خطأ الوهابية في تقرير توحيد الربوبية (غيث الغالبي)
23-10-2009, 02:57 AM
نقلا عن منتدى الأصلين للأخ علي عمر فيصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أما بعد:
أذكر هنا مسألة مهمة في العقيدة الإسلامية ،وهي مسألة أن كفار قريش كانوا موحدين توحيد الربوبية وإنما شركهم فقط في توحيد الألوهية .!
وسأبدأ بعون الله تعالى في مناقشة هذه المسألة وسأذكر مسائل أخرى لها علاقة بصلب المسألة .
المسألة الأولى :من الخطأ الواضح المبين أن يخلط طالب العلم بين مسألة الإيمان بوجود الله تعالى ومسألة توحيد الربوبية فسأبين أولاً مسألة الإيمان بوجودالله تعالى .حيث لم ينكر وجود الله ـ جل جلاله ـ إلا القليل من الناس كالدهرية الذين قال الله تعالى عنهم في كتابه الكريم ((وقالوا ما هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )) وكالملحدين الماديين الذين يقولون :لا إله والحياة مادة.وكذلك فرعون الذي قال الله تعالى في شأنه((فكذب وعصى *ثم أدبر يسعى فحشر فنادى *فقال أنا ربكم الأعلى )) وقال ((ماعلمت لكم من إله غيري)) فجحد وجود الله جل جلاله وأدعى أنه هو الرب رغم أنه يعلم في قرارة نفسه أنه كاذب كما قال تعالى ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ..) ولا شك أن القرآن الكريم ذكر هذا النوع من أنواع الكفر وتناول تفنيده بالحجج المستفيضة والأساليب المفيدة التي تبناها الدعاة من المسلمين وعلى رأسهم الرسل عليهم السلام ثم من سار على نهجهم من دعاة المسلمين .واستفاد منها علماء الإسلام في دعوة الملحدين الماركسيين ونحوهم في زماننا .وإن كان هذا النوع من الكفر هو أقل في الوقوع من غيره إلا أن هذا لا يعني عدم دخوله في دعوة الرسل عليهم السلام أو عدم تناول القرآن الكريم له . فالإيمان بوجود الله مسألة لوحدها ،ومن ينكر وجود الله لابد أن ينكر أفعاله ،إذا كيف يفعل وهو سبحانه عدم في اعتقادهم .!
المسألة الثانية : توحيد الربوبية :التوحيد هو الإفراد ،والرب في لغة العرب له ثلاثة معاني ذكرها الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره لسورة الفاتحة 1/86وهي :السيد المطاع ،والمصلح للشيء ،والمالك للشيء . ثم قال الإمام ابن جرير فربنا جل ثناؤه السيد الذي لاشبه له ولا مثل له في سؤدده،والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ،والمالك الذي له الخلق والأمر. فإذن هذا معنى الرب .حين نقول رب العالمين فهو له السيادة المطلقة ،وهو المالك لهم وهو مربيهم أي مصلحهم في كل شيء.
وتوحيد الربوبية اصطلاحاً عند من يقول به :هو إفراد الله تعالى بأفعاله . ومن الأمثلة على أفعاله الخلق والرزق والتدبير والتصرف في المخلوقات ونحو ذلك من أفعاله. فأغلب أهل الشرك يؤمنون بوجود الله تعالى وهذا بخلاف من ينكر وجود المولى عز وجل ،وهذا مر بيانه في المسألة الأولى .
واما توحيده بأفعاله تعالى فقد تبنوا فيها اعتقادين ضالين :
الضلال الأول:هو الإقرار ببعض أفعال الله تعالى ولكن جعلوا له فيها شركاء.
الضلال الثاني :هو إنكار بعض أفعال الله كما سيتضح الآن إن شاء الله تعالى.
والخطأ الحاصل في هذه المسألة هو في اعتقاد أن المشركين قد وحدوا الله في الربوبية أي في أفعاله جل جلاله. يقول الدكتور شمس الدين السلفي في رسالة الدكتوره الصادرة من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة جهود علماء الحنفية مردداً هذه الخطأ ما نصه :مع أن توحيد الربوبية لم ينازع فيه أمثال أبي جهل من صناديد الكفرة والمشركين .انتهى 1/96
ويقول أيضاً في نفس الرسالة:فإن توحيد الربوبية لا خلاف فيه للمشركين.انتهى 1/116 ويقول أيضاً : فعلم أن الرسل لم ترسل لتحقيق توحيد الربوبية ؛وإنما أرسلت لتحقيق الألوهية والدعوة إليه. انتهى كلامه 1/129وكل هذا الكلام ترديد لهذا الغلط الدارج في كثير من المساجد والجامعات والمعاهد والمدارس وهو شائع ذائع ،وسيتبين إن شاء الله الحق بوضوح تام.
