رد: فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبراهيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ
30-04-2017, 01:42 PM
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
بارك الله فيك أخانا الفاضل:" أبا هبة"، وجزاك خير الجزاء على كريم التصفح، وتميز الإضافة، وجميل الدعاء.
ما ننشره من مآثر علمائنا هو:" أقل الواجب".
تقبل الله منا ومنكم ومنهم: صالح الأعمال.






الـمرحـلةُ الثالثة:
في هذهِ الـمرحلةِ وَصَلَ الشَّاب الـمُصلِحُ في رِحلَتهِ إِلى مَدِينةِ رسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم؛ وذلكَ أَواخِرَ سنة 1911م، وطفِقَ يتنقلُ بين حلَقِ العِلمِ في الـحَرمِ النَّبوي، وفيه التقى بعالمين:( الـعزِيزُ الوزِير التُّونُسِي، والشيخُ حُسين أَحمد الفيض آبادِي الهندِي): اللذان قال عنهُما:
" والحقُّ يُقالُ.. عالمان محققان واسعا أُفُقِ الإدرَاكِ في عُلومِ الحديثِ وفِقهِ السُّنةِ، ولم أكن راغبًا إلاَّ في الاستزادة مِن عِلمِ الحديث، رواية ودراية، ومِن عِلمِ التفسير؛ فلازمتهما ملازمة الظلِّ، وأَخَذت عن الأوَّلِ الموطأ دِرايةً، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت دَرسَه في فقه مالك، ودَرسَه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثَّاني في درسه لصحيح مسلم. وأشهد أنِّي لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا مِن عُلماءِ الإسلامِ إلى الآن، وقد علا سِنِّي، واستحكمت التَّجرِبَةُ، وتكاملتِ الملَكَةُ في بعض العلوم، ولَقِيتُ مِن المشايخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أَرَ مِثلَ الشيخين في فصَاحةِ التَّعبيرِ ودِقَّةِ الملاحظةِ والغَوصِ عن المعاني واستنَارَةِ الفِكرِ، والتَّوضيحِ للغَوامِضِ، والتقريب للمعاني القَصيَّةِ.
ولقد كُنتُ لكَثرةِ مطَالعَاتي لكُتُبِ التَّراجِمِ والطبقات قد كوَّنت صُورَةً للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، مُنتَزَعَة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذِّهنية لم تتحقق في الوجُودِ الخارجي مُنذُ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين"[7].

الـمرحلة الرّابعةُ:
وهي الّتي تزامنت مع خُرُوجِه مِن مَدينةِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم، قاصِدًا دِمشقَ الشَّام، وهناك التقى بالعالِم الكبير الأستاذ:( مُحمّد بهجة البيطار) وغيرهِ مِن كبارِ العلُماءِ والأُدبَاءِ في الشَّام في ذاك الزمن، وانهالَ يومَها الـكِبارُ والشَّبابُ والصِّغارُ على هذا الشَّابِ: رَغبَةً مِنهم للنَّهل مِن عِلمهِ، والاستفادةِ مِن تحصِيلِه وسمته، فكانت تُعقَدُ له الـدُّرُوسُ في الــمَسجِدِ الأَمويِّ للـوَعظِ والإرشَادِ، ثُـمَّ وقع اختيارهُ للـتدريس لـمادَةِ:(الأَدبِ العَربِي)، لطلبةِ الـصُّفوف النهائِية الـمُرشَّحةِ للبكالوريا في المدرسة (السُّلطانية)، وقد تخرج على يديهِ يومـها كِبار الأدباء والوُجهاء، كـالأُستاذ: جمِيل صليبا، والأُستاذ عدنان الآتاسي، وغيرهم، ثُمَّ طَلَبَ مِنه الأَمِيرُ فيصل بن الـحُسين الرُّجوعَ إِلى مَدِينةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم، لتَولِّي رِئاسَةِ وإِدارةِ (دائِرةِ الـمعَارفِ)، إِلاَّ أَنَّ الإِبراهيمي أَبى لـما طرأَ عليه وعلى الـمدينة يومـها مَن أَحدَاثٍ وتَغيُّراتٍ، وشعَرَ أَن ريـحَ ونسائِم بلادهِ الـجزائِر أَصبَحَت تُناديهِ، لـيبدأَ الشَّابُ الـمُصلحُ مَرحلَةً جديدةً مِن مرَاحِلِ حياتهِ.

