الضاد وقد ندبت حظها
12-09-2017, 05:31 PM

الضاد وقد ندبت حظها*

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هويناك! ورويداك!
إنها الضاد، تخاطب ــــ بلسان الحال ــــ العباد.
قائلة:
ها أنتم يا من وضعتموني في عتمة مسالكٍ سِرتُ الخطى في دروبها، أتذكر في لحظات مخيلتي من الأيّام الغر عشتها دهورًا؛ كنت سيدة اللغات، وعقيلة العلوم والآداب والثقافات.
ومع ذلك تبقى صدمة الواقع لها وقعٌ مختلفٌ لما صار إلى ذلك مآلي، حين غاب أكفائي ورجالي.
ذروني أنْ أحكي لكم عن حالتي الحقيقية بينكم، كما هي بلا تنميقٍ ولا تزويقٍ.
فمرّة أبكي تعاستي في غضبةٍ مُضريةٍ تكون كالسيلِ الجارفِ تدمِّرُ ما في طريقِها، وأخرى أندب حظي حين أعود إلى ذلك الماضي الآفل فأتذكر مجدًا، وأنّى لي الذكرى؟!
إنها لذكرى كماءِ الجداولِ تروي عطش النفسِ الحزينةِ.
فأضعُ كلّ ذلك بين أيديكُم، لعلّكم تقولون كلمتكُم.
أنا الضاد.
وإنّه ليَحدوني إليكم ما تكِنـّهُ قواميس مفرداتي، وتقرّهُ قماطير بليغ بياني.
ها أنتم ألفيتموني أحكي حروفاً وكلماتٍ، ومعانٍ مؤلمةً قاسيةً موجعةً، تتزاحمُ و تضجُّ في أعماقي، تلك الكلمات فما هي إلاّ مجموعة من بقايا دموعٍ وأحزانٍ، تجتاحُ مساحاتي لِتخترقَ وجودي؛ فأتوسّد الهمومَ التي أصبح منبتـُها منـّي في حياتي لهذا الهجران منكم.
سأتلو عليكم خلجات و مشاعر ثائرة محترقة بحروفٍ يغلفها القلق و الضجر إلى كل إنسانٍ له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيدٌ.
ويحكم!
لِمَ هذا النفور منكم؟
أ مكتوبٌ عليّ معاشرة الأحزان نفساً و فكراً، بهذا الهجر الأبدي خلف حطامٍ بالثرثرة بكلماتِ من بعض اللغات الأخرى
آهٍ!
فلو كنتُ جسمًا من حديدٍ لذابَ من صَهدِ المواجهة ِو تفاصمَ، و لو كنتُ قلبًا من فولاذٍ لأصابهُ الصدأ و البلى، فتهاوى كجذعِ نخلٍ خاويةٍ وارتطمَ.
ومع ذلك فهاأنذا باقيةً، وسأبقى خلف حطــــامٍ من الكلماتِ تجدونني أعيد شريطاً منَ الذكرياتِ، ووسط احتباسٍ منَ الهمساتِ.
ولو ترعوا إلى بسمعكم لوجدتموني
أستصرخكم وأنا أبكي بحرقةٍ صرخةً سمعتها كل الكائنات ما عدا أنتم على ما فات.
أتذكر الماضي وهو يختفي شيئاً فشيئاً.
يا لها من صرخةٍ دَوتْ في أعماقِ وجداني ولكن لا من سامعٍ.
يا أنتم .
أُحاولُ الآن أن أطرحَ بعضاً من حروفٍ حزينةٍ محاولةً بأسلوبي وصدق أحاسيسي ومشاعري و ثورة كلماتي، لتكتشفوا أنّ موسىً جارحة داخل أعماقي منقوشة بأظافر الزمن الحادة المسمومة التي غرسها ذلك العربي الذي قال لي يوماً، أنني أنا لغته وعروس لسانه.
نعم! صرخت، ولكن كان صراخي كذاك الصوت الأصم الذي لا يرجعه صدى. فصرتُ كالشارد الهائم الذي لم يجد هدىً.