فأقول:لا شك أن أهل الشرك أقروا لله تعالى ببعض أفعاله جل جلاله كما ما ورد في بعض الآيات ولكنهم لم يفردوه بذلك ،ومن الآيات الدالة على إقرارهم ببعض أفعال الله قول الله تعالى{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل أفلا تذكرون *قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم *سيقولون لله قل أفلا تتقون ...}وهي من سورة المؤمنون من آية 84 إلى 87ونحوها من الآيات الدالة على اعتراف الكفار ببعض أفعال الله تعالى .وهذا أمر لاشك فيه.
وأما دعوى أنهم أفردوا الله تعالى بالأفعال وأنهم أقروا بتوحيد الربوبية ولم يقع الكفر فيه ولذلك لم تتركز دعوة الرسل عليه .!فهذا الكلام باطل بلا ريب لسببين:
السبب الأول:أن النصوص الشرعية دلت دلالة واضحة أنهم كانوا يشركون في ذلك ويعتقدون في آلهتهم أنهم شركاء لله تعالى في بعض الأفعال .
السبب الثاني:أن النصوص الشرعية الكثيرة قد دلت دلالة قاطعة على أنهم كفروا ببعض أفعال الله تعالى ولذا فلا يصح مايدعيه بعض المسلمين من أن الكفار لم يشركوا في توحيد الربوبية .وسأبدأ في بيان ذلك بحول الله وقوته .
أما وقوعهم في شرك الربوبية فيدل عليه الأدلة التالية:
الدليل الأول: بإكمال الآيات السابقة حيث قال الله تعالى {قل من بيده ملكوت كل
شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل فأنى تسحرون *بل أتينهم بالحق وإنهم لكاذبون *ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كلُ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون *عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}وهذه الآيات من سورة المؤمنون من آية 88ـ إلى 92فإن الآيات الكريمة بيّنت أنهم مقرون لله تعالى بهذه الأفعال المذكورة ولكن وضّحت شركهم في ذلك حيث ذكر الله تعالى أنهم كاذبون في دعواهم أن لله ولد سبحانه ،وكذلك دعواهم أن معه إله فقال تعالى ((وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ))فلولا أنهم يعتقدون أن الإله متصرف كشريك لله تعالى لما ذكر لهم هذه الحجج فلوكان معه إله ـ كما يزعم الكفار ـ لانفرد كل إله بخلقه الذين خلقهم ،ولحصل النزاع وطلب العلو فيما بينهم ولما انتظم الوجود. فلولا أنهم يعتقدون وجود شركاء لله سبحانه في ذلك لما كان هناك أي وجه لذكر الاستدلال ،ولكان جوابهم أننا لم ندّعي لهم أي فعل يشاركون الله فيه؛بل قلنا أن الله لاشريك له في ذلك .فيكون إيراد ذلك عليهم من العبث الذي ينزه الله جل جلاله عنه.فالتلازم بين عبادتهم للأصنام وبين اعتقاد أنها شريكة لله تعالى في شيء من الإيجاد والتدبير غير منفك .ولذا فكما علمنا من القرآن الكريم أن الكفار مقرون بنسبة بعض الأفعال لله تعالى ،كذلك نعلم من دلائل آيات القرآن الكريم أن الله تعالى أورد الآيات الدالة على أنهم لا يفردونه وحده بل يدّعون أن معه شركاء في ذلك.وسيأتي المزيد من الأدلة إن شاء الله تعالى.فلو لم يسلّم الإنسان لهذا الدليل وتمسك بكون المشركين أقروا بأنه لا شريك لله في إيجاد الخلق لوجود نقول عن بعض الأئمة تنص على ذلك فلا بأس أن نتجاوز هذه الجزئية إلى التأمل في الأدلة الأخرى التي تدل على أن الكفار لم يقروا بتوحيد الله بأفعاله ،لأن القصد هو طلب الحق لا مجرد الخصام،وسيأتي من الأدلة ما تقر به عين طالب الحق بإذن الله تعالى.
