية و الفراغات و الذي أسهم ببحثه هذا في فعاليات الملتقى الوطني الثاني : الأدب الجزائري في ميزان النقد و الذي نظمه معهد اللغة العربية و آدابها بجامعة عنابة في: 12,11,10 ماي 1993م(1)
* و سوف يكون تركيزنا في هذه الدراسة على تناول موضوع الفضاء النصي , و قبل أن نشرع في بحث الموضوع الأساس, يجدر بنا أن نشير إلى قضيتين هامتين:
1/ تعنى القضية الأولى ببنية الشكل الروائي في " غدا يوم جديد": أولا يتأسس
نص الرواية على تقنيتين ركيزتين:


ـــــــــــــــــــ
* كان ينجز عملا روائيا طوال أربع سنوات و ستة أشهر و إثنا عشر يوما.
(1) د. عمار زعموش غدا يوم جديد بين الإدراك و الإنهزامية – محاضرة- ألقيت بمناسبة أشغال الملتقى الوطني الثاني, الأدب الجزائري في ميزان النقد جامعة عنابة 12.11.10 1993 ص 11
الفصل الثاني الفضاء الروائي في رواية "غدا يوم جديد"


شكل الاعترافات و تتجلى من خلال البوح الذي تقوم به الساردة مسعودة للكاتب, هي تبدو كأنها أمام رجل دين, أو كاتب سير تاريخية فتسرد له وقائع و تفاصيل ماضيها و قد حثته أكثر من مرة أن يكتب قصتها بأي طريقة, و ليس مهما أن تترابط أجزاء حكايتها, فالمهم عندها هو الاعتراف و البوح, و إفراغ أعماقها من ترسبات الماضي و الحاضر المشوهة و هي ترجو من كل ذلك التطهير, و قد وصفت الساردة طريقة سردها لعناصر قصتها باللامنطق , و كررت ذلك عدة مرات مثل قولها: " و كذلك هذا اللامنطق الذي أحكي به حكايتي." (1)
و قد قادت هذه التقنية إلى جعل النص الروائي يتميز ببنية مفككة و مهددة بالتداعي و أن هناك لوحات منفردة تطول أو تقصر بحسب المعنى المراد التعبير عنه و التي لا يربطها ببعضها سوى خيط ماضي الشخصية المحورية لدرجة تكاد بعض تلك اللوحات أو الفواصل قصصا قائمة بذاتها, و يمكن الإستغناء عنها كاملة دون تأثير السياق الروائي. (2)
2/ أما القضية الثانية فتبرز من خلال استماع المؤلف لقصة الساردة و قيامه بكتابة اعترافاتها, و قد يوحي استخدام هذا الشكل من قبل المؤلف إلى صعوبة التعبير, و هي نفسية سارية في وسط المجتمع الجزائري, إذ كثيرا ما يعتمد أفراده على الذاكرة و الشفوية أكثر من التجائهم إلى التدوين و الكتابة, و قد وجدت في النص الروائي جملا و فقرات تؤكد مقدرة الساردة على الحكي, و استذكار تفاصيل الماضي و لكنها تعجز عن التعبير على أفكارها واسطة الكتابة و التدوين, و لذلك صممت فطلبت من الكاتب الشاهد أن يدون اعترافاتها و ذلك بعد تجربة حياتية و معيشة مريرة كما يبدو من أحداث الرواية أن حوادث 5 أكتوبر 1988 هي التي حررت


ـــــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة " غدا يوم جديد " ص17
(2) د.عمار زعموش. غدا يوم جديد بين الإدراك و الإنهزامية – الأدب الجزائري في ميزان النقد – جامعة عنابة 12,11,10 1993م ص 15
الفصل الثاني الفضاء الروائي في رواية "غدا يوم جديد"


لسان الساردة لتقول كل شيء حتى ما لا يقال و قد وصفت ذلك بقولها: " أكتوبر أنطقني, أكوام الزجاج التي ملأت الأنهج, أذخنة الغازات و السيارات و البنايات المحترقة, أزيز الرشاشات و البنادق ذكرني في 11 ديسمر و أياما أخرى." (1)
و نظن أن هذا الشكل الفني الذي لجأ الروائي إليه, قد أفاد الشخصية الساردة لأن تعبر عن أفكارها بأسلوب متدفق شلالي و تعبر هذه الحالة النفسية عن عمق الجرح الغائر الذي تعاني الساردة من آلامه, و كذلك عن امتلائها حتى الفيضان, الطوفان ينقل الماضي, و صدمات الحاضر, و لذلك اندفعت تقص كل شيء, و تسرد كل تفاصيل حياتها, فحتى الأشياء و الأمور التي تسيء إلى سمعتها اندفعت فجأة من أعماق طفولتها منسابة بين الحلم و الواقع, و لذلك كانت تردد دائما هذه الجمل:
" أكتوبر أنطقني, أقول كل شيء, ثم أذهب إلى مكة أغسل عظامي و أيامي." (2)
* يشكل فضاء الثلاثينات من القرن الماضي, الرقعة الشاسعة للمساحة الزمنية التي شهدت وقائع و أحداث و شخوص رواية " غدا يوم جديد" كما يكون فضاء الثمانينات امتدادا طبيعيا و مماثلا لسنوات الثلاثينات و يستخلص من هذا ديمومة الأوضاع الفاسدة و كذلك استمرارية الظلم و مظاهر العنف و الخوف و الاستلاب
و اللإستقرار و المعاناة عبر امتداد هذا الفضاء الزمني الطويل, و قد عبرت الرواية عن هذه الحالة الغير السوية في هذه الجملة " أكتب القصة مبعثرة لكي لا يبعد الزمن بين أحداثها , لكي لا يكون شاسعا بين أكتوبر و ديسمبر مثلا بين باشاغا بوعلام و بوعلام باشاغا؟ فهمت؟ لا تخش أحدا."(3)



ـــــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة – غدا يوم جديد ص 14
(2) المصدر نفسه ص 15
(3) المصدر نفسه ص17
الفصل الثاني الفضاء الروائي في رواية "غدا يوم جديد"


و تسعى رواية " غدا يوم جديد" إلى اعتمادها على هذه الثنائية الزمنية
' الماضي و الحاضر', و التي تتصف بالتشابه في القول ببقاء أوضاع المجتمع الجزائري: الإجتماعية و الثقافية و النفسية متشابهة و من هنا تطفو جرأة هذا العمل الروائي الجديد و تتجذر أحداثه و شخوصه في أعماق أخدود المجتمع الجزائري المعاصر.




