تعبتُ.
تعبتُ من الصراخ في أعماقي، والتشرد في خواطري وخلجات نفسي.
فكّرتُ في أن أنامَ أخبو، فغرقتُ في السراب.
انتهتِ الكلماتُ، وانتهى كل شيءٍ.
تسترسلُ بعضُ المشاعر في مفرداتي ذكريات جميلة.
ذكريات تـُعيدني للماضي الذي أصبحَ جزءً من الخيال.
أتذكر شيئاً حزيناً فيبكيني، وقد يكون ذلك الشيء سعيداً فأبكيهِ وأتمنى عودته، لكن ما أقسى اللّحظات التي أمرّ بها وأنا أتذكر الأشياء الجميلة التي لا تعود.
لقد كتمتُ الغضبَ في جوفي إلى حدِّ الانفجارِ، وحولي من اللغات من يقرأن وينظرن إلي همساتي باستهتار، حتى جفت دموعي عند حاجتي للبكاء.
أهي قسوة الزمن تلتهم مني أجمل سنوات عمر وجودي؟
أم هي حياة بلا قدرٍ؟
آهٍ!
كم هي قاسية هذه الحياة.
أنا الضاد، أيها العباد.
عندما أشعرُ أني بَلا أملٍ أسيرُ لخواطري وصرخاتي الضائعة، والمشوّهة بحزنٍ وألمٍ مطليّ بألوان رطنات عجم اللغات، أشعر وكأن أبنائي يخنقونني وهم يتهمونني بضعفٍ عن لحظات آلامي بعباراتٍ استوطنتها الظنون وكلماتٍ ضاع فيها المضمون.
أسرد مقتطفاتٍ من جنون جنوني عن تلك الأيّام الخوالي، سقاها الله ما أجملها! قد صارت أثرًا بعد نظرة عين.
أمّا الآن فليس لي سوى أن أرويَ كلامًا عن فقر أحلامي، أحثّ بها كياني الوحيد على الصمت، لكي أشردُ بمفرادتي في بحر الخيال، لكني أتوه بين الواقع والخيال.
ثمة أحلام تقودني إلى ازدحام متاهاتي ، فأحاوُل أن أتجرّعَ كؤوس النسيانِ، وأحاول أن أترجّل عن ذلك الحصان الهرم من الذكريات النائمة، لأمتطيَ حصاناً من الواقع أتمنى عدم السقوط منه في أوديّة أخطاء من بقوا يشدهم الحنين إلى بلاغتي وفصاحة كلماتي.
وحين أصحو على حزن معاناتي أجمع حزن الأحزان وأترجمه فوق قراطيسي دموعاً باكيةً، بصراخ أخرس.
لم يبق لي سوى خواطري أعودُ بها من الماضي، وألوذُ بها بالحقيقةِ طرحتها.
لأنّه ما عاد هناك من يكتب الآن قصائد مدحٍ لأشخاصٍ تاهوا في مستنقع الحياة
وليس هناك من ينثر عبارات تجعل منَ الكوخِ قصراً، أو كلماتٍ تقنعت بالابتسام، وأنتظر أن يمطرَ شتائي أحزاناً لتزهر أشجاري آلاماً، وتثمر جراحاً.
أبيعها سمّاً قاتلاً انتقاماً من العربِ الذين شردوني؛ ثمّ إنِّي لَعربيّتهم، حين اِلتهموا أيّام عمري، ومن ثَمّ رموني في منفى الحياة، بهذا الهجر الأبدي الذي لا ينتهي.
علي ق. الإبراهيمي
* أرسلتُ مقالي هذا إلى بوابة الشروق، لعلني أفوز بشرف نشره في جريدتنا الغراء. ولكن يظهر أنه لا يرقى أن يكون صالحًا بين كوكبة تلك المقالات.
عندئدٍ يممتُ إلى منتدانا هذا، ثم أنه لا فرق وكلها " شروق "

التعديل الأخير تم بواسطة علي قسورة الإبراهيمي ; 22-11-2019 الساعة 10:05 AM