الدليل الثاني: من الآيات الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قوله تعالى {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }وهذه الآية تبين أنهم يعتقدون أن الهتهم ترزق ،إذ لا يصلح أن يقال لمن يعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له ،وأن الآلهة ليست إلا للعبادة فقط دون وجود شرك في توحيد الربوبية ! { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق} لأن رد ذلك سيكون واضحاً إذ سيقولون :نحن نعلم أن الله هو المالك للرزق وحده وأن الآلهة لا تملكه فأصبحت الدعوة إلى ذلك من العبث .والله منزه عن ذلك .فدل بالجمع بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي يقرون بأن الله يرزق أنهم يعتقدون أن آلهتهم شركاء في ذلك ،لأنها تملك ذلك كما أن الله يملك ذلك في اعتقادهم الكفري.فهم لايجحدون كون الله يملك الرزق ،ولكنهم لا يفردونه بذلك بل يعتقدون أن له شركاء في ذلك.وهذا واضح جلي بأدنى تدبر .
فأين توحيد الربوبية الذين يقال أنهم وحدوا الله به؟!
الدليل الثالث: ومن الآيات أيضاً الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قول الله تعالى {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا}سورة مريم 81فالآية قطعية الدلالة في أنهم عبدوا آلهتهم لأنهم يعتقدون أنها تحقق لهم العز والنصر ،وهذا فعل من أفعال الربوبية ،ولذا عبدوهم رجاء هذا العز .فكيف يقال أن الكفار لم يشركوا في الربوبية ؟!
الدليل الرابع: ومنها قول الله تعالى {أليس الله بكاف عبده ويخوِّفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد ،ومن يهد الله فماله من مُضلٍّ أليس الله بعزيز ذي انتقام }ووجه الاستدلال بالآية أنها تصّرح بأن المشركين يخّوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم لاعتقادهم أن لها القدرة على الضر والنفع ،قال الإمام البغوي في تفسيره للآية :وذلك أنهم خّوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة معاداة الأوثان ،وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون . انتهى كلام البغوي انظرتفسير البغوي 4/69
فكلامهم صريح بقدرة آلهتهم على الإضرار وذلك فعل من أفعال الربوبية الذي أشركوا فيه .
الدليل الخامس: ومن الأدلة قول الله تعالى {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون (55) }قال ابن جرير الطبري في تفسيره : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول قوم هود : أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمها والنهي عن عبادتها ، أنه أصابك منها خبل من جنون . انتهى كلامه رحمه الله . إذن فهم يعتقدون أن لها القدرة على أن تصيبه بالمرض والجنون وهذا شرك بالله
في الربوبية لأنه لا يضر ،ولا ينفع حقيقة إلا الله جل جلاله. وهذا فيه تذكير بأنهم أشركوا في الربوبية ،ولم يوحّدوا كما يظن بعض المسلمين.
الدليل السادس: وكانوا يجعلون النجوم شركاء لله ومنها الشعرى قال تعالى {وأنه هو رب الشعرى } قال ابن جرير :يقول تعالى ذكره: وأن ربك يا محمد هو رب الشعري، يعني بالشعرى: النجم الذي يسمى هذا الاسم، وهو نجم كان بعض أهل الجاهلية يعبده من دون الله.وقال الألوسي في تفسيره لهذه الآية : ومن العرب من كان يعّظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضاً ،وسائر النجوم تقطعها طولاً ،ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : { وأنه هو رب } إشارة إلى نفي تأثيرها .انتهى كلام الألوسي .وقال القطان في تفسيره: {وأنه هو رب الشعرى } وقد نص بشكل خاص بأنه رب الشعرى اليمانية ( ألمع نجم في كوكبة الكلب الأكبر ، وألمع ما يرى من نجوم السماء ) - لأن بعض العرب كانوا يعبدونها . وكان قدماء المصريين يعبدونها أيضا ، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس - يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى ، وهو أهم حادث في العام ، وابتداء عام جديد .انتهى وهذا واضح فيما ذكرت من اعتقادهم مشاركتها لله في أفعاله فيعبدونها لأجل ذلك .