الفصل الثاني بنية الفضاء


1/ الحيز عند عبد الحميد بن هدوقة:
يشكل تعدد الفضاء في أعمال الأديب عبد الحميد بن هدوقة ظاهرة جمالية متميزة, و يكاد محور الريف و المدينة يطغيان على أعماله الروائية و القصصية, بحيث تتداخل فضاءات الريف بفضاءات المدينة فيكونان نسيجا متشابكا من الصلات و الدلالات و الرموز.
و قد استنتج الدكتور عبد المالك مرتاض في دراسة له لمجال "الحيز" في قصص عبد الحميد بن هدوقة القصيرة بأن حجم الحيز المدني يفوق حجم الحيز القروي,
و أن نسبة الفضاء المدني ترقي مجموعة الكاتب و قصص أخرى إلى 60% و في مجموعة الأشعة السبعة إلى76.92 % (1)
و لكن هذه النسبة المرتفعة لحضور فضاء المدينة في قصص عبد الحميد بن هدوقة تتناقض بشكل ملفت للإنتباه في نتاجه الروائي حيث يكون الريف, و فضاءاته, و أبعاده حضورا مكثفا و غزيرا, و قد نستثني من هذه الملاحظة فضاء رواية " بان الصبح " التي يهيمن فيها فضاء المدينة. و قد قمنا بدراسة تطبيقية على رواية عبد الحميد بن هدوقة محددين العناصر التالية:
1/ الفضاء الريفي:
* فضاء الدشرة:
أ) فضاء البيت: يركز النص كثيرا على تصوير بيت الحاج أحمد من الداخل و من الخارج, و تبرز صورته على لسان الساردة, فعيناها تلتقطان بسرعة مذهلة و فضولية قِطع و ملامح البيت " حجرة جانبية" , " فناء الدار " , " حجرة العائلة ".



ــــــــــــــــــــ
(1) د.عبد المالك مرتاض. القصة الجزائرية المعاصرة – الطبعة الأولى – الجزائر – المؤسسة الوطنية للكتاب – 1992 ص 99 .
الفصل الثاني بنية الفضاء

ب) المقهى:
يشغل فضاء المقهى في الدشرة مكانا بارزا في حياة المجتمع الريفي, هو يقوم بوظائف عديدة, هو مكان يجتمع فيه القرويون كل مساء و يتخذون منه مكانا للسهر و السمر و المؤانسة, و هو أيضا مكان للعب الأوراق و مدارسة أمور شؤون الدشرة و الخوض أيضا في القضايا الإجتماعية و السياسية و عموما فالمقهى بمثابة مركز إعلامي تتوارد إليه أخبار الوطن و العالم.
و قد برزت شخصية قدور إحدى الشخصيات الرئيسية في المتن الروائي من خلال المقهى حيث كان يتردد عليها بإستمرار كلما زار عمته, فيظهر كرمه و يسره من خلال دفعه لثمن قهوة من يكون حاضرا, كما كان يتحدث للريفيين عن عمله في ميناء الجزائر و عن مجالسها النقابية, ففضاء المقهى فضاء رجالي بالدرجة الأساس, يقوم بدور كبير في حياة مجتمع الريف, و هو إذا شئنا نواة الدشرة, و قد يفوق دوره عن دور المسجد خصوصا في تنظيم شؤون الأهالي الإجتماعية.
ج) العين:
تعد فضاءا أساسيا, يجلب سكان الدشرة الماء منه, فهو مصدر الحياة لديهم,
وهي بالإضافة إلى دورها الأساس في توفير أحد أهم عناصر الحياة, فهي أضل مكان يجتمع نسوة الدشرة فيه, و يتناقلن أخبار كل الدنيا: أخبار الدشرة, و أخبار الوطن و أخبار العالم و أخبار المحبين و العشاق من أهالي الدشرة و أخبار خصومات الأهالي و مصالحاتهم كما أنها تعد المكان المفضل الذي يختار الشاب فيه عروسه أو العكس, و هي بهذا لا تقل وظيفتها في بنية مجتمع الدشرة عن وظيفة المقهى, إلا أن المقهى فضاء رجالي بينما العين فضاء نسوي تعالج يه أمور كثيرة تستأثر باهتمام المرأة و قد مثل المؤلف العين في الدشرة بفضاء الحمام في المدينة.




الفصل الثاني بنية الفضاء


- إن فضاء العين الذي يقع تحت سفح الجبل الأحمر يرمز إلى البنى القاعدية التي تتأسس عليها المجتمعات البشرية, فهي ترمز للحياة و الحب و الخصب, كما ترمز إلى وعورة الطريق المؤدية إليها و إلى شظف الحياة و قساوتها في فضاء الدشرة.
لقد شغل فضاء الدشرة حيزا كبيرا في بنية نسيج النص الروائي و أكسبه دلالة من خلال تركيزه على الفضاءات التي تمثل قيم المرتفع و المنخفض.
2/ فضاء القرية: يعد فضاء القرية امتدادا لفضاء الدشرة و لكنه أرقى منه في أمور كثيرة, فالقرية le village تتميز بكونها تجمعا سكانيا, و تكون عين الرقابة الاستعمارية فيه أكثر تحكما و هيمنة باعتباره فضاءا محدودا, و يقوم السكان فيه بِحِرف متنوعة مدينية و ريفية فهناك من يعتمد على الزراعة و رعي المواشي كمصدر حياتي له بينما يعتمد آخرون على التجارة و بيع المواشي, كما تعد القرية موردا أساسيا لتموين أهالي الدشرة فإليها يتسوقون و منها يقضون حاجاتهم المعيشية, و فيها يحصلون على بعض أغراضهم الإدارية, كما يتم فيها التقرب من أجهزة الإدارة, كأعوان الدرك و القيادة و " الشنابط ".
و قد غدت القرية عبارة عن ' سجن ' تسلب الحريات فيه و تحدد فضاءات التنقل و عموما فهو فضاء يفقد الأهالي فيه كثيرا من الإمتيازات المعنوية و المادية, و تخضع شؤونها خضوعا تاما لنزوة و جموح الأفراد الأوروبيين الذين يتميزون عن الأهالي بارتدائهم للقبعة, جاء من النص الروائي: " يتحكم فيها كل شيء من يلبس قبعة, سبعة من الأوروبيين يقيمون بها يتحكمون في هذه القرية, و في كل القرى المجاورة, إذا تحرك ساكن تحركت خيول الدرك به و لو اختلف في بطن أمه."(1)


ـــــــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة – غدا يوم جديد – ص25
الفصل الثاني بنية الفضاء


تبرز صورة الفرنسي في القرية من خلال إعلانات خارجية تميزه عن الأهالي فهو يُعرف بارتداء بدلة كاكي و يضع على رأسه قبعة و يمتطي حصانا, فالفرد الأوروبي يشغل في القرية صفات الجسد الغريب الذي يشيع الظلم و القهر بين أفراد الأهالي و يسلب حريتهم و خيراتهم و حتى إنسانيتهم " كل الأهالي " أي الحيوانات الداجنة قابلون للسجن أو سجناء بالقوة, إن لم يحن وقت إلقاء القبض عليهم فذلك لا يعني أنهم بُرءاء.
إن فضاء القرية لا يختلف عن فضاء الريف في أمور عديدة , فحياة الأهالي فيه لا تتميز عن حياة المجرمين و القتلة داخل السجون و المحاجر و يفقد الجزائري فيه كل صفاته, كما يغدو في نظر الفرنسي حيوانا مدجنا لم يولد سوى للطاعة
والأعمال الشاقة.
3/ فضاء المدينة:
يشكل فضاء المدينة انشغالا بارزا في نتاج الأديب عبد الحميد بن هدوقة القصصي و الروائي, رغم أن الإحتفاء بفضاء الريف يكون دائما هو الأرجح
والأكثر تأثيرا في بنية نسيج العمل الأدبي و تبدو روايته ' بان الصبح ' أكثر رواياته استئثارا بفضاء المدينة و أكثرها استلهاما و استيعابا لعالم المدينة و مختلف تشكلاتها و مدلولاتها.
- و لقد احتفت رواية " غدا يوم جديد " ببعض هذا الاستئثار رغم أن عناصر المدينة تبدو فيها شاحبة, كما أن تأثيرها على بنية نسيج النص باهت و غير ناصع مثلما هو صاخب و ساطع في رواية ' بان الصبح ' و كذلك في رواية ' الزلزال ' للطاهر وطار.
و من بين فضاءات المدينة التي كان لها تأثيرها على مجرى النص الروائي نجد:



الفصل الثاني بنية الفضاء

أ) المدينة " الحلم ":
يبرز من خلال مقاطع سردية عديدة ي الرواية, و بأسلوب شعري يرمز إلى توق الريفي الأهلي إلى فضاء المدينة, فهي في نظره بمنزلة الحلم الجميل الذي يصعب مناله, و القبض عليه, فقدور عندما تيقن من أن الريف لن يحقق له طموحه صمم على الرحيل صوب الغرب, أي إلى المدينة حيث استقر بها أي في حي القصبة ثم انضم إلى عالم الحمالين في ميناء الجزائر و قد أكسبه عمله الجديد تقديرا عميقا من قبل أهالي دشرته و رفعته رحلته منازل لدى رجال الدشرة و عند فتياتها أيضا حتى أن مسعودة لم تقبل به زوجا إلا من أجل أن تتنقل إلى المدينة و عبرت عن ذلك بقولها: " هي رضيت الزواج من أجل المدينة: تزوجت المدينة." و قالت أيضا: " أنا لم أتزوج به, تزوجت المدينة بالحلم ! آخر رعاة القرية أقرب إلى قلي منه لكن المدينة. " (1) و كانت المدينة تتراءى لها عندما يتحدث عنها " بأضوائها التي محت عنها الليل بخبزها الذي تتلقفه الأبصار قبل الأفواه. " (2)
كما ترد صورة فضاء المدينة على لسان معظم الريفيين, و تكاد جميع أحاديثهم عنها تتفق على أنها بمثابة الحلم, فيتوفر المال و الخبز و السعادة و يتخذ الحديث أحيانا عن المدينة بعدا أسطوريا " قالوا في المدينة الليل أضوأ من النهار. " كما أن صورة المدينة قد ارتسمت في خيال القرويين على هذه الشاكلة " قصور واسعة الأرجاء من قصور ألف ليلة و ليلة أو من قصور بن ذي يزَن التي بنتها له الجن. " (3)




ـــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة – غدا يوم جديد – ص35
(2) المصدر نفسه ص65
(3) المصدر نفسه ص 129
الفصل الثاني بنية الفضاء

إلا أن هذا الموقف يشذ عنه موقف الحاج أحمد فهو يعارض زواج مسعودة من قدور, ينعته بصفات كثيرة مثل قوله : " أن أبَ هذه البنت مجنون ! لو كان له عقل هل يزوجها لهذا المديني البائس! هل الحمال, أو هذا ... النشال, أو لست أدري ماذا زوًَجها ببائس من سكان الحمامات و الوكالات, زَوًَجها بغبي. " (1)
كما أن ' فضاء ' المدينة الحلم لم يظل محافظا على جماله و روحانيته في ذهن مسعودة فهي ما إن خبرت المدينة و امتلكت بعض أسرارها و ثناياها حتى أدركت أن العيش فيها يقوم على مبدأ اختلال التوازن و الصراع و التناقضات و تغير القيم و تلخص الفقرة التالية صدمتها و شدة فجيعتها بعد أن سكنت في المدينة و عايشت عوالمها الظاهرة و الباطنة, فعبرت عنها بقولها: " في المدينة لا يُفصَل بين الحلال
و الحرام إلا الدين و الضمير, و الناس باعوا ضمائرهم باعوها لأمهم فرنسا, حتى صار الحلال و الحرام زوجين شرعيين أو جارين بجانب كل مسجد و كنيسة بجانب الحارة خمارة, بجانب المقبرة ثكنة, بجانب المدرسة دار للدعارة أو للتجارة , هذه هي المدينة. " (2)
فإذا كنا قد لاحظنا أن فضاء المدينة يمثل الحلم و الإنحياز بالنسبة لمعظم الشخصيات الريفية, فإنه ما إن اكتشفت بعض هذه الشخصيات المدينة, و تعرفت على عوالمها الباطنة و الظاهرة و اطلعت على سرها حتى بدت لها فضاءا مشوها رهيبا يقوم على انهيار القيم و سقوط الأحلام و الأقنعة, و بذلك يسترد فضاء الريف لديهم عذريته و خصوصيته, و حلمـــــــه.


ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق ص 46
(2) المصدر نفسه ص 56

الفصل الثاني بنية الفضاء

ب) فضاء بيت المواطن الأهلي في الأحياء الفرنسية:
إن الطريف و الغريب في الآن نفسه, أننا نجد الفرنسي في فضاء المدينة يختلف عن الفرنسي في فضاء الريف و فضاء القرية من حيث طباعه و خصوصا في علاقته مع بعض الفئات الاجتماعية مثل فئة الخدم.
و تبرز هذه الظاهرة – الشاذة – من خلال انتقال زوجة قدور لإلى الحي الأوروبي للعمل في بيت أحد الموظفين الأوروبيين فقد جعلها تحس و كأنها انتقلت من طبقة تفتقر فيها إلى وسائل الحياة الجديدة مثل البيت المريح الواسع و الأثاث الحديث الذي يوفر لها الراحة البدنية و الروحية إلى بيت يتوفر على كثير من عناصر الحياة الجديدة , و قد جعلها هذا الوضع الجديد تعبر عن إعجابها و فرحها بقولها : " تصور امرأة قروية لم تبلغ الثلاثين تحت مرش " الدوش " كم كان يحلو لي ذلك ! كان يذكرني ب " الشرشار " في وادي الدشرة. " (1) كما عبرت عن صورة شقتها بقولها " مرتبة كأي شقة أخرى ".
و يمثل هذا النموذج أيضا من الفضاء فسحة تبرز من خلال بعض عادات الزوج الأوروبي, هو يجلب إلى منزل الخادمة من حين إلى آخر عشيقته و لكنه دون أن يسيء للخادمة بأي أمر, فهذا الفضاء بيت الجزائري في الأحياء الفرنسية يدل على تسخير الأوروبيين للأهالي و هي حالة تشبه علاقة الأوروبي في الفضاء الريفي بالمواطن الأهلي كما يدل من جهة ثانية على وجود أبعاد إنسانية لدى بعض الفئات الفرنسية.







ــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق ص 175
الفصل الثاني بنية الفضاء


* فالإنسان كلما اقترب من المدينة و ارتبطت علاقته بفئات اجتماعية متنوعة كلما فقد و حشيته و شراسته و هو الذي لا تعثر عليه لدى الأوروبي الذي يقطن بالريف و القرية , حيث تميز بغلظة الطباع و الجشع اللامحدود و الكراهية الشديدة للمواطن الأهلي , و بتعبير آخر فالأوروبي المدني يمثل الشر النسبي, بينما الأوروبي الذي استقر في الريف و ربط مصدره عيشه بالأرض يمثل الشر المطلق و يفتقر للروح الإنسانية.
ج) فضاء القصر:
يرد الحديث عن فضاء القصر عبر اعترافات الساردة , و يبدو من خلال كلامها عن هذا الفضاء و الذي يفترض فيه أن يوفر لصاحبه جميع الظروف المناسبة للإحساس بالسعادة و الإطمئنان النفسي, إلا أن إفضاءات الساردة لا تبرز ذلك الشعور الذي ينبئ بالحياة الرغدة و هي ترد ذلك أن هذا القصر لم يشيده أبناؤها بعرقهم و إنما بنتة بنادقهم.
و دفع هذا الإحساس بها إلى حالة نفسية عميقة, مجللة بندم و خيبة و فجيعة أيقظت في أعماقها وعيها بالقيم الجميلة و الحلم, و قد سبب لها الإحساس الحلم المستيقظ إدانة حاضرها و احتقار ذاتها , كما أن القصر لم يعد مكانا للإقامة المريحة , و علامة من علامات الإرتقاء الحضاري و التطور الإجتماعي و إنما غدا وكرا بشعا و مغارة تنهار القيم فيها و بؤرة لفساد الضمير فقد أصبح و مثلما عبرت عنه الساردة في قولها " منذ سكنت هذا القصر و أنا أرى كل يوم و أسمع ما لا يصدقه عقل كل شيء يباع و يشترى ... الأملاك الوظائف, الضمائر, الحريات , الجهاد
و النضال. كل شيء حتى الشر."(1)





ـــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق ص 37
الفصل الثاني بنية الفضاء

كما عبرت عن العلاقات التي تربط بين زوار القصر بقولها " هي نس الخيوط التي يتشكل منها ' الترابندو ' السياسي في بلدنا " (1)
- إن فضاء القصر في هذه الرواية يعبر عن اختلال القيم و انهيار المبادئ المحتفى بها في الماضي و هو أخيرا فضاء بُؤريٌ لإدارة كل ما هو غير مشروع و البلوغ إلى كل ما هو غير مستحق.
د) فضاء الشارع :
لم يرد الحديث كثيرا عن هذا الفضاء لأن الكاتب مغرم بالتعبير عن الفضاءات المغلقة في المدينة و هو الأمر الذي يتجنبه أثناء حديثه عن فضاء الريف, حيث يسترسل في الكلام عن الطبيعة و النجوم و الدروب الملتوية و المنخفضات ,
و إن جاء حديثه عن فضاء الشارع مقتضبا و عاجلا , فإنه كان حادا و عنيفا بحيث أخرج الساردة عن صمتها – أي مرضها – و أعاد إليها وعيها و حلمها الماضي الجميل.
و قد كانت صدمة أكتوبر 1988 العنيفة بمثابة الحدث النفسي العنيف الذي يعيد للمريض توازنه, فخرجت بقولها " أكتوبر انطقني ...أكوام الزجاج التي ملأت الأنهج أدخنة الغازات و السيارات و البنايات المحترقة , أزيز الرشاشات و البنادق
و الدبابات ذكرني في 11 ديسمبر 1960م و أياما أخرى. " (2)
فصورة الشارع الدموية , الجريحة , الكسيرة كانت حدثا قويا و عنيفا أنطق الكثير






ـــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد ن هدوقة – غدا يوم جديد – ص 75
(2) المصدر نفسه ص 14
الفصل الثاني بنية الفضاء


و جعلهم يدركون و يعيشون و يعبرون عن واقع آخر غير معلن عنه, و تشبه هذه الحالة حالة مظاهرات 11 ديسمبر 1960م التي أخرجت الشعب من صمته و جعلته يعبر بِمَلئِ فيه عن مرارة الحياة و بشاعتها.
ه/ فضاء المستشفى:
جاء الحديث عن هذا الفضاء أيضا على لسان الساردة و ذلك حين طلبت من كاتب قصتها أو مدون اعترافاتها , فهي تقابل بين وضع الأطفال الذين ولدوا في المستشفى , و تلقوا كل الرعاية الطبية الحديثة , و بين الأطفال الذين ولدوا في ظروف اجتماعية قاسية و وحشية , عبرت عنها بقولها: " ولدتهم أمهاتهم على أدخنة الحطب ولدتهم و أيديهن ممسكات بحبال معلقة في السقوف السوداء"(1)
لقد اكتفت الساردة بالإشارة إلى اختلال الجيل الجديد و ليونة تكوينه,
و لذلك فإنها لا ترجو منه أمرا عظيما, يماثل الأمر الجلل الذي حققه الجيل الماضي, و الذي روضته الظروف الصعبة , و صَنَعَت منه إنسانا بطلا خالق معجزة ثورة جبارة.

