رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
24-11-2016, 10:41 AM
2 - تجرُّده في دعوته:
إنَّ صفاء قلبِ المؤمن من شوائب الشهوات، ومن أكدار الشبهات، ومن تمنِّي أذيَّة الخلق - لَخُلُقٌ كريم دعا إليه الإسلامُ؛ ولكن هذا الخُلُق يصبح أمرًا عجبًا حينما يتمكَّن المظلوم ممَّن ظلَمَه، ولكنَّه يُقابِله بالعفو والإحسان، كما حدَث من الشيخ رحمه الله؛ فإنَّه لمَّا أظهَرَه الله على عدوِّه، ما فعل شيئًا يُؤذِيهم، ولا استغلَّ الموقف لصالحه؛ بل فعَل ما أملاه عليه دينُه، واحتَكَم إلى شرعِ ربِّه، فعفَا وصفَح، وهذا يدلُّنا على:"صَفاء قلبه، وإخلاصه في دعوته (وتجرُّده من كلِّ هوًى أو انتقام)، ولقد كثُر خصومُه، واشتدَّ عليه منهم الأذى، وبلغوا منه في محنته كلَّ مبلَغ، إلا أن يُسكِتوه عن قولة الحق جهيرة مسموعة، وكثيرًا ما تمكَّن من ردِّ عدوانهم عليه، ولكنَّه عفَا عنهم، ولم يؤذِ أحدًا منهم، بل إنَّه كان يُدافِع عنهم الأعذار (لعلها: ويلتمس لهم الأعذار)"[11].
وفعلُه هذا هو فعلُ الصدِّيقين، وقد حكَى لنا القرآن الكريم قصَّة سيدنا يوسف - عليه السلام - وما فعَلَه إخوتُه معه وهو صغير، ثم لمَّا قدر عليهم عفا عنهم؛ قال - تعالى - حاكيًا قولَ يوسف - عليه السلام - لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف: 92)[12].
وبمثل فعل يوسف - عليه السلام - فعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع قومه في فتح مكة المكرَّمة، حينما عفا عنهم وسامحهم، ولم ينتَقِم منهم مع قدرته على فعل ذلك، "ولا شكَّ أنَّ هذا من أرفع ما عُرِف في أخلاق الدُّعاة إلى الله - تعالى - وهو خُلُقٌ (ربَّى الله عليه رسلَه كما) ربَّى عليه سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطليعةَ من الرَّعِيل الأوَّل، الذين سبَقُوا إلى الإسلام، واحتملوا الأذى في سبيل عقيدتهم وإيمانهم"[13].
ومن ملامح تجرُّد الإمام ابن تيميَّة رحمه الله: أنَّه اشتهر عنه لدى الخاصَّة والعامَّة: الزهدُ والوَرَع؛ وذلك أنَّه:"ما خالَط الناسَ في بيعٍ ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا مُباشِرًا لمالِ وقفٍ، ولم يكن يقبَل جرايةً ولا صلةً لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مُدَّخِرًا دِينارًا ولا دِرهمًا، ولا متاعًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعته مُدَّة حياته وميراثه بعد وفاته - رضي الله عنه - العلم؛ اقتداءً بسيِّد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين - فإنَّه قال:" إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورثوا العلم، فمَن أخذ به، فقد أخَذ بحظٍّ وافر".[14][15].
