رد: فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبراهيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ
09-05-2017, 09:46 AM
ذكرنا فيما سبق شيئا من سيرة الشيخ: مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي الجزائِري، رحمه الله، والمراحل التي مرَّ بها في حياته قبيل تأسيسه لجمعية علماء الجزائر، وكيف مثل لقاءه بالشيخ عبد الحميد بن باديس: منعطفا جديدا في حياته، ومن ثمَّ في الواقع الجزائري الذي خطط الشيخان لتغييره، وبعث الإصلاح في، من منظور واعٍ وحركة منظمة، وتخطيط مسبق.
ونكمِلُ هنا شيئًا مِن جُهودِه في تأسيسِ "جمعيةِ العُلماءِ" واهتمامِه بشَريحةِ الشَّبابِ في الجزائر خصُوصًا، مع جُهودِه الإصلاحيةِ التي بذلها في توعية المجتمع وإصلاحِ تدَيُّنه.

تأسيسُ جمعِية عُلماء الـمُسلمين بالـجزائِر:
كان الإِبراهيمي يعتقدُ أَن الـمشارِيع الإِصلاحية لاَبًدَّ أَن تكون تحت مظلّة إِداريّة، وأَنَّ إِدارةَ الأُمورِ الـكبِيرَةِ لا بُدَّ أن يسبِقها نجاحٌ في الأُمورِ الـصَّغيرةِ، لـذلك كانَ يُقرر ويُكرر أَنَّ: "الأمَّة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تـحسن بالطبع إدارة مجلس فضلًا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب!"[1].
ثـُمَّ جاءَ الـوقتُ لـكَي تتحوّل تلك الأَفكار والمشاريع التي انطلقت عام 1913م إِلى حقائق وفعال عام 1931م. وكان الإِبراهيمي يومها في عنفوانِ شبابهِ، فكانت أَن تحولت (الفِكرة) إِلى (عَمل)، و(الأَمانِي) إِلى (حقِيقة)، بعد أَن كوَّنَ جيشاً مِن الطُّلابِ غَرَسَ فيه الـحُبَّ والـتَّعظِيمَ لـدينهِ ووطنه.
فـيحكِي الـمُصلح الشاب ذلك، فيقُول:
" في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920م و1930م كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قويَّة، وكنَّا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في الشَّعبِ بالعَدل، ونبني على ذلك أَمرَنا، ونَضعُ على الوَرَقِ برامجنا للمستقبل بميزانٍ لا يختَلُّ أبدًا، وكنَّا نقرأُ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.
كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات، كانت كُلُّها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم، وهو: إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وحمَاسٍ متَأجِّجٍ وغَضَبٍ حَادٍّ على الاستعمار، وأصبح لنا جيشٌ مِن التَّلامذة يحمل فِكرَتنا وعقيدتنا، مُسلَّحٌ بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتَفُّ به مئات الآلاف مِن أنصار الفكرة وحمَلةِ العقيدة، يجمعُهم كُلُّهم إيمان واحد، وفكرة واحدة"[2].
وهذا الـعمل الــمُؤسسي قد تعجز على قيامه وتشيِيدهِ دُولٌ وجامعات، فكان أَن وفقَ اللهُ فيه هذا الـشاب الـمُصلح الإِبراهيمي ورفيقِهِ ابن باديس لإنجازهِ وإِتمامهِ.
ومن نـظَرَ متأملاً في سِيرَة الإِبراهيمي، وتأمَّل في تاريخِ جمعيةِ الـعلماءِ، رأى أَنـَّها: مشروعٌ لا ينفكُ وُجودُه عن الإِمامِ الـمُصلحِ الإِبراهيمي، ثُمَّ إِنَّ مِن الـعوامِل التي ساهمت في إِثرائِهِ وتنفِيذه: جـمعُ عـُلماءِ الـجزائِر بتنوعِ عُلومِـهم وفُهومِـهم ومشَاربِهم ومَأربِهم على تقليل الـخِلافِ الحَاصِلِ، لِـيَحفظ على الـوَطنِ:(دِينَه) و(لُغتَه) و(هَوِيّتَه)، فكان أَن:
" تكامل العدد وتلاحق المدد.. العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد مِن إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931م، بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا مِن وَضعي، أدرته على قواعدَ مِن العِلمِ والدِّينِ لا تُثِيرُ شَكًّا ولا تُخِيفُ، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهِينُ بأعمَالِ العَالمِ المسلِمِ، وتَعتَقِدُ أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة، فخيَّبنا ظنَّها -والحمدُ لله-.