يتبع إن شاء الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أما بعد:
أذكر هنا مسألة مهمة في العقيدة الإسلامية ،وهي مسألة أن كفار قريش كانوا موحدين توحيد الربوبية وإنما شركهم فقط في توحيد الألوهية .!
وسأبدأ بعون الله تعالى في مناقشة هذه المسألة وسأذكر مسائل أخرى لها علاقة بصلب المسألة .
المسألة الأولى :من الخطأ الواضح المبين أن يخلط طالب العلم بين مسألة الإيمان بوجود الله تعالى ومسألة توحيد الربوبية فسأبين أولاً مسألة الإيمان بوجودالله تعالى .حيث لم ينكر وجود الله ـ جل جلاله ـ إلا القليل من الناس كالدهرية الذين قال الله تعالى عنهم في كتابه الكريم ((وقالوا ما هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )) وكالملحدين الماديين الذين يقولون :لا إله والحياة مادة.وكذلك فرعون الذي قال الله تعالى في شأنه((فكذب وعصى *ثم أدبر يسعى فحشر فنادى *فقال أنا ربكم الأعلى )) وقال ((ماعلمت لكم من إله غيري)) فجحد وجود الله جل جلاله وأدعى أنه هو الرب رغم أنه يعلم في قرارة نفسه أنه كاذب كما قال تعالى ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ..) ولا شك أن القرآن الكريم ذكر هذا النوع من أنواع الكفر وتناول تفنيده بالحجج المستفيضة والأساليب المفيدة التي تبناها الدعاة من المسلمين وعلى رأسهم الرسل عليهم السلام ثم من سار على نهجهم من دعاة المسلمين .واستفاد منها علماء الإسلام في دعوة الملحدين الماركسيين ونحوهم في زماننا .وإن كان هذا النوع من الكفر هو أقل في الوقوع من غيره إلا أن هذا لا يعني عدم دخوله في دعوة الرسل عليهم السلام أو عدم تناول القرآن الكريم له . فالإيمان بوجود الله مسألة لوحدها ،ومن ينكر وجود الله لابد أن ينكر أفعاله ،إذا كيف يفعل وهو سبحانه عدم في اعتقادهم .!
المسألة الثانية : توحيد الربوبية :التوحيد هو الإفراد ،والرب في لغة العرب له ثلاثة معاني ذكرها الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره لسورة الفاتحة 1/86وهي :السيد المطاع ،والمصلح للشيء ،والمالك للشيء . ثم قال الإمام ابن جرير فربنا جل ثناؤه السيد الذي لاشبه له ولا مثل له في سؤدده،والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ،والمالك الذي له الخلق والأمر. فإذن هذا معنى الرب .حين نقول رب العالمين فهو له السيادة المطلقة ،وهو المالك لهم وهو مربيهم أي مصلحهم في كل شيء.
وتوحيد الربوبية اصطلاحاً عند من يقول به :هو إفراد الله تعالى بأفعاله . ومن الأمثلة على أفعاله الخلق والرزق والتدبير والتصرف في المخلوقات ونحو ذلك من أفعاله. فأغلب أهل الشرك يؤمنون بوجود الله تعالى وهذا بخلاف من ينكر وجود المولى عز وجل ،وهذا مر بيانه في المسألة الأولى .
واما توحيده بأفعاله تعالى فقد تبنوا فيها اعتقادين ضالين :
الضلال الأول:هو الإقرار ببعض أفعال الله تعالى ولكن جعلوا له فيها شركاء.
الضلال الثاني :هو إنكار بعض أفعال الله كما سيتضح الآن إن شاء الله تعالى.
والخطأ الحاصل في هذه المسألة هو في اعتقاد أن المشركين قد وحدوا الله في الربوبية أي في أفعاله جل جلاله. يقول الدكتور شمس الدين السلفي في رسالة الدكتوره الصادرة من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة جهود علماء الحنفية مردداً هذه الخطأ ما نصه :مع أن توحيد الربوبية لم ينازع فيه أمثال أبي جهل من صناديد الكفرة والمشركين .انتهى 1/96
ويقول أيضاً في نفس الرسالة:فإن توحيد الربوبية لا خلاف فيه للمشركين.انتهى 1/116 ويقول أيضاً : فعلم أن الرسل لم ترسل لتحقيق توحيد الربوبية ؛وإنما أرسلت لتحقيق الألوهية والدعوة إليه. انتهى كلامه 1/129وكل هذا الكلام ترديد لهذا الغلط الدارج في كثير من المساجد والجامعات والمعاهد والمدارس وهو شائع ذائع ،وسيتبين إن شاء الله الحق بوضوح تام.