4/ الفضاء المغلق:
نهتم هنا بتحليل الفضاءات المنغلقة , سواء كانت تمثل الفضاء المبنى مثل: السجن و مقر الحكومة و مركز الشرطة أو الفضاءات التي تحددها قوانين إدارية جائرة مثل: المحجر.




ـــــــــــــــ
(1) المصدر السابق ص 40.
الفصل الثاني بنية الفضاء


* و يلاحظ أيضا أن هذه الفضاءات يفقد فيها المواطن الأهلي كل مظاهر إنسانيته
و يخضع فيها خضوعا تاما لأوامر الحارس أو السُجان أو القاضي.
أ/ فضاء المحطة:
يرد الحديث عنه بمناسبة سفر الساردة مسعودة و زوجها قدور إلى مدينة الجزائر , و يمكن اعتبار هذا الفضاء بمثابة عتبة للمدينة , أو المرتفع الذي يطل عليها , ففي المحطة يلتقي الإنسان بأناس من مختلف القرى , و يرى الحُراس و رجال الدرك و عمال المحطة و يحس بازدحام يشبه ازدحام المدينة, كما تتصادف فيه قيم الريف , و قد يكون أيضا معبرا لتحقيق الأحلام أو انكسارها.
و قد كانت المحطة في الرواية مصدرا لإنكسار أحلام مسعودة فهي لم تتمكن من السفر إلى المدينة الحلم مع زوجها قدور بسبب خصامه مع الرجل صاحب البدلة و الذي كان يروح و يجيئ أمامها .
و يصور الوصف التالي حالتها النفسية و هي تشاهد زوجها يقتاد الدركيان, بينما في اللحظة نفسها كان القطار يتهيأ للمسير نحو العاصمة الحلم و الذي تبخر فجأة بسبب غيرة زوجها المفرطة و نفاذ صبره بسرعة : " عيناها تدور في كل اتجاه لكنهما لا تجدان مستقرا " يا رب" شخير القطار ينشط من جديد , رئيس المحطة يشير بعلمه في اتجاه رأس القطار , حيث السائق و يصفر , القطار يرد بتصفيرتين حادتين ينخلع لهما القلب , و يقلع القطار عجلاته الغليظة تحدث باحتكاكها مع السكة صوتا رهيبا يمحق كل أمل في راس مسعودة ! ما أبعد ذلك الأفق الذي تريد أن تعرفه ! إنه أفق بعيد , بعيد ! لا تصل إليه حتى الأحلام ! " (1)
فالمحطة في الرواية تعد رمزا للإنتقال من الفضاء المبغض إلى الفضاء المستحب,

ـــــــــــــــــــ
(1) عبد الحميد ن هدوقة " غدا يوم جديد ص 33 .
الفصل الثاني بنية الفضاء

كما أنه تعد جسرا يحقق الناس من خلاله أحلامهم و يتطلعون إلى الأفق, و لكنها غدت في النص الروائي مثل مركز الدرك و مركز التعذيب و فضاء المحجر, حيث تسلب الحرية فيها و تقمع الأحلام و يفتقد العدل فيها كذلك.
ب/ فضاء مركز الدرك:
يشكل هذا الفضاء أيضا مجالا واسعا, تسلب فيه من الإنسان إنسانيته و يتعرض فيه لجميع أنواع الإهانات و التعذيب , و هو رغم كونه نقطة انتقال إلا أنه يمثل دورا أساسا في بنية الفضاءات الإدارية و العسكرية , ففيه تدار كل الأمور و الحيل غير القانونية , و تحضر الملفات و تُحَرَفُ الأقوال, و تتضاعف التُهم.
و تبرز من خلال التركيز على عملية التعذيب شخصية المواطن الأهلي العميل, حيث اشترك مع الضابط الفرنسي في استنطاق " قدور " و قد كان أشدَ منه إيذاءا و تعريضا و استفزازا و تأويلا لكلام قدور, كما شلركه في ضربه و تعذيبه بعنف
و قساوة حتى كاد يقتله, فالمركز لا يعدو أن يكون فضاء ضيقا , مغلقا تنتهك فيه الحقوق و القوانين و الأعراف و الأعراض و يُسلَبُ الموقوف فيه من كل عناصر شخصيته و يُذَلُ الرجل فيه إذلالا بشعا و بطرق وحشيته.
ج/ فضاء المحكمة:
لا يختلف فضاء المحكمة عن بقية الفضاءات الأخرى , ففيه تجري المحاكامات الصُورية , و يحكم على المتهمين بأساليب غير قانونية و يحكم فيها على المواطن الأهلي لأتفه الأسباب بالأشغال الشاقة و السجن لأمد طويل , و دفع الضرائب و مثلما عبرت عنه إحدى الشخصيات: فهو بؤرة للرشوة و الفساد و التزوير و الجشع و الطمع كما أن هذا الفضاء محظور على المواطنين , و أن من يرغب في حضور