وهذه أحوال العلماء العامِلين الموصوفين بالربَّانيَّة، والذين كرَّسوا كلَّ حياتهم للعلم: تعلُّمًا وتعليمًا ودعوة، سواء كانوا أئمَّة للدِّين، أو قضاة، أو من أهل الفُتيَا، أو من الخُطَباء والمؤذِّنين، فهؤلاء الربَّانيون لم يكتَرِثوا بزخارف الدنيا، وحُقَّ لهم ذلك؛ فهم: حمَلَة الشريعة، وهو أمرٌ يَعرِفه كلُّ مَن له أدنى اطِّلاع بأحوال ذلك الصِّنف من الناس عبر السنين، وقد عقَد العلاَّمة ابن خلدُون رحمه الله في:"مقدمة تاريخه" فصلاً بعنوان: "في أنَّ القائمين بأمور الدين من القضاء والفُتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك: لا تعظم ثروتهم في الغالب... "، ثم علَّل بعضَ أسباب ذلك قائلاً: "وأهل هذه الصنائع الدينيَّة لا تضطرُّ إليهم عامَّة الخلق؛ وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواصُّ ممَّن أقبَلَ على دينه... وهم أيضًا لشرف بضائعهم؛ أعزَّة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يَخضَعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظًّا يستدرُّون به الرِّزق؛ بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك؛ لما هم فيه من الشغل بهذه البضائع الشريفة المشتَمِلة على إعمال الفكر والبدن؛ بل لا يسعهم ابتذالُ أنفسهم لأهل الدنيا؛ لشرف بضائعهم، فهم بِمَعزِلٍ عن ذلك؛ فلذلك لا تَعظُم ثروتهم في الغالب"[16].
والتقلُّل من الدنيا هو: سَمْتُ العلماء الربانيين المصلِحين ذوي الهِمَم العالية؛ لأنهم أَوْلَى الخلق بالتقلُّل من زخارف تلك الدنيا، بما لا يضرُّهم في دينهم، أو يكدِّر عليهم صفوَ حياتهم[17].
ومن تجرُّدِه أيضًا رحمه الله: "ما جمَعَه الله له من الزهادة والوَرَع والدِّيانة، ونصرة الحق والقِيام فيه، لا لغرضٍ سواه"[18]، وفي سائر تَآلِيفه: كان يَطلُب الحقَّ، ويدور مع الدليل حيث دار، و:" ليس له مصنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا فتوى: إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليلُ النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة: يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين"[19].
فالحق غايته، والصواب مرامه، " وإذا نظَر المنصِف إليه بعين العدل: يَراه واقِفًا مع الكتاب والسُّنَّة، لا يُمِيلُه عنهما: قولُ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا يُراقِب أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا، ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحدٍ"[20]؛ وإنما:"كان مقصوده وهمُّه الوحيد: خدمةَ الدين، فهو لا يقصد من وراء ذلك شهرةً ولا استعلاءً؛ ودليل ذلك أنَّه قد نذَر حياته كلَّها لخدمة الدِّين، فلم يخلف مالاً، ولم يُعقب ولدًا؛ بل ترَك ثروة علميَّة"[21].
وظهَر من تجرُّده: أنَّه دعا المصلِحين والدُّعاة والأُمَراء إلى التجرُّد في دعوتهم، فقال: "فمَن كان من المُطاعِين - من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك - مُتَّبِعًا للرُّسل، أمَر بما أمَرُوا به، ودعا إلى ما دعَوا إليه، وأحبَّ مَن دعا إلى مثل ما دعَوا إليه؛ فإنَّ الله يحبُّ ذلك، فيحب ما يحبُّه الله - تعالى - وهذا قصدُه في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله - تعالى - وحدَه، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأمَّا مَن كان يَكرَه أن يكون له نظيرٌ يدْعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المُطاعَ المعبود، فله نصيبٌ من حال فرعون وأشباهه... فالمؤمن المتَّبِع للرُّسُل يأمر الناس بما أمرَتْهم به الرسل؛ ليكون الدين كلُّه لله لا له، وإذا أمَر أحدٌ غيرُه بمثل ذلك: أعانَه وسُرَّ بوجود مطلوبه، وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يُحسِن إليهم ابتغاءَ وجه ربِّه الأعلى، ويعلَم أنَّ الله قد مَنَّ عليه بأنْ جعَلَه مُحسِنًا، ولم يجعله مُسِيئًا، فيرى عمَلَه لله، وأنَّه بالله"[22].
