مقالات الطيب صالح في "المجلة" (1)
27-02-2009, 11:39 AM
درعُ أبى العلاء
الطيب صالح
23/08/2006




يمضي الشيخ العتيد، في عبثه الممتع المفيد، وكأنّي به جالساً القرفصاء وقت الضحى، في داره المتواضعة في المعرّة، يُملي على أحد تلاميذه، وعلى وجهه السّمح المنبط، أبتسامة ماكره، وفي قلبه إحساسٌ دافئ بالسعادة كالذي يحشُّه الطفل الذكي وهو يعالج لعبة هندسية معقدة.
قال رحمه الله وهو يمعن متلذذاً في وصف الدرع:
ماذيّةٌ هَّم بها عايلٌ
من القنا لا عاسلٌ من هُذَيْل
دقّت وما رقّت ولكنّها
جاءت كما راقك ضَحْضاح فميْل
ها هو ذا الشيخ قد أنتشلنا من السّيل الذي أزعج الضب وزوجتّه وابنه، وقذف بنا في بلاد هُذيْل.
فسّر الشرّاح أن الدرع الماذيّه هي البيضاء، وأن العسل الماذيّ هو العسل الأبيض. والعاسل الأول محارب يستهدف الدرع ولا بسها. والعاسل الثاني يجمع عسل النحل في بلاد هُذيْل، وكانت مشهورة بذلك. والمقصود هنا هو العاسل المحارب لا الذي يجمع العسل. والفيْل هو الماء الضحل. هذا وقبيلة هُذيل اشتهرت بكثرة شعرائها المجيدين، ومنهم أبو كبير الهُذلي الذي قال:
ولقد وردتُ الماء لم يشرب به
بين الشتاء إلى شهور الصيِّف
الاّ عواشَلُ كالمراط معيدةٌ
باللّيل موْردّ أيِّم مُتَفضِّف.
والعواسل هنا، هي الذئاب، واحدها عاسل.
وأبو كبير، يصف ماء آنا مهجوراً، لا ترده إلاّ الذئاب بالليل، وقال في أبيات تلى هذين، أنه عافه ولم يشرب منه، رغم شدّة ظمئه. وكانوا يعدّون الصبر على الظمأ خاصة، من علامات الرجولة، كما قال أبو الطيّب:
وأظمى فلا أُبدى إلى الماء حاجةً
وللشمس فوق اليعْمّلات لعابُ.
ثم يمضى أبو العلاء، فيصف أن الدرع رغم رِقتها فإنها صلبة قوية، وأنها ناعمة مثل ماء ضحل. وقالوا إن الفيل هو الماء الذي يجري بين الشجر. ثم يقول:
فمن لبِسطام بن قيس بها
ذخيرةً أو عامر بن الطُّفْيل
فارسها يسبح في لجة
من دجلة الزرقاء أو من دُجَيْل.
تصوّر فارساً، لأنه يلبس هذه الدرع، كأنه يسبح في ماء دجله أو الفرات. وقد أمعن أبو العلاء في تشبيه الدرع بالماء الجاري لنعومتها. ودجيْل، تصغيردجلة هو أحد النهرين، دجلة والفرات.
وفسّر الخوارِزْمي، أن بِسطام، بكسر الباء، هو بسطام بن قيص فارس بكر، وكان من فرسان العرب المعدودين في زمانه. وقتله عاصم بن خليفه الضبّى.
وكان عامر بن الطُّفيْل من أشجع أهل زمانه وكان يُلقّب بمُلاعِب الأسِنّة. وهو القائل:
وإنى وإن كنت ان سِّيد عامرٍ
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سوّدتْني عامرٌ عن وراثةٍ
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وكان حين يجتمع الناس للموسم بعكاظ يرسل منادياً ينادى في الناس:
"هل من راجل فأحمله؟ أو جائع فأطعمه؟ أو خائف فأؤمِّنْه؟"
ويقول أبو العلاء إن هذين الفارسين المعُلّميْن، لو كانت لهما مثل هذه الدرع، لما قتلا كما حدث لهما.
ثم يقول:
أعدّها الشيخ معَدٌّ لما
يطرقُه من لفّ خيلٍ بخيل
كانت لهودٍ عُدّةَ قبلَ
أديان يهودَ حدّثت من قُبيْل
الشيخ معد، بفتح العين أو سكونها، هو ابن عدنان، من آباء العرب الأولين وكان مشهوراً بالذكاء وحدة الذهن والتقشف في المعيشه. وقول أبى العلاء (من لفّ خيل بخيل) يشير إلى قول الفرار السُّلمى:
وكتيبةٍ لبَّسْتُها بكتيبةٍ
حتّى إذا التبسْ نفضتُ لها يدي.
قال الشارح (وهذا من فصيح الكلام وبديعه). وهو كذلك لعمري. وقول أبى العلاء (لفُّ خيلً بخيل) غايةً في الحُسن أيضا.
أراد أبو العلاء أن الشيخ معد، أعد هذه الدرع لحروبه حين تلتف الكتيبة بالكتيبة في غمار المعارك. وكانت قبله عند هود الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وقد سبق ديانات اليهود. وكلمة قبيل، تصغير قبل، ثم يقول:
تُعلَّم الزُّمْيلً ضرب ابن
دارة المنايا كسجايا زُمَيْل.
وقال الخوارزمى:
"الزّميْل هو الرَّذْل الجبان. وابن داره هو سالم بن دارة، ودارة اسم أمه، سميت بذلك لجمالها تشبيهاً لها بدارة القمر، وكانت من بنى أسد. وابن داره من ولد عبد الله بن غطفان بن سعد. وكان هجا بعض بني فزارة هجاء فاحشاً، فقتله زُميل بن ابير وقال مفتخراً:
أنا زمْيلٌ قاتلُ ابن داره
وغاسلُ المخزاة عن فزارة.
يقول أبو العلاء رحمه الله، أن رجلاً تافهاً صادف اسمه وصفه (زميل) جرَّأته هذه الدرع على قتل رجل شريف هو ابن دارة، وأن تلك عادة المنايا، تأخذ الشريف وتترك الرَّذلَ الزّميل.
التعديل الأخير تم بواسطة أرسطو طاليس ; 21-03-2009 الساعة 03:32 PM سبب آخر: تصحيح العنوان