الفصل الثاني بنية الفضاء

بعض الجلسات عليه أن يدفع ل " الشاوش" باسم " البركة" خمس فرنكات حتى يأذن له بالدخول إلى قاعة المحكمة , كما اضطر مرة ثانية أن يدفع باسم "الجيل الأحمر' بركة للدركي, لكي يأذن له أن يجلس على أحد مقاعد مؤخرة القاعة.
كما أن التهم التي توجه إلى الأهالي يبالغ القاضي في عرضها حتى تصير جرائم ضخمة, فقد اتهمت مجموعة من الأهالي بالعصيان و عدم الإمتثال للقانون لأنها لم تتمكن من دفع المبالغ المالية التي فرضتها الإدارة المحلية على المواطنين ليسهموا في التحضير للذكرى المأوية على احتلال فرنسا للجزائر , و اتهمت مجموعة ثانية من الأهالي بأنها لم تحسن التعبير عن فرحها أثناء مرور موكب الرئيس (1 )
إن فضاء المحكمة هو فضاء يفقد القانون فيه روحه و صدقه و تُزَورُ فيه التهمُ و تديره المصالح و الأهواء , و تقدَم فيه الرشاوي و لا يصدر عنه غير الجور و الفساد, و كما أنه فضاء للحشوة و احتقار الغير.
د/ فضاء المحجر:
يعد أيضا من أبرز الفضاءات التي يفقد فيها المواطن الأهليُ ميزات حياته الإنسانية و يتحول فيها إلى عبد كما يطلب منه القيام بأعمال شاقة و تتجلى فيه أيضا شخصية الفرنسي المُتوحش.
و يماثل هذا الفضاء أيضا فضاء السجن و فضاء المركز من حيث المجال المسموح به للحركة, و خضوعه لقوانين جائرة , و فقدان الإنسان فيه لجميع حقوقه كما يتعرض المواطن فيه لأبشع أنواع التعذيب , و يقوم بأعمال تفوق أعمال السخرية شقاءا و خطورة , و قد ورد الحديث عن المحجر على لسان " مسعودة '






ـــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق ص 280.
الفصل الثاني بنية الفضاء

لأول مرة في النص الروائي عندما كانت ذاهبة مع الحاج أحمد إلى منزله , بعد أن فشل مشروع الإنتقال إلى مدينة الجزائر للإقامة فيها مع زوجها " قدور " و ذلك بسبب اعتداء زوجها للرجل المجهول, و قد عبرت عن هولها و رعبها في أن يأخذ رجال الدرك زوجها إلى المحجر: " إن المحجر الذي يقاد إليه كل من دفعه لسانه إلى الإحتجاج , جعل من لا عقل له عاقلا ..... لو عرف قدور المحجر لهان عليه وقع أقدام الرجل الوسيم على رصيف المحطة لكن. " (1)
يركز النص بعد ذلك و في أماكن عديدة على أخبار تعذيب مواطنين من الأهالي هو " المخفي " والد مسعودة و الثاني " قدور " زوجها.
فقد كان المخفي يؤمن بالأفكار الوطنية , و يعمل على نشرها بين مواطنيه إلا أن أحد الخونة باعه أي وشى به إلى السلطات الإستعمارية , فألقت القبض عليه ثم أرسلته إلى لمحجر , فعُذب ثم قُتلَ, و قد أشاعت الإدارة بأن سبب موته أنه لم يحسن استعمال المتفجرات, و لكن حقيقة موته هي التي وردت على لسان انته
و يعرفها أهلها أيضا , و هي التي أوردتها الساردة في قولها : " أما الحقيقة التي نعرفها نحن أهله , إنه قُتلَ بالمحجر, قتلته فرنسا, و موهت العقل بحادث المتفجرات, نعلم أيضا أنه قرأ مع ابن باديس " (1)
أما الشخصية الثانية التي عذبت في المحجر فهو قدور , فقد تعرض جسمه للضرب الشديد بالسوط و اللكمات القاسية و كل أنواع الشتم و الإهانات , و ركز النص الروائي كثيرا على وصف صورة تعذيب المخفي من أجل إبراز فظاعة و بشاعة






ــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه ص 104.
الفصل الثاني بنية الفضاء

الإستعمار , و كذلك انعدام الضمير الوطني لدى بعض الأهالي , فالذي كانت سياطه أشد وقعا و أكثر تأثيرا على جسم قدور هو الدركي الأهلي.
- كما يبرز تركيز المؤلف على وصف مشهد التعذيب تصوير الطرق و الأساليب غير الإنسانية التي عامل الإستعمار بها الأهالي و تكشف الفقرة التالية صورة التعذيب في فضاء المحجر " يرى مكان الدركيين حارسين أشعَثَين من حراس المحجر يقتادانه إلى المجبذ , تفك أغلاله , تتزعم ملابسه يضع الحارس القيود الحديدية في رجليه و يديه , ثم ينحني الحارس الثاني الذي يبدو أنه أعلى رتبة , و تجربة من الأول, فيضع الغل في عنق قدور..... يبدو قدور كأنه مصلوب على الأرض , كل طرف من أطرافه مشدودة إلى وتد , يدير الحارس الخبير حلقات الأوتاد في اتجاه عقارب الساعة حتى تتوتر أعضاء قدور , بل تكاد تتفكك !قدور يحس بالألم يمزقه . الحارس يتلذذ بمواصلة توتير السلاسل " (1)
- إن فضاء المحجر ليس سوى فضاء يفقد الإنسان فيه صفاته الإنسانية و يفقد فيه جميع حقوقه , و يطلب منه القيام بأعمال شاقة و يتعرض جسده أيضا لكل أنواع التعذيب المادي و المعنوي.
و هو فضاء يتساوى مع فضاء السجن في أمور كثيرة , حيث يفقد فيهما الإنسان ميزات إنسانية و يتعرض جسمه لجميع أنواع الآلام المادية و النفسية , و هما أخيرا رمزا من رموز الظلم و الإستغلال.






ـــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة " غدا يوم جديد " ص 307.
الفصل الثاني بنية الفضاء

أ/ فضاء السجن:
لم يشكل حضور السجن المادي في رواية غدا يوم جديد حضورا مكثفا و إنما ورد ذكره على لسان بعض الشخصيات الروائية , و لعل ذلك يلمحُ إلى أن مجموع الوطن صار سجنا , فلا فرق بين المحطة و المركز و قاعة المحكمة و المحجر, فالمواطن يفقد ميزات مواطنته في كل مكان وُجدَ فيه.
و قد جاء الحديث عن السجن لأول مرة على لسان الحاج أحمد و ذلك في
قوله: " السجون كلها مفتوحة إذا قيل لها هل امتلأت قالت: هل من مزيد ! كل يوم يفتح مراكز جديدة و محاجر جديدة " محجر ألبير " صار لا يكفي " ( 1)
و من الأمور الطريفة في الرواية , أننا نجد حديثا واقعيا و وصفا دقيقا للسّجن، فقد ورد على لسان المرأة الفرنسية التي تشتغل عندها الرواية مسعودة وصفا لسجن سان لوران: "سجن رهيب! من قضى فيه سنة زالت إنسانيته. السجانُ والسجين في ذلك سواء، إنسانيتهم تنزل إلى ما تحت الصّفر، هؤلاء في الفظاعة، وهؤلاء في الحيوانية التي يتحوّلون إليها من جّراء التّعذيب الذي لا مثيل له في الدنيا".
ويعبّر حديث "عزوز" عن فضاء السجن بتساوي الأهالي لدى السلطات الإدارية، فهم إن بدا من أحدهم أيّ تصرّف، أو من أحد أقاربه أو معارفه، فإنّه سيتعرّص للخطر والسّجن، مهما كان منصبه الذي يشغله، وموقعة الإجتماعي، ومهما جلت الخدمات التي أسداها للإدارة الفرنسية " إذا كان القائدُ،، وما أدراك! يمكن أن يُنْفَى إلى كيان، فكيف الحال بالنسبة للآخرين".(2)
رغم أنّ الحديث عن "فضاء السجن" لم يكن حديثا مطوّلا في هذه الرّواية، إلاّ أنّ