الـمرحلة الخامسةُ:
وهيَ تُعتَبَرُ من أَهـمِ مراحلِ الحياة الّتي ستبدأ في حياةِ الـمصلحِ الإِبراهيمي، الـتي سينطلِقُ فيها طورُ (التَّحصِيلِ) و(التدريس) إِلى مرحلة (الـتَّفكير) و(التَّخطِيطِ) و(التَّنفيذ)، فـبعد أَن مَكَثَ الشيخُ سِتَّ سَنواتٍ في مدينةِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم، الّتي نستطِيعُ أَن نقُول إنَّه (نـَضُجَ) مِن خِلالها، قد التقَى فيها برفيق الدَّرب في مسيرةِ الـدّعوة والإِصلاح بلَدِيِّهِ، الذي لـم يلتقي أو يتعارفا عليه إِلَّا خَارجَ وطنه، ألا وهو الـعالم الكَبير:( عبد الحميد بن باديس) رحمه الله. وقد صوّر الإِبراهيمي هذا اللقاء في صورةِ رائِعةِ الخيال، عظيمةَ البيان، فقال:
" كان مِن تدابيرِ الأقدارِ الإلهية للجزائر، ومِن مخبّآتِ الغيوبِ لها: أن يرد عليَّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعَةَ أشهرٍ: أخي ورَفِيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ: عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشَّمالِ الإفريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر"[8].
وقد كَان هذا اللِّقاءُ في أَوائِل العِشرينيات مِن عُـمرِ الشيخ: محمَّد البشير الإِبراهيمي وابن بادِيس.[9]
ويَروي الإِبراهيمي قِصّةَ اجتماعهما ولقائِهما، فيَقُول:
" كُنَّا نؤدّي فَرِيضَةَ العِشاءِ الأَخيرَةِ كُلَّ ليلَةٍ في المسجدِ النبوي، ونخرُجُ إلى مَنزِلي، فنسمُرُ مع الشيخ: ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد، فندخل مع أوِّلِ دَاخِلٍ لصلاة الصُّبحِ، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة...!"[10].
و:" كانت هذه الأسمار المتواصلة كُلُّها تدبِيرًا للوسَائلِ التي تَنهَضُ بها الجزائر، ووضعِ البرامج المفصَّلةِ لتلك النهضَات الشَّامِلةِ التي كانت كُلُّها صُورًا ذِهنيَّةً تتراءَى في مخيِّلتِينا، وصَحِبَها مِن حُسنِ النيّة وتوفيق الله ما حقَّقَها في الخارج بعد بضع عشَرةِ سَنةٍ!.."[11].
وعن هذه الـحِقبة يـتحدث الإِبراهيمي، فيقُول:
"وأُشهِدُ الله على أنَّ تلك الليالي مِن سنة 1913م هي التي وُضِعَت فيها الأُسسُ الأُولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سَنةِ 1931م"[12].