دعونا فقهاءَ الوطن كُلُّهم، وكانت الدعوة التي وجَّهنَاها إليهم صَادِرَةً باسم الأُمِّةِ كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأنَّ أولئك الفقهاءَ كانوا يخافوننا لما سبق لنا مِن الحملات الصادقة على جمودِهم، ووَصفِنا إيَّاهم بأنَّهم بلاءٌ على الأمَّةِ وعلى الدِّينِ لسُكُوتهم على المنكرات الدينية، وبأنَّهم مطايا للاستعمار، يُذلُّ الأُمَّةَ ويَستَعبِدُها باسمهم، فاستجَابُوا جميعًا للدَّعوةِ، واجتمعوا في يومها المقرَّر، ودام اجتماعنا في نادي التَّرقِّي بالجزائر أَربَعةَ أيَّامٍ، كانت مِن الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر، ولما تراءَت الوجوه، وتعَالت أصواتُ الحقِّ: أيقن أولئك الفقهاء أنَّهم ما زالوا في دورِ التلمذة، وخضعُوا خُضُوعَ المسلم للحقِّ، فأسلموا القيادة لنا، فانتُخِبَ المجلس الإداري مِن رِجالٍ أكفاءَ جمعتهم وِحدَةُ المشرب، ووِحدَةُ الفِكرةِ، ووِحدَةُ المنازع الاجتماعية والسياسية، ووِحدَةُ المناهضَةِ للاستعمار، وقد وكَّلَ المجتمعون ترشيحهم إلينا، فانتخبوهم بالإجماع، وانتخبوا ابن باديس رئِيسًا، وكاتب هذه الأَسطُرِ وكيلًا نَائبًا عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة وَاقِعةً قَانونيةَ،... وجاءَ دَورُ العمل"[3].

عُلُو هِـمَّةِ الإِبراهيمي:
لقد كان لدى هذا الـشاب الـمـُصلحِ همَّةُ فَعَلت الأفاعِيل، وصَنعَت الأعاجيبَ، في تَفقِيهِ أُمَّتهِ وإِنقاذِ وطَنهِ، وإِصلاحِ ما أفسَدَه الـغَربُ الفرنسِي، وكان يـغلُبُ على كتابتهِ ما يُـمكن تـسميتُهُ بـ:(رُوحِ الاستِنهَاضِ)، فهو مشغُولٌ بالـتحفِيزِ والـحَضِّ على الـقِيامِ بـمطَالبِ أٌمَّته[4].
هذهِ الـهِمَّةُ هي: التي صَنَعَت شيئًا مـمَّا تقدَّم ذكرُهُ، فنَقلَها وَاقِعًا في مُجتَمعِهِ، وجَعلَها شِعارًا في حَياتهِ ومَسيرَتِهِ، فصَارَت يَـحشدُ بها هِـممَ الشَّبابِ، ويُنادِي بها في الـمحافِلِ والـمُناسبَات، فالـواعِظُ والـوازِعُ الدِّيني هو: أَكبر أَسبابِ الـروحِ لـتُستَنهَضَ، والـهِمّةِ لـتَتحرَّكَ، والـجوارِحِ لكي تفعَلَ وتعمل، فـ:"الوَعظُ الدِّيني هو: رائِدُ جمعيةِ العُلماءِ إلى نُفوسِ الأُمَّةِ، جَعلَته مُقدِّمةَ أعمَالها، فمهَّد واستقرَّ، وذلَّلَ الصِّعابَ، وألَانَ الجوامِحَ، وعليه بُنِيَت هذه الأعمالُ الثَّابِتةُ مِن إصلاحِ للعقَائِدِ، ونَشرِ للتَّعليم، ومِنه جنت كلَّ ما تحمدُ اللهَ عليه مِن نجاحٍ"[5].
لقد كان الإبراهيمي ينطلِقُ في أعماله مِن قوله:
" الأعمَالُ الكبيرةُ إذا توزَّعتها الأيدي، وتقاسمَتها الهِممُ: هان حِملُها وخفَّ ثِقلُها، وإن بلغت في العظم ما بلغت!"[6]؛ وقوله:
" إنَّكم ستسمَعُون منِّي كلمَاتٍ مِن بابِ الحَمدِ والشُّكرِ، ولكنَّها مِن باب الحثِّ والازعاجِ، وسأصِلُ بها مبدَأَ هذا العمل بنهَايتِه، فقد بدأناه مجتمعين، وختمناه مجتمعين، ولكن كلّ أعمالنا فيه تعدُّ شيئًا يتَرقبُّ تمامَه، فإذا كنتُ قاسيًا في كلامي، فذلك لأنَّ عملي معكم نُسخَةٌ مِن عَملِ الطبيب: يجرح ولكنه يبرئ"[7].