ـــــــــــــــ
(1) المرجع نفسه، ص 46.
(2) المرجع نفسه، ص 248.
الفصل الثاني بنية الفضاء


الرّوائي لم يغص في أعماق عالم السّجن لنقل تفاصيل يومياته، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ حديثه عنه وإن جاء على لسان بعض الشخصيات غير الفاعلة، فهو حديث يصوّر
بعضا من واقع السّجن، ولعلّ المؤلّف لم يشأ أن يغوص في أعماقه، وسراديبه الباردة، المواطن الجزائري مُعَرَّضٌ للخطر في أي مكان، وفي أي زمان.
5- الفضاء الثقافي:
يحوز الفضاء الثقافي على مساحة من حجم النّص الرّوائي وخاصة فضاء الزاوية الذي على صفحات عديدة من حجم الرّواية، كما حظيت الزاوية بتفصيل دقيق لما يقع داخلها.
أ/فضاء الزاوية:
بعتر مقرّ الزاوية في مكان نائي نسبيا عن مقر التجمعات السكانية وقد حُددَ في النّص بأنّه يبعد بنحو عشر كيلومترات من محطة القطار، إلاّ أنّ عزلتها هذه لم تمنعها من أن تكون فضاءًا نشيطا، تدب فيه الحركة في كل الأوقات وخصوصا في المواسم المعتدلة، وكما عبّر عنها الرّاوي، فهي "خليّة نحل حقيقية، فيها العُبَّاد والزهّادُ والفُجَّارُ والتُجَّارُ والسّماسرة والمختلّون والمثقفون والفّنانون والمكبوتون، فيها المرضى والكسالى والأصحّاء والعمال كأيّ مدينة أخرى، لكنّها مدينة روحية بالدّرجة الأولى من حيث الرّمز، مدينة علم من حيث ما يقدَّم فيها من دروس، ملجأ من حيث إيواء الفقراء والمساكين والعاطلين والعجزة والأرامل لياليها ساهرة أبدًا، الزوّار لا ينقطعون، بعد العشاء يقيمون الحفلات الفلكلورية ذات الصبغة الصّوفية، رقص، درس – رقص يدق الراقصون فيه الأرض بأرجلهم صفوفا صفوا- حفلات موسيقية، حلقات ذكر، حلقات قراءة قرآن..."(1)


ـــــــــــــــ
(1) المرجع نفسه، ص 219.
الفصل الثاني بنية الفضاء

فهي بهذه الصفات والوظائف الكثيرة تكون أقرب إلى الفضاءات الشاسعة، مثل المدن والقرى والتجمعات السكانية الكبرى.
وقصد الكاتب بتركيزه على هذا الفضاء إلى نقد واقعه الذي ضلّ عن هدفه الحضاري الذي أنشئ من أجله، وتحوّل إلى مركز تجاري فخم، يتاجر فيه الخلق بكلّ شيء، ويقومون بجميع الأعمال المشروعة والمحظورة، وقد أصبحت الوظيفة الأساسية التي أسست الزاوية من أجله – وهي التربية والتعليم- مثل بقية الأعمال الأخرى التي تنجز داخل فضاء الزّاوية، رغم أنّها تتميز بدقة التنظيم، سواء في مواعيد الدراسة أو المواد المقررة طوال مدّة الدراسة.
تميز فضاء الزاوية بانفلاق شديد، وإدارة قوانين صارمة تشبه القوانين العسكرية، ولعلّ بسبب ذلك يعود إلى النّظام الدّاخلي وقلة إمكانيات الاستقبال وكثرة الطلبة وهي حالة اجتماعية أدّت ببعض الطلبة إلى الشذوذ.
ورغم ما تتمتع به الزاوية من مصادر متنوّعة للتموين فإنّ الطلبة يعيشون أوضاعا اجتماعية مزرية، ويعانون من ضغوط نفسية قاسية، وقد نشأ عن انعدام حرية التعبير داخل الزاوية، وجود طبقتين متعارضتين: الأولى تملك وتُدير وتقدّم الأوامر وتتمتع بكلّ ما لَذَّ وطاب من الخيرات الواردة إلى الزاوية وتتمثل هذه الحياة خصوصا في شخصية شيخ الزاوية، وبعض مساعديه وكذلك المشائخ الذين يتولّون وظيفة التدريس، فأما الفئة الثانية هي تتكون من الطّلاب وبعض الخدم، حيث تكاد هذه الفئة تحرم من جميع المنافع التي ترد إلى الزاوية وتعيش وضعا اجتماعيا قاسيا إذ نجد في قوله: "في العشاء جيء بجفنة طعام مدهون بزيت – الصانقو- وهو زيت نباتي فظيع الطعم في الكسكسي، لم يكن عدد الطلبة حينئذ كثيرا، كنا حوالي 30 طالبا، جيء بثلاث جفان خشبية، كان المرق الذي يسقى به الكسكسي يتكون من ماء وقرع، يشبه لونه لون البول"(1)
ـــــــــــــــ
(1) المرجع نفسه، ص 216.
الفصل الثاني بنية الفضاء