وهذا حال المؤمن الداعي إلى الله على بصيرةٍ؛ إذ إنَّه يُرِيد الوصولَ إلى الحق، "ومن دلائل إخلاصِه في الوصول إلى الحقِّ، وأنَّ القصد ليس هو الغلبةَ والانتِصار على الخصوم: أنَّنا نجده -أي: الإمام ابن تيميَّة رحمه الله- لا يرحِّب بِمَن شارَكَه في الردِّ على خصومه من المبتدِعة ببدعةٍ وبباطل، فالغاية الشريفة: لا تبرِّر الواسطة المحرَّمة؛ لهذا ردَّ على قومٍ من المتأخِّرين أرادوا أن يُدافِعوا عن الحق، ويرفعوا تأويلات أهل البِدَع للمتشابه، ولكنَّهم أخطؤوا، يقول: "(وهذا الذِي قصَدُوه حقٌّ)، وكلُّ مُسلِمٍ يُوافِقهم عليه، لكن لا ندفع باطلاً بباطلٍ آخر، ولا نرد بدعة ببدعة[23]". [24].
والإمام ابن تيميَّة رحمه الله: لم يكن يدعو لحزبٍ سياسي أو فقهي، ولم تكن مِحَنُه هذه ليُصبِح في نهاية المطاف زعيمًا أو مسؤولاً أو شيخًا لطريقة ويفرح بكثرة الأتباع!!؟؛ بل لنصرة الحق وحدَه حيث كان، وجعَل الموالاة والمعاداة في الله ولله وبالله، وقد ذمَّ هو نفسُه مَن ينتَسِبون إلى شيخٍ يُوالُون عليه ويُعادُون، فقال: "وليس لأحدٍ أن ينتَسِب إلى شيخٍ يُوالِي على مُتابَعته ويُعادِي على ذلك؛ بل عليه أن يُوالِي كلَّ مَن كان من أهل الإيمان، ومَن عُرِف عنه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمَزِيد مُوالاَة إلاَّ إذا ظهَر له مزيدُ إيمانِه وتَقواه، فيقدِّم مَن قدَّم اللهُ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويفضِّل مَن فضَّلَه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -"[25].
وقال أيضًا: "وليس للمعلِّمين أن يُحَزِّبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء؛ بل يكونون مثل الإخوة المتعاوِنين على البر والتقوى... وإذا وقَع بين معلِّم ومعلِّم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلِّم وتلميذ - خصومةٌ ومشاجرة: لم يَجُزْ لأحدٍ أن يُعِين أحدَهما حتى يعلَم الحقَّ، لا (فلا يعاونه) بجهل ولا بهوى... ومَن مالَ مع صاحبه سواءً كان الحق له أو عليه، فقد حكَم بحكم الجاهليَّة، وخرج عن حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والواجب على جميعهم: أن يكونوا يدًا واحدة مع المُحِقِّ على المُبطِل، فيكون المعظَّم عنده (عندهم) مَن عظَّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمقدَّم عندهم مَن قدَّمَه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمُهان عندهم مَن أهانه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما يُرضِي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا بحسب الأهواء؛ فإنَّه مَن يُطِع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد رشد، ومَن يعصِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لا يذلُّ إلا نفسه"[26].
وقال: "ومَن حالَف شخصًا على أن يُوالِي مَن والاه ويُعادِي مَن عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان"[27].
ويُظهِر تجرُّدَه كذلك في دعوته: أنَّه لا يرجو منصبًا، ولا يرنو إلى جاه، ولا يبغي عَرَضًا زائلاً؛ بل كان يدْعو إلى الله ابتِغاءَ مرضاته، ولمع ذلك التجرُّد أنَّه:"لما وَشَوْا به إلى السلطان الأعظم وأحضروه بين يديه، قال من جملة كلامه: "إنَّني أُخبِرت أنَّك قد أطاعك الناس، وأنَّ في نفسك: أخْذَ الملك"، فلم يكتَرِث به؛ بل قال له بنفسٍ مطمئنَّة، وقلب ثابت، وصوت عالٍ، سمِعَه كثيرٌ ممَّن حضر:" أنا أفعل ذلك!!؟، والله إنَّ ملكك وملك المغول: لا يساوي عندي فلسَيْن"[28].
بل عُرِضت عليه الولاية والإمارة من ملك التتر، فردَّها؛ حيث عرَض عليه غازان بعد لقائه معه قائلاً له: "إن أحببت أن أعمِّر لك بلد آبائك حران[29]، وتنتَقِل إليه ويكون برسمك، فقال: لا واللهِ، لا أرغب عن مهاجر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأستَبدِل به غيره"[30].

يتبع بإذن الله.