فأقول:لا شك أن أهل الشرك أقروا لله تعالى ببعض أفعاله جل جلاله كما ما ورد في بعض الآيات ولكنهم لم يفردوه بذلك ،ومن الآيات الدالة على إقرارهم ببعض أفعال الله قول الله تعالى{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل أفلا تذكرون *قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم *سيقولون لله قل أفلا تتقون ...}وهي من سورة المؤمنون من آية 84 إلى 87ونحوها من الآيات الدالة على اعتراف الكفار ببعض أفعال الله تعالى .وهذا أمر لاشك فيه.
وأما دعوى أنهم أفردوا الله تعالى بالأفعال وأنهم أقروا بتوحيد الربوبية ولم يقع الكفر فيه ولذلك لم تتركز دعوة الرسل عليه .!فهذا الكلام باطل بلا ريب لسببين:
السبب الأول:أن النصوص الشرعية دلت دلالة واضحة أنهم كانوا يشركون في ذلك ويعتقدون في آلهتهم أنهم شركاء لله تعالى في بعض الأفعال .
السبب الثاني:أن النصوص الشرعية الكثيرة قد دلت دلالة قاطعة على أنهم كفروا ببعض أفعال الله تعالى ولذا فلا يصح مايدعيه بعض المسلمين من أن الكفار لم يشركوا في توحيد الربوبية .وسأبدأ في بيان ذلك بحول الله وقوته .
أما وقوعهم في شرك الربوبية فيدل عليه الأدلة التالية:
الدليل الأول: بإكمال الآيات السابقة حيث قال الله تعالى {قل من بيده ملكوت كل
شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل فأنى تسحرون *بل أتينهم بالحق وإنهم لكاذبون *ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كلُ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون *عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}وهذه الآيات من سورة المؤمنون من آية 88ـ إلى 92فإن الآيات الكريمة بيّنت أنهم مقرون لله تعالى بهذه الأفعال المذكورة ولكن وضّحت شركهم في ذلك حيث ذكر الله تعالى أنهم كاذبون في دعواهم أن لله ولد سبحانه ،وكذلك دعواهم أن معه إله فقال تعالى ((وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ))فلولا أنهم يعتقدون أن الإله متصرف كشريك لله تعالى لما ذكر لهم هذه الحجج فلوكان معه إله ـ كما يزعم الكفار ـ لانفرد كل إله بخلقه الذين خلقهم ،ولحصل النزاع وطلب العلو فيما بينهم ولما انتظم الوجود. فلولا أنهم يعتقدون وجود شركاء لله سبحانه في ذلك لما كان هناك أي وجه لذكر الاستدلال ،ولكان جوابهم أننا لم ندّعي لهم أي فعل يشاركون الله فيه؛بل قلنا أن الله لاشريك له في ذلك .فيكون إيراد ذلك عليهم من العبث الذي ينزه الله جل جلاله عنه.فالتلازم بين عبادتهم للأصنام وبين اعتقاد أنها شريكة لله تعالى في شيء من الإيجاد والتدبير غير منفك .ولذا فكما علمنا من القرآن الكريم أن الكفار مقرون بنسبة بعض الأفعال لله تعالى ،كذلك نعلم من دلائل آيات القرآن الكريم أن الله تعالى أورد الآيات الدالة على أنهم لا يفردونه وحده بل يدّعون أن معه شركاء في ذلك.وسيأتي المزيد من الأدلة إن شاء الله تعالى.فلو لم يسلّم الإنسان لهذا الدليل وتمسك بكون المشركين أقروا بأنه لا شريك لله في إيجاد الخلق لوجود نقول عن بعض الأئمة تنص على ذلك فلا بأس أن نتجاوز هذه الجزئية إلى التأمل في الأدلة الأخرى التي تدل على أن الكفار لم يقروا بتوحيد الله بأفعاله ،لأن القصد هو طلب الحق لا مجرد الخصام،وسيأتي من الأدلة ما تقر به عين طالب الحق بإذن الله تعالى.