ب/فضاء المدرسة: يلتقي هذا الفضاء مع فضاء الزاوية في وظيفة التعليم، ولكنها يتوازيان في أمور كثيرة، حيث أن فضاء المدرسة يتميز بهيمنة العنصر الأجنبي عليه، فهو الذي يعلم ويدير المدرسة ويقرر مواد البرنامج، وإضافة إلى كل هذا، فهو يسعى إلى التفرقة بين التلاميذ الفرنسيين وبين التلاميذ الجزائريين، كما أنه يبث التفرقة بين التلاميذ الجزائريين حيث حاول في البداية وضع العرب في جهة والأطفال والقبائل في صف آخر، وفي القسم خصص لكلّ فريق جانبا من مقاعده، كجانب الأيمن للعرب والجانب الأيسر للقبائل.
ويمكننا أن نشير أنه رغم ما كان يبثه المعلم الفرنسي من تفرقة بين التلاميذ الجزائريين وتضليل وتشويه الحقائق التاريخية فإن التلاميذ لم يستجيبوا لأفكاره، ولم يتأثروا بمحتوى دروسه وإنما تمردوا على مضامين هذه الدروس، وسَخِرُوا من الأفكار التي يسعى لغرسها في أذهانهم.
وقد بلغت هذه الثورة ذُروتها في شخصية ابن "القائد" إذ كان من أكبر المحرّضين على العبث والسخرية بالمعلم، ولغ وعي ابن القائد مداه، حينما قرر المعلم الفرنسي أن يكون موضوع الإختبار الكتابي في مادة الإنشاء عن موضوع "حمار عومل معاملة سيئة من طرف أحد الأهالي"(1) ، فقد كتب موضوعه في شكل قصصي جميل، وجعل الحمار يتكلم ثلاث لغات: الفرنسية والعربية والقبائلية وقد تمكن من أن يكون من بين الذين استقبلوا الرئيس الفرنسي وألقى خطابا بليغا أمامه، فأعجب به، ودار الحوار التالي بينهما: "ما إن سمع بمقدم رئيس الجمهورية في طريقه إلى قسنطينة، حتى كان من أول المستقبلين له! تعجّب الناس وأسرعت سلطاتُ الأمن لإبعاده عن طريق رئيس الجمهورية، لكن الحمار تكلم! فإنصعق الجميع لذلك، ولم يدروا ماذا يفعلون! الأمر الذي يسّر للحمار العجيب الإقتراب من رئيس الجمهورية

ـــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة "غدا يوم جديد"، ص 242.
الفصل الثاني بنية الفضاء

وكان يحبُّ الحيوانات فمسح على رأس الحمار العجيب يطمئنه، شكره الحمار على ذلك بلغةٍ فرنسية فصيحة! فتعجّب رئيس الجمهورية إلى درجة الذّهول! لم يدع الحمارُ فرصة لرئيس الجمهورية ولا لأحد أن يتمكن من إقصائه، فبادر بإلقاء خطابه"(1).
لقد صوّر فضاء المدرسة تماسك الشبان الجزائريين، وعدم استسلامهم للأفكار العنصرية التي تُدَسُّ إليهم في الدروس، كما بيّن وعي الشبان بواقع بلدهم، والمصير المأساوي الذي آل شعبُهم إليه.
والطريق في هذه الرواية هو أنّنا وجدنا أبناء أعوان فرنسا وسادتها من الأهالي يتمردون ويتجاوزون أفكار الطبقات التي ينتمون إليها، فيثرون على الأوضاع ويعبرون عن مواقفهم الوطنية بجرأة وثورية نادرتين، ويعد هذا من بين الأمور التي لم تهتم بها الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية إلا نادرا.
ج/ فضاء النّوادي:
لم يرد الحديث عن فضاء النّوادي سوى نادي التّرقي الذي كان موجودا قبل الإستقلال، ولعب دورا هاما في نشر الثقافة العربية والمحافظة عليها طوال سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وقد جاء الحديث عنه عن طريق حالات التّداعي، حينما استنطق الدّركيان " قدور" بأسلوب استفزازي عن موقف العلماء وصهره المخفي، وإقدام الأهالي على القيام بحرب من أجل إخراج فرنسا من الجزائر.
وعموما فإن هذا الفضاء لم يكن عنصرًا بارزًا ي الرواية وإنما ورد ذكره ضمن حالة نفسية أصابت قدور بسبب استفزازات الدّركيين، وهطول أسئلتهما على سمعه، مثل الوقع الثقيل، فنذكر عدّة أماكن، كان يتردد على بعضها، وسمع بالأماكن الأخرى: الميناء، المقهى،÷ المسجد، نادي الترقي.
إن الفضاء الثقافي في رواية " غدا يوم جديد " لم يكن واضح القسماتِ، مثلما

ـــــــــــــــ
(1) المرجع نفسه، ص 246.
الفصل الثاني بنية الفضاء


كان فضاء الريف عنصرا مؤثرا وفعالا في بنية النسيج الروائي، فمثلا وظيفة المقهى في الريف كانت مؤثرة وبارزة بينما كادت تحتجب هذه الوظيفة في المدينة رغم يقيننا أن المقهى من الفضاءات التي تدار وتحسم فيها أمور كثيرة، كما كانت من الأماكن التي انبعثت منها الأفكار الوطنية، وهي تكاد أن تكون مجمعا للأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعقد فيها الاتفاقات كما تنقض فيها أيضا.
6- فضاءات البلدان والمدن:
جاء الحديث عنه ي النص الروائي على لسان بعض الشخصيات، كما أن تأثيره في بنية الرواية غير قوي، فهو لم يشهد أحداثا مثل: فضاء المحجر وفضاء المحكمة.
أ/ الفضاء المقدس:
يُكثِرُ النص الروائي من ذكر بعض المعالم المقدّسة مثل مكة، ومِنَى والحجر الأسود، ويرد ذكرُ هذه الأسماء على لسان الرواية في بعض جملها، حيث تكاد تكرر ذكرها كلما جلست إلى المؤلف مدوّن قصة حياتها ومنها قولها: " أقول كل شيء، وأذهبُ إلى مكة، أغسل عظامي بماء زمزم، أبنائي آباؤهم ليسوا آباهم! كل شيء بدأ من المحطة"(1).
كما جاء ذكر فضاء مِنَى في هذه الفقرة: " أخاف الموت اختناقا في غار منى، إنّ الحجّاج كثيرون على ما سمعت، كثرةُ البشر لا تعني التطوّر إلى الأفضلِ سواءٌ في الحج أو في الصلاة أو الحياة العامة"(2) .
ـــــــــــــــ
(1) عبد الحميد بن هدوقة "غدا يوم جديد"، ص 37.
(2) المرجع نفسه، ص 180.