تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > منتدى العلوم والمعارف > جديد الكتب والدراسات

> في ذكرى مولد مالك بن نبي: سيرة مكافح على جبهة الصّراع الفكري/بقلم : فارس بوحجيلة

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
في ذكرى مولد مالك بن نبي: سيرة مكافح على جبهة الصّراع الفكري/بقلم : فارس بوحجيلة
30-12-2009, 03:05 PM
في ذكرى مولد مالك بن نبي:
سيرة مكافح على جبهة الصّراع الفكري (الجزء الأول)

بقلم: فارس بوحجيلة

"فإن هناك حقائق لا يملك النطق بها إلا من واراه التراب، وتحصنت أقواله بالموت، كما هناك أقوال لا تقال في كل الظروف، وفي مثل هذا الموقف يتعرض الضمير لنقاش حرج"
مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص134

يجب أن أعترف بأنه ليس من اليسير تناول مفكر مثل مالك بن نبي، سواء من جوانب إنتاجه الفكري الغزير والمتنوع والذي يمتاز بالتركيز والإيجاز أو من جانب حياته وسيرته، ولأن الرجل ظلم حيّا بالأمس ونظلم أنفسنا نحن الأحياء اليوم، فقد مرّت ذكرى رحيله دون حديث يذكر، وهاهي ذكر مولده (الأوّل من يناير) تحلّ ولعلنا نختلق لأنفسنا الأعذار ونعزو سبب تجاهل ذكرى رحيله إلى تزامنها مع ذكرى ثورة أول نوفمبر المجيدة. وسنعزو سبب تجاهل ذكر مولده دون شك إلى تزامنها مع "احتفالات" رأس السنة الميلادية. لكن الحقيقة أننا اليوم لسنا في مستوى مفكر مثل مالك بن نبي رحمه الله كما لسنا في مستوى تطلعات جيله، فإلى أين نحن سائرون؟

الخيانة:
"في يوم الأربعاء 7 مارس . حوالي السعة 17 و45 دقيقة، سلكت شارع فرنكلين بسيارتي إلى أن بلغت الرقم 50، رجال ونساء يضربون زوجا عجوزا. تدخلت مباشرة مع مرافقي لكن دون جدوى. من جهة، رجال واصلوا الضرب بشدة على الرجل الممدد كلية على الرصيف، يرتدي منامة وقميص نوم. بالقرب منه برنوس مجرجر ونظارات. في الجهة الأخرى على بعد 3 أو 4 أمتار امرأة عجوز، مرتدية جلبابا تترنح ..... بعد ذلك بلحظات، سيارة شرطة تصل إلى المكان ينزل منها أعوان الأمن العمومي بسرعة. اثنان أو ثلاثة من المعتدين يدفعون الأعوان ويعودون إلى ضحيتهم. في النهاية تمكن أعوان حفظ النظام من السيطرة عليهم واقتيادهم إلى سيارتهم....
في حدود الساعة 18 و45 دقيقة، رافقناهما (الضحيتين) في سيارتي إلى مقر محافظة القطاع الثامن ليودع الضحيتان بلاغهما وأنا شهادتي.
التحقت بنا فتاة من المعتدين، بصوتها المرتفع وحركاتها الصارخة ولحوالي خمس دقائق كانت تطلق عبارات غير معقولة. كانت في حالة ثوران وهيجان شديدين، حتى المارة من خارج المحافظة توقفوا لمتابعة هذا العرض غير اللائق، شجعها في ذلك صمت وعدم اكتراث الجميع. بعدها اقتربت مني لتقول بأنها سجلت رقم سيارتي وذهبت.... بعد ذهابها، أبديت لأحد الأعوان دهشتي من الصمت الذي أظهره الجميع أمام ما بدر منها داخل المحافظة. كان رده ببساطة أن لديه العديد من الأبناء، ولا يريد أن يجد نفسه بعيدا عن أسرته. طلبوا مني العودة في اليوم التالي لتسجيل شهادتي، مرة أخرى لما حضرت يوم 8 مارس طلبوا مني العودة يوم الجمعة 9 مارس، ما حدث حدث. في ذلك اليوم أخذوا شهادتي وجرى نقاش جدي بيني وبين العون المكلف بتسجيل شهادتي حول إفادة أدليت بها رفض تسجيلها في محضر سماعي، تمثلت في رؤيتي للمعتدين يدفعون الأعوان بعد تدخلهم الأول لحظة الوقائع، مستجوبي كانت له الكلمة الأخيرة ولم يسجل هذه الإفادة. بعدها تم تسجيل بلاغ الضحيتين" إمضاء: قرموش عبد الحميد (1).
