فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبراهيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ
27-04-2017, 01:13 PM
فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبراهيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ
سعد بن عبدالله بانِيمة


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

تميَّزَت مَسِيرةُ الإِصلاحِ التي قام بها الـعَالمُ الكبيرُ، الأَدِيبُ الأَريبُ، الشيخ:" مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي الجزائِري رحمه الله، باهتمَامِه البَالغِ تُجاه شبَابِ وَطنِه الجَزائِر، وأُمَّتهِ الـمُسلمَةِ، فقد انصَبَّت جُهودُه المبذُولَةِ في العِنايَةِ بهذه الشَّريـحَةِ الـشَّبابيَّةِ التي عليها قِوامُ الـبُلدَانِ، وبها تُبنَى المجتَمعَات مِن خِلالِ حيَاتهِ وسِيرَتهِ وتَعلِيمِه وتَوجِيهِه، وقد أثمرَت جُهودَه تلك عن:"جمعية العلماءِ" التي قادَت بحركتِها العِلميةِ والدَّعويةِ الشَّعبَ الجزائري إلى التَّحرُّرِ والاستقلالِ عن الاستعمار الفرنسي.
وقَبلَ الـدُّخولِ في الـكلامِ عن الدَّورِ الرائِدِ الـذي اضطَلعَ به العَالمُ المصلِحُ، والأديب الأريب، الشيخ:" محمد البشير الإِبراهيمي": تجـاه شبَابِ أُمَّتِه وبلَدِه الـجَزائِر، تعليمًا وتوجيهًا، يـَحسنُ بـنا أَن نقِفَ على ما قَصدَه الإبراهيمي بمُصطَلحِ (الشَّباب)، الذي وَردَ وتكرَّرَ كثيرًا في كلامِه وخُطبِه ومقَالاتِه، وهو ما أطلَقَ عليه بـ(الطَّورِ الثَّالثِ) أو الثَّلاثِين مِن الـعُمُر، وهي: سِنُّ (بُلُوغِ الأشُدِّ) التي ورَدَت في القُرآن الكريم: ((ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَينَاهُ حُكمًا وعِلمًا وكَذَلِكَ نَجزِي الـمُحسِنِينَ))، فقد أَورَد الإِمَامُ الطَّبري –رحمه الله، في تـفسيرهِ، عن ابن عبّاسٍ ومُجاهِد -رضي الله عنهما- بأَنَّها: "ثلاثٌ وثلاثُون سَنةٍ"[1].
وهو الطَّورُ الذي ظهَرَ فيه نُضُوجُ الشيخ الإِبراهيمي -كما سيأتي معنا، ولعلَّ هذا ما حَـملَه على أَن يـقُول: " وأقُولُ: الشَّبابُ.. ولستُ أعني بهذا اللَّفظِ معناه المصدَريّ في عُرفِ اللُّغةِ،.. وإنَّما أعني بهذا اللَّفظِ: طائِفةٌ مِن الأناسي انتَهوا في الحياة إلى ذلك الطَّورِ الثَّالثِ بعد الطُّفولَةِ واليفَاعَةِ"[2].

الإِبراهيمي أَيّامَ الشباب:
جاءَ الـمُصلِحُ الإِبراهيمي إِلى الـدُّنيا سنةَ (1306هـ- 1889م) وما أَن فَتحَ عَينيهِ حتى رأى الاستعمار يبطِشُ ببلدهِ، بهيمنتهِ وإذلاَلهِ، وتجهيلهِ وتضليلهِ، فما ترك الـمُستعمِرُ نقيصَةً يبطشُ بها إِلاَّ ووضعها، ولا باطلاً إِلاَّ سَوَقَهُ ونمَقَهُ، فكان أَن وَأَدَ الـحُريّات ونهبَ الثروات، وفَرسَنَ الأَلسنَ واللُّغات، بلَ وأَعلن الحربَ على كُلِّ الـمقدسات، وهُنا: تعالتَ هِمّةِ هذا الشابِ اليافِع، لِينفُض الغُبارَ عن أُمتهِ، ويُصحح الـمسارِ في طريقِ وطنهِ، ويدفعَ ويدافِع الـصائِل على دينهٍ وهويتهِ.
ومرَّت حيَاتُه بخَمسَةِ مَراحِلَ -كما قَسَّمَها الشيخ نفسه رِحمهُ الله:

الـمرحلة الأُولَى:
وهَي التّي ابتدأَ الـحدِيث فيها عن أَوّل أَيامِ ولادتهِ إِلى أَن بلغَ الرابعةَ عشرَة، وسنسردُ هذه الـمرحلةَ دونَ أَن نقفَ عندها أَو نُعلِّق عليها، فاللبيبُ تكفيهِ الإِشارةَ ولطيف العبارةِ !، فقد حَفِظَ الإبراهيمي فيها القُرآن، وحصَّلَ العُلومَ الكِثيرَة حفظاً واستيعابًا، وتلقِينًا وإِدراكًا، وكان ذلك عن طريقِ عمّهِ الّذي قال عنه: "عَمِّي شَقِيقَ والدي الأَصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي -رحمه الله، وكان حامِلَ لواءِ الفُنونِ العربية مِن غير مدافع، مِن نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا،.. فكنت لا أُفارِقُه لحظةً حتى في ساعات النَّومِ، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يُخلِيني مِن تَلقِين، حتى حين أَخرُجَ معه وأُماشِيهِ للفُسحَةِ، فحَفِظت فنُونَ العِلمِ المهمَّةِ في ذلك السِّن، مع استمراري في حِفظِ القُرآن، فما بَلَغت تسعَ سِنينَ مِن عُمُري حتى كنت أحفَظُ القُرآنَ مع فهمِ مُفرَداته وغريبه، وكنت أحفظُ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبدالله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل: ابن شهيد وابن برد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي -رحمه الله- يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقراني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرؤني وحدي، ويقرؤني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرؤني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة"[3].

الـمرحلـةُ الثانِيَة:
وهي الّتي انتقلَ فيها الإِبراهيمي الشَّاب مِن (الـتحصِيل) إِلى (التدريس). يـقول عنها :" ولمـَّا مات عمي، شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه، وأجازني بتدريسها، وعمري أربع عشرة سنة، لطَلَبَتِه الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه، وانهال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا، والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي، وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة، وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري...."[4].
ثُـمَّ يذكرُ أَنّهُ بـقِيَ بعدها مُتخفِياً إِلىَ أَن هاجرَ إِلى المدينة من ظلم فرنسا، وكان ذلك سنةَ 1911م؛ وكان عمرَهُ عشرون سنة، ومَرَّ في طريقهِ بالقاهرةِ، فالتقى فيها بجمعٍ مِن الـعُلماء والفُقهاءِ والأَدباءِ والعُظماءِ، كـالشيخ مُحمّد بخيت الـمُطيعي الذي "حَضرَ دَرسَهُ في البخاري، والشيخ يوسف الدَّجوي.... وحضَرتُ عِدَّةَ درُوسٍ في دارِ الدَّعوةِ والإرشادِ التي أسَّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة، وزُرتُ شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي، وأسمعته عدة قصائد مِن شعره مِن حفظي فتهلّل -رحمه الله، واهتزّ، كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك".[5]
ولك أَن تتخيّلَ وتتأَمّل وأَنتَ تقرأَ هذا الـنَّصَّ، شابٌ لَم يبلغ الـحُـلُـمَ بَعدٌ، في بلَدٍ ضَربَ الاستعمارُ عليها بِأَطنابِهِ، وهو يـجلس لِيعُلِم النّاس مِن حقائِقَ الـعُلومِ ودقِيقها، وصغيرها وكبِيرها، مما كانَ قد حفظُهُ وفهمَهُ في صباهُ، حالَةٌ لاَ تكادُ تراها إلاَّ إذا قرأتَ وقلَّبتَ في تَراجم الكِبار أَمثال: الشافعِي والبُخارِي وابن تيمية وغيرهم.[6]

يتبع إن شاء الله.