رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
25-10-2017, 03:17 PM
4 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:
ذكر ابن الجوزي: أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره، ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي، ليكون أميراً على الحج، ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج:" إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة".
وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد:" إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن"، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز.
وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً، وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي: السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر: أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به.

5 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:
خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم، وقال:" يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة"، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، وقال مزاحم:" ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت، فإذا القمر في الدبران" ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال:" فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة!"، فنظر عمر فإذا هو بالدبران، فقال:" كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكن نخرج بالله الواحد القهار".
وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها.
ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد: لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول:" الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، .. امتلأت والله الأرض جوراً".

6 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:
سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك: نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم: أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال:" يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟، قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول، فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً، ثم قال: يا غلام من بالباب؟، فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص، فقال عمر:" إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك". فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك، عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم، فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه، وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟، أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟، فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره، ثم أن الحجّاج أرسل إلى أعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج: ما تقول في معاوية؟، فنال منه، قال: ما تقول في يزيد؟، فسبه، قال: فما تقول في عبد الملك؟، فظلمه، قال: فما تقول في الوليد؟، فقال: أجورهم حين ولاك، وهو يعلم عداءك وظلمك!!؟، فسكت الحجّاج وافترصها منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي، فشأنك وإياه.
فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟، قال: ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟، قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟، قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه، فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟، أصبنا أم أخطأنا؟، فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري، أفتستحل ذلك؟. قال: لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك، وهكذا احتال الحجّاج على الوليد، ليصرفه عن الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل.

7 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
بالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه، فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟، أترى أن يقتل؟، فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟، فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟، قال: لا، ولكنه سب الخلفاء، قلت: فإني أرى أن ينكل، فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.