رد: مقالات الطيب صالح في مجلة المجلةح في "المجلة"
27-02-2009, 11:42 AM
أبو العلاء وعقيل

الطيب صالح
01/09/2006




لبس الرجل تلك الدّرع المُحْكمَة النسج الليّنة الملمس، فوجد في نفسه القوة والشجاعة والإقدام، وأخذ يضرب في الأرض يطلب الكسب لزوجه وعياله، قال أبو العلاء:
أُسِيل مَآقَ العِِِيسِ في أكحلٍ
تنضح ذِفْراها بمثل الكُحيْل
عن نفَلٍ أسأل أو حَنْوة
سؤالَ مُزجى فيله عن نُفيْل
والمرءُ يحتالُ ويفتالُ ما
عاش ويأتال بقصْد وميْل
قال الشارح إن الإبل إذا تعبت من شدّة السير، تسيل مآقى عيونها بدمع إذا جفّ صار أسود مثل الكُحيل أي القطران، بعكس الخيل التي إذا جف دمعها صار أبيض، وقوله (في أكحل) أي بحثاً عن نبات أخضر.
وفسر الخوارزمي أن النّفَل ضرب من الشجر والحنوة بفتح الحاء المهملة نبت طيب الرائحة.
ونفيل تصغير نفل وهو أيضا نفيل بن حبيب سيد خثعم وكان دليل أبرهة الحبشي حين سار بالفيلة نحو الكعبة ليهدمها.
والمرء يحتال، من الحيلة، ويفتال من الفيل، ويأتال، من آل يئول، إذا ساس، كل ذلك طلباً للرزق والفلاح والسؤدد لعياله.وقد أوضح الشاعر أكثر في قوله:
والودُّ غرّارٌ ونجوى عليّ
ولديه غير نجوى كُميل.
عليّ هو ابن أبى طالب رضي الله عنه.وكان كميل بن زياد النّخعي من أصحابه المقرّبين، قتله الحجّاج بن يوسف.ويقول الخوارزمي في شرح البيت أن الإنسان مشغوف بأبنائه لا ينزل أحداً منزلتهم ولذلك تراه أبداً يسعى لهم بجد واجتهاد.ويضيف الشارح:
(كأنه قال هذه اللّاميّة على لسان رجل قام على نفقة عياله).
ربما ذلك، أو ربما اشتاق أبو العلاء للزوج والأبناء!
من حبّ عبد الدّار ما أبعدت
حبّي أخاها عن وصايا حُليْل
هذا البيت يختصر قصة عجيبة في حبّ الآباء للأبناء، والقصّة تتعلّق بسدانة الكعبة في الجاهلية.كانت لخزاعة وكان سيد خزاعة حليْل بن حبيْشة.وكانت ابنته حبّى متزوّجة من قصيّ بن كلاب من سادة قريش ولها منه أبناء منهم عبد الدار ابن قصيّ.
لمّا حضرت حُليْل بن حبيشة الوفاة أوصى بحجابة الكعبة إلى ابنه المحترش وكان غائباً، وأعطى المفتاح إلى ابنته حبى وأوصاها أن تسلمه إلى أخيها المحترش وأشهد على ذلك رجلاً يدعى أبا غبشان الملكاني وابنها، حفيده عبد الدار بن قصي.
فلما رأى قصي أن حليلاً قد مات، وكان أبناء حليل غيباً عن مكة لوباء أصابهم، طمع قصي أن يجعل سدانة الكعبة عند ابنه عبد الدار، وأخذ يلح على زوجته حبى وكانت هي أيضا تميل إلى أن تعطي السدانة لابنها عبد الدار.
فقالت لزوجها قصي:
كيف أصنع بأبي غبشان وهو وصي معي وشاهد علي؟
فقال لها زوجها قصيّ:- (سوف أكفيك أبا غبشان.سوف أحتال عليه وأرضيه حتى يكتم ذلك ويخبر الناس أن حليلاً أوصى بسدانة الكعبة إلى ابن ابنته عبد الدار).
وكذلك فعل قصي مع أبي غبشان وأعطاه ثياباً وأبعده فقبل.وقال الناس (أخسر من صفقة أبي غبشان) فسارت مثلاً.
وقال شاعر في ذلك:
أبو غُبشانَ أظلمُ من قصيّ
وأظلمُ من بني فِهْرٍٍ خُزاعة
فلا تلْحوْا قصيّاًً في شِراه
ولوموا شيخكم إذْ كان باعه.
قال أبو العلاء رحمه الله:
والدهرُ إعدامٌ ويسرٌ وأبْ
رامٌ ونهارٌ وليْل
يُفني ولا يَفنَى ويُبلي ولا
يبلى ويأتي برخاء وويل
يُدعى الفتى ضبّا وفيه ندى
وواهباً وهو عديم لنََيْل
بعد أن تكون ظننت أن أبا العلاء قد فرغ من القصيدة وختمها ببيتين عن الدهر وتقلب أحواله، إذا هو يفاجئك أنه يعود إلى لعبه وجده الذي يشبه المزاح.ويأبى إلا أن يذكرك بالضب الذي بدأ به القصة، هو وحسيله وأم الحسيل!
يخبرك أن الفتى قد يسمى (ضبا) وكانوا يسمون أبناءهم بأسماء الحيوانات.والضب يكره الماء وينفر منه.إنما هذا الضبّ الآدمي، ففيه ندى، أي أنه كريم، والندى أصلاً من الماء.والآخر أسمه واهب وهو في الحقيقة بخيل.ثم يقول:
إن كليباً كان ليث الشرى
والهجرس الخادر من غير فيل
كليب هو سيّد وائل الذي حرم مواقع القطر وأجار القبرة التي بسببها اشتعلت حرب البسوس نحو أربعين عاما.وكان يضرب به المثل في العزّة والمنعة فكان يقال (أمنع من كليب وائل).ورغم ذلك كان اسمه كليب وهو تصغير كلب.
والهجرس تعني الثعلب، وهو اسم ابن كليب، الذي نشأ في كنف خاله جساس بن مرة، ولما كبر وعلم أن خاله هو قاتل أبيه، قتله أخذاً لثأره.
كم ظبية في أسد تعتزى
وجاهل منتسب في عقيل
هي ظبية لكنها بنت أسد، وهو جاهل لكنه من عقيل.وأسد وعقيل قبيلتان.
ويبدو أن أبا العلاء كان معجباً بعقيل، فقد قال يصف فتاة:
تجل عن الرهْط الإمائيّ غادة
لها من عقيل في ممالكها رهْطُ
والرهط الإمائيّ إزار من سيور الجلد كانت تلبسه الإماء والفتيات دون البلوغ .