الدليل الثاني: من الآيات الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قوله تعالى {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }وهذه الآية تبين أنهم يعتقدون أن الهتهم ترزق ،إذ لا يصلح أن يقال لمن يعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له ،وأن الآلهة ليست إلا للعبادة فقط دون وجود شرك في توحيد الربوبية ! { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق} لأن رد ذلك سيكون واضحاً إذ سيقولون :نحن نعلم أن الله هو المالك للرزق وحده وأن الآلهة لا تملكه فأصبحت الدعوة إلى ذلك من العبث .والله منزه عن ذلك .فدل بالجمع بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي يقرون بأن الله يرزق أنهم يعتقدون أن آلهتهم شركاء في ذلك ،لأنها تملك ذلك كما أن الله يملك ذلك في اعتقادهم الكفري.فهم لايجحدون كون الله يملك الرزق ،ولكنهم لا يفردونه بذلك بل يعتقدون أن له شركاء في ذلك.وهذا واضح جلي بأدنى تدبر .
فأين توحيد الربوبية الذين يقال أنهم وحدوا الله به؟!
الدليل الثالث: ومن الآيات أيضاً الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قول الله تعالى {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا}سورة مريم 81فالآية قطعية الدلالة في أنهم عبدوا آلهتهم لأنهم يعتقدون أنها تحقق لهم العز والنصر ،وهذا فعل من أفعال الربوبية ،ولذا عبدوهم رجاء هذا العز .فكيف يقال أن الكفار لم يشركوا في الربوبية ؟!
الدليل الرابع: ومنها قول الله تعالى {أليس الله بكاف عبده ويخوِّفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد ،ومن يهد الله فماله من مُضلٍّ أليس الله بعزيز ذي انتقام }ووجه الاستدلال بالآية أنها تصّرح بأن المشركين يخّوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم لاعتقادهم أن لها القدرة على الضر والنفع ،قال الإمام البغوي في تفسيره للآية :وذلك أنهم خّوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة معاداة الأوثان ،وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون . انتهى كلام البغوي انظرتفسير البغوي 4/69
فكلامهم صريح بقدرة آلهتهم على الإضرار وذلك فعل من أفعال الربوبية الذي أشركوا فيه .
الدليل الخامس: ومن الأدلة قول الله تعالى {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون (55) }قال ابن جرير الطبري في تفسيره : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول قوم هود : أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمها والنهي عن عبادتها ، أنه أصابك منها خبل من جنون . انتهى كلامه رحمه الله . إذن فهم يعتقدون أن لها القدرة على أن تصيبه بالمرض والجنون وهذا شرك بالله
في الربوبية لأنه لا يضر ،ولا ينفع حقيقة إلا الله جل جلاله. وهذا فيه تذكير بأنهم أشركوا في الربوبية ،ولم يوحّدوا كما يظن بعض المسلمين.
الدليل السادس: وكانوا يجعلون النجوم شركاء لله ومنها الشعرى قال تعالى {وأنه هو رب الشعرى } قال ابن جرير :يقول تعالى ذكره: وأن ربك يا محمد هو رب الشعري، يعني بالشعرى: النجم الذي يسمى هذا الاسم، وهو نجم كان بعض أهل الجاهلية يعبده من دون الله.وقال الألوسي في تفسيره لهذه الآية : ومن العرب من كان يعّظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضاً ،وسائر النجوم تقطعها طولاً ،ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : { وأنه هو رب } إشارة إلى نفي تأثيرها .انتهى كلام الألوسي .وقال القطان في تفسيره: {وأنه هو رب الشعرى } وقد نص بشكل خاص بأنه رب الشعرى اليمانية ( ألمع نجم في كوكبة الكلب الأكبر ، وألمع ما يرى من نجوم السماء ) - لأن بعض العرب كانوا يعبدونها . وكان قدماء المصريين يعبدونها أيضا ، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس - يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى ، وهو أهم حادث في العام ، وابتداء عام جديد .انتهى وهذا واضح فيما ذكرت من اعتقادهم مشاركتها لله في أفعاله فيعبدونها لأجل ذلك .
يتبع إن شاء الله تعالى
"ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية"لبديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله.









