رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
06-12-2016, 02:56 PM
4 - عمق تأمُّلِه:
إنَّ مؤلَّفات شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله العديدة المتنوِّعة: خيرُ دليلٍ يُرشِد إلى عمق تأمُّله؛ فهو: رافع راية العلماء، وحامل علمهم، وناقلُه بعينٍ فاحصة بصيرة، فهو ليس مجرَّد ناقِل للعلوم؛ بل إنَّه خبيرٌ بما يقرَأ، حريصٌ على نشر ذلك التُّراث الزاخِر بين أفراد الأمَّة، وممَّا يدلُّ على عمق تأمُّله للعلوم: أنَّه ينقل المسائل الكِبار، والتي اختَلَف فيها العلماء، فيُورِد أدلَّة هؤلاء وهؤلاء، ثم يرجِّح ويُوازِن بينهما بإنصافٍ كما تقتَضِيه الصناعة العلميَّة، وهو قد اجتَهَد في كثيرٍ من المسائل في شتَّى الموضوعات، وكان له فيها القدح المُعلَّى؛ بل قد وصَل إلى سُدَّة الأمر فيها، فالقارئ لكُتُبه: يجد هناك أصولاً وقواعدَ وضَعَها لضبْط بعض المسائل، كما يجد هناك اختيارات له توصَّل إليها دون تقليدٍ لأحد؛ بل بما عنده من علم، فمنها ما وافَق بعض الأئمَّة، ومنها: ما وافَق صحابةً أو تابعين رضي الله عنهم، كما أنَّ منهجيَّته في تَآلِيفه وتنوُّع الأجوبة والرسائل والوسائط الدعويَّة: خيرُ دليلٍ على سَعَةِ علمه، وهذه الأمور وغيرها مُتناثِرة في كتبه وكتب مَن ينقل عنه تَناثُرَ الدرِّ، ومن الأمور الدالَّة على بُعْدِ نظَرِه وعُمْقِ تفكيره: أنَّه لا يأتيه مُبطِلٌ بأدلَّة يُرِيد بها إثباتَ باطِلِه، إلا ردَّ عليه من نفس أدلَّته، وجعَلَها حُجَّة عليه، كما حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله بقوله: "وقال لي: أنا ألتَزِم أنَّه لا يحتجُّ مُبطِلٌ بآية أو حديث صحيح على باطله، إلاَّ وفي ذلك الدليلِ: ما يدلُّ على نقيضِ قوله"[41].
ومن خِلال كلماته هذه تظهَر لنا:"قوَّته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها"[42].
ومن الأمور التي اجتَهَد فيها وأظهَرَها: فطرُ الجنود في رمضان عند مُلاقاة العدوِّ؛ حيث أمَر المسلمين المجاهدين بالفِطْرِ في رمضان لقِتال العدو، وأفطَرَ هو بنفسه، وأخَذ يمرُّ بين الصُّفوف ليَراه الجنود، وقال: "هذا فطرٌ للتقَوِّي على جِهاد العدو..."، وقال:" والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهم وهم صِيامٌ لم يمكنهم النِّكاية فيهم، وربما أضعَفَهم الصومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضة الإسلام..."، ثم قال:" وهل يشكُّ فقيهٌ: أنَّ الفطر ها هنا أَوْلَى من فطر المسافر؟! "[43].
وممَّا يدلُّ على مدى عمق فِكرِه اللغوي:" أنَّه يربط بين الأسماء والمسمَّيات، فإذا ورد عليه لفظٌ: أخَذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفيَّة تركيبه"، حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله[44].