هذا المشهد ليس مقتطعا من سيناريو مسلسل "شرطي داخل المافيا" وليست شهادة عن معاملة مارستها شرطة أحد الأنظمة العنصرية، بل هي شهادة أوردها الوزير السابق نور الدين بوكروح عن اعتداء وحشي وتواطؤ مخز وقعا في جزائر الاستقلال سنة 1973، جزائر "بابا بومدين" على رأي المواطن الأخرس. الضحيتان لم تكونا غير المفكر الراحل مالك بن نبي في آخر أيامه وزوجته. والمعتدون امرأتان و ثلاثة رجال هم جيرانه في الطابق السفلي.
هذه الشهادة أوردها في ختام تقديمه مخطوطا للمفكر يتضمن مقدمة غير منشورة لكتاب ضاع أو لم يتم تأليفه بعنوان "خطوط أنابيب الخيانة أو الرّضّاعة التي ترضع الخونة"(2)، هي نموذج عن استمراره في دفع ثمن خوضه الصراع الفكري حتى بعد استقلال الجزائر. فليست المناسبة للخوض هذا الجانب من حياة المفكر رحمه الله لأن المتصفح لمذكراته سيكتفي بالحالة النفسية التي تكتسحه وهو يعيش معه رحمة الله عليه تلك الظروف القاسية والحالات النفسية الصعبة. لكني أسوقها هنا كشهادة تعبّر عن نفسها في مواجهة من اتهموه بالشك المرضي كالدكتور خالص جلبي الذي يرى بأنه: "كان شديد الوسوسة في رجال المخابرات، يراهم عن اليمين والشمائل حيثما تلفت، وكان يغلق باب بيته بالعديد من الأقفال خوفا منهم،.." (3)، أو كما يروج لذلك الأستاذ عبد الصبور شاهين، ربما لأن المفكر رحمه الله حرمه حقوق ترجمة مؤلفاته(4).
التغيير:
"مالك بن نبي يصنف من أبرز المفكرين في الجزائر الحديثة والتاريخ الإسلامي "(5)، بهذه العبارة يفتتح "فيليب س. نايلور" دراسته التي حاول من خلالها رصد التأثير الذي شكله الاستعمار الفرنسي على حياة وفكر مالك بن نبي التي يعقد في نهايتها مقارنة بينه وبين "فرانز فانون" ليخلص في الأخير إلى أنه رحمه الله أثبت عدم "قابليته للاستعمار" كنتيجة لتكوينه ولوعيه التاريخي الجيد. فهو أول مفكر مسلم حلّل الظاهرة الاستعمارية تحليلا عميقا واستقصى أسبابها ولم يكتف بنظرة قاصرة لمعالجتها فذهب إلى أبعد من ذلك، لأن عملية إزالة الاستعمار أو التحرر عنده لا تقتصر على "إحلال نوع محل نوع آخر عن طريق العنف" دون معالجة أسباب هذه الظاهرة. مالك بن نبي تنبه إذا إلى تلك الحالة الاجتماعية والنفسية التي تلازم المجتمعات المسلمة وما صاحبها من استعدادات بعد عصر الموحدين والتي أسماها "القابلية للاستعمار"، هذا المصطلح الذي جلب له الكثير من النقد من خلال اتهامه بتبرير الظاهرة الاستعمارية على شاكلة جلد الذات. في الحقيقة المفكر الراحل شخّص هذه الحالة وحلل بدقة الأمراض الاجتماعية المصاحبة لها في عملية نقد ذاتي بعيدا عن الأطروحات الاستعمارية ملتزما الانحياز في صف بني جلدته. فمالك بن نبي كان يؤمن أشد الإيمان بـ: "التغيير" الشامل غير المقتصر على المظهر السياسي فقط، كما حدث مثلا مع دولة الموحدين التي قامت في شمال إفريقيا والأندلس أو كما هو حاصل اليوم بعد زوال المظهر السياسي للظاهرة الاستعمارية.