بَدَأَ الـمَسِيرُ إِلى الـجزائِر:
ومعَ الأيام والليالي: استطاعَ الإِبراهيمي إِقناعَ رَفِيقَ دَربهِ، وزَمِيلَ غُربتهِ، وشَريكَهُ في مَشروعِهِ الإِصلاحي بـالعودةِ إِلى الـجزائِر، لِيبدَآَ سَوِيًّا فيما كان يتسامران فيه ويُخططان له:
" ورجعَ الشيخ [ابن بادِيس] إلى الجزائِرِ مِن سَنَته تلك، بعد أن أَقنَعتُه بأنِّي لاحِقٌ به بعد أن أُقنِعَ والديَّ أنَّ رُجُوعي إلى الجزائِرِ يتَرتَّبُ عليه إحياءٌ للدِّينِ والعَربيَّةِ، وقَمعٌ للابتدَاعِ والضَّلالِ، وإنكاءٌ للاستعمَارِ الفَرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أَدخُلُ مِنه[13] على نَفسِ والِدِي ليَسمَحَ لي بالرُّجوعِ إلى الجزائر"[14].
والأصل الأصيل الذي قام عليهِ المشروع الإِصلاحي لدى الإِبراهيمي ورفيقه ابن باديس هو:" الـعَملُ على تعليم الناشِئةِ وإِعدادِهم وتَوجِيههم، وزَرعِ رُوحِ العِلمِ والتَّفاني فيهم؛ لـيَـتمَّ لهم مِن خِلالِ ذلك إِدراكُ واقِعِهم، والإِحَاطَةُ بـمَعرِفَةِ وَاجبِهم". يقول الإِبراهيمي:
" كانت الطَّريقَةُ التي اتفقنا عليها -أنا وابن باديس- في اجتماعنا بالمدينة، في تربية النشءِ، هي: ألَّا نتَوسعَ له في العِلمِ، وإنَّما نُربِّيه على فِكرَةٍ صَحِيحَةٍ ولو مع عِلمٍ قَليلٍ. فتَمَّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه مِن تلامِذتِنا"[15].
وما إن حَطَّت به رحَالُهُ في بلادهِ الأُمِّ -الـجَزائِر- حتى جَلسَ لـتَعلِيمِ النَّاسِ، بإِلقَاءِ الدُّروسِ للكبَارِ والـصِّغارِ، وصَار يتَنقَلُ بين الـقُرى والأريافِ، بعد أَن خيَّم فيها الـجَهلُ، وضُرِبَ عليهم الذُلُّ والـقَهرُ، فبَلغَت الدُّروسُ في اليومِ الواحدِ مبلغها، واستقبلهُ النّاس بالتهلِيل والترحيب، وها هو يحكِي نشَاطَه، ويَسرِدُ رحلَاتهِ، فيقول:
" وتولَّيتُ بنفسي: تَعليمَ الطَّلبةِ الكِبارِ مِن الوافِدين وأهل البَلدِ، فكُنتُ أُلقي عَشرَةَ دُروسٍ في اليوم؛ أبدَأُها بدرسٍ في الحديثِ بعد صلاةِ الصُّبحِ، وأَختِمُها بدرسٍ في التَّفسيرِ بين المغرِبِ والعِشاءِ، وبعد صَلاةِ العَتَمةِ أَنصَرِفُ إلى أحدِ النَّوادي، فأُلقِي محَاضَرةً في التَّاريخِ الإسلامي؛ فأَلقَيتُ في الحِقبةِ الموالِيَةِ لظُهورِ الإسلامِ مِن العَصرِ الجَاهِلي إلى مَبدَأِ الخِلافَةِ العبَّاسيَّةِ: بضعَ مِئاتٍ مِن المحاضرات، وفي فَترةِ العُطلةِ الصَّيفيةِ: أَختِمُ الدُّروسَ كُلَّها، وأَخرُجُ مِن يومي للجولان في الإقليم الوهراني مَدِينَةً مَدِينَةً، وقَريةً قَريةً، فأُلقِي في كُلِّ مَدِينةٍ دَرسًا أو دَرسين في الوَعظِ والإرشَادِ، وأَتفقَّدُ شُعَبَها ومَدَارسَها، وكانت أيَّامُ جَولتي كُلِّها أيَّامَ أعراسٍ عند الشَّعبِ، يتلقَّونني على عِدةِ أميَالٍ مِن المدينَةِ أو القَريةِ، ويَنتَقِلُ بعضُهم معي إلى عِدَّةِ مُدُنٍ وقُرى، فكان ذلك في نَظرِ الاستعمَارِ: تحدِّيًّا له ولسُلطَته، وفي نَظرِ الشَّعبِ: تمجِيدًا للعِلمِ والدِّينِ وإغاظَةً للاستعمار، فإذا انقَضَت العُطلَةُ: اجتمعنا في الجزائر العاصِمةِ، وعَقَدنا الاجتماعَ العَامَ، وفي أَثَره الاجتماعَ الإداري، وقدَّم كُلٌّ مِنَّا حِسابَه، ونَظَّمنا شُؤون السَّنةِ الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا"[16].

هوامش:
[1] جامع البيان: ج15/22.
[2] الآثار: ج4/267.
[3] الآثار: ج5/274.
[4] السابق نفسه: ج5/274.
[5] الآثار: ج5/274- 275.
[6] انظر:" كتاب العُلماءُ الذين لم يتجاوزوا سِنَّ الأشُدِّ"، تحقيق علي بن محمد العُمران.
[7] الآثار: ج5/275.
[8] الآثار: ج5/278.
[9] الـمُصلِحُ ابنُ بادِيس يـكبُرُ الإِبراهيمي في الـعمر (سنةً وبضعة أَشهر)، كما ذكر ذلك الأخِير في الآثار (ج5/278).
[10] الآثار: ج5/278.
[11] السابق نسفه: ج5/278.
[12] السابق نفسه.
[13] الآثار: ج5/279.
[14] الآثار: ج5/279.
[15] الآثار: ج5/280.
[16] الآثار: ج5/278.