وبما أن الحضارة عند مالك بن نبي ترتكز على عاملين أساسين (6) أولهما "الإمكان الحضاري" حيث برر فشل الحركات التغييرية التي قامت في العالم الإسلامي منذ عصر الغزالي بغياب هذا العامل أو عدم اكتماله كما هو حال الحركات المعاصرة. مالك بن نبي رحمه الله يؤمن بأن التغيير تقيّده تبعية التاريخ لمبدأ "الدورة" استجابة للحتمية التاريخية. هذا التغيير الذي بشّر به مالك بن نبي لن يتأتى إلا إذا ترك أمر هذه الحتمية التاريخية كاختيار يتقرر في أعماق النفوس(7)، إذا فالتغيير نفسي بالدرجة الأولى وهو ما يدخل في إطار العامل الثاني أي "الإرادة الحضارية" الذي هو في الأصل "فكرة حية" يجب أن تأخذ طريقها للتجسيد بفاعلية. مالك بن نبي تفطن مبكرا للسيطرة التي يعمل الاستعمار على بسطها على عالم الأفكار عن طريق التشويش على المفاهيم والتصورات لخلق حالة من الشلل والجمود الفكري أو على الأقل الحول دون تجسيد الفكرة بعزلها عن محيطها الاجتماعي.
المفكر مبكرا أدرك عدم اكتفاء المستعمر بالسيطرة المادية أي على عالم الأشخاص والأشياء بل أخذ يوسعها إلى عالم الأفكار، فالصراع بين الاستعمار والمستعمر ينتقل إلى مجال الأفكار وهو ما يسميه "الصراع الفكري"، هذا المصطلح هو من إبداع المفكر الراحل حيث كان له السبق في توظيفه في رصده وتحليله لآليات هذا الأشكال الخفيّة من الصراع ذات الفعالية والخطورة الكبيرتين، حيث أشار لسبقه في استعمال هذا المصطلح سنة 1958 خلال محاضرته بباتنة في مايو 1973 (8).
الوعي بالذات والمشكلات:
يوجز مالك بن نبي العوامل الأساسية التي أثرت في تكوينه: "أنني أخذت من منابع ثلاثة في تكويني، منبع المدرسة التقليدية التي نسميها المكتب أو المدرسة، والمدرسة العصرية التي كانت تتمثل في صورة المدرسة الفرنسية عندنا، وهناك مدرسة عائلية هي فيما أعتقد التي كان لها الجانب الأوفر في تكويني، فهذا التوجيه العائلي جعلني أهتم بالمشكلات العامة، مشكلات وطني ومشكلات ما يتصل به وطني سياسيا واجتماعيا وأدبيا ودينيا" (9). إذا المفكر كان يرتكز على قواعد صلبة أكسبها له محيطه الاجتماعي بالدرجة الأولى بما يحمله من قيم أخلاقية واجتماعية أهمها الإحساس بالآخرين والتفكير في مشاكلهم. كذلك تكوينه المزدوج بحيث لم يبعده مساره الدراسي النظامي بما يحمله تأثيرات غربية عن قيم ومشكلات مجتمعه، فبالرغم من مزاولته لتعليمه في المدرسة الفرنسية كان يتردد على المدرسة القرآنية لحفظ القرآن الكريم، كما تلقى دروسا في النحو بالجامع الكبير بقسنطينة أثناء المرحلة الاكمالية.
أما المرحلة الحاسمة في تكوين ملامح شخصيته هي فترة دراسته الثانوية، حيث كان مقررا له أن يصير "عدلا" –كاتب ضبط- في المحاكم الشرعية، وهي وظيفة مارسها فعلا لمدة عام في صحراء آفلو وهو ما جعله يطلع على مجتمع جزائري لا يزال مرتبطا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية الأصيلة ويرزح تحت الممارسات الاستعمارية الجائرة. ولعل الأثر البالغ في هذه المرحلة كان لأستاذه مولود بن موهوب مفتي قسنطينة تلميذ الشيخ عبد القادر المجاوي عليهما رحمة الله، اللذان يعدهما حلقة من حلقات الإصلاح في سبيل التغيير المستمرة دون انقطاع منذ عهد بن تيمية (القرن الثامن الهجري) (10)، بالإضافة إلى مطالعاته للفلاسفة الغربيين أمثال: "كوندياك"، جون ديوي،.. ونيتشه واطلاعه المبكر على الدراسات التي تمحورت حول فلسفة الحضارة (توينبي، شبينغلر، دي كسرلنج...)، توسعت مطالعاته كذلك إلى المؤلفات العربية فقرأ "رسالة التوحيد" لمحمد عبده وقرأ لأحمد رضا كتابه الخطير "الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في المشرق" وقرأ للكواكبي "أم القرى" وقرأ كذلك "مروج الذهب" للمسعودي ومقدمة ابن خلدون في ترجمتها الفرنسية بالإضافة للشعر العربي والمنفلوطي...، دون أن نهمل أثر مطالعته للصحف التي كانت تهتم بحال الشعب الجزائري والعالم الإسلامي (الإقدام، الراية، العصر الجديد، الشهاب، الأمة العربية،...).
إذا فمحيطه الاجتماعي جعله يحس بالمشكلات، وتكوينه التقليدي ومطالعاته أكسباه وعيا تاريخيا وروحا وطنية عالية وقاعدة قوية في مواجهة الفكر المادي والأفكار الغربية بصفة عامة، أما المدرسة الفرنسية واطلاعه على الفكر الغربي فقد أمداه بالمناهج والأسس العلمية اللازمة لتحليل الظواهر وهو ما تعزز بعد رحيله إلى فرنسا حيث درس الهندسة الكهربائية، ما جعله يتميز عن غيره بتوظيف منهج يعتمد على التفكيك (التحليل) والتركيب لدراسة الظواهر التي يخضعها لمقياسي الكم والكيف ثم يقوم بصياغتها في نماذج بيانية ورياضية.
مالك بن نبي أدرك خفايا اللعبة الاستعمارية على صعيدها الفكري قبل أن تطأ قدماه باريس سنة 1930 حيث فشل في اجتياز امتحان الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لأسباب غير موضوعية، هذا الانتقاء الذي خضع له المفكر رحمه الله في بداية الطريق كان في صالحه لأنه ربما جعله بعيدا عن تأثيرات أطروحات المدرسة الإستشراقية الاستعمارية كما حدث للكثيرين ممن انتقلوا للدراسة بفرنسا وانسلخوا عن حضارتهم منساقين وراء الحملة المشوهة للتراث الإسلامي باسم النقد المؤسس على المناهج العلمية الحديثة. بل إن إقصاءه هذا هو الذي جعله يسجل بمدرسة اللاسلكي كتعويض، حيث لاحظ فيه أحد أساتذته إمكاناته العالية على معالجة المسائل النظرية التي لا تتأتى إلا لأصحاب القدرات العقلية العالية، لذلك نصحه بالانتساب إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك، حيث حرم من اجتياز الامتحان النهائي ولم تسلم له سوى شهادة تثبت سنوات دراسته.
احتكاكه في هذه المرحلة بالحضارة الغربية من خلال انخراطه في "جمعية الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين" جعله يكتشف بعيدا عن الجو الاستعماري القيم الايجابية للحضارة الغربية التي تمثلت أساسا في الفعالية والتنظيم والروح العلمية والتقنية، وهي الأسس التي لاحظ غيابها في المجتمع الجزائري. أما اهتمامه بالدراسات الإسلامية فهو باعترافه يدين به لصديقه "الفقيد" حمودة بن السّاعي رحمه الله الذي كان طالب فلسفة في السوربون يعد أطروحة حول الغزالي، حيث يرى فيه: "ولكنه مع ذلك الوحيد في جيلي الجزائري، الذي أستطيع العمل الفكري معه لأن شيطان المعرفة قد استولى عليه منذ صباه، حتى أنني اعتقدت تلك الليلة، أننا سوف نقوم بعمل سيبقى أثره في المجتمع الجزائري" (11). كذلك توسّع معلوماته الاجتماعية والرياضية جعلاه يدرك بأن المشكلات التي يعاني منها المجتمع الجزائري هي نفس المشكلات التي تعاني منها البلاد العربية والإسلامية وأن الاختلاف يكمن في لغة أو إحصائيات المشكلات لأنها في العمق مشكلات حضارة تتخذ طابعها السياسي من ظروفها الخاصة في وطن معين بين حدود معينة (9).
كان لهذا الوسط الجديد أثر آخر على المفكر رحمه الله، فقدوم الطلبة العرب وبالأخص المغاربة وانقسامهم إلى صفين، "واقعيين" و"مثاليين" نتيجة اختلافاتهم الفكرية والثقافية جعل المفكر يتخندق مع الجناح الثاني بسبب طبيعة تكوينه الفكري لأن دلالة المصطلحين عنده تتلخص في كون: "الواقعي هو الطالب المستعد لكل التواطؤات مع الإدارة الاستعمارية والمثالي هو المستعد لرفض كل تواطؤ"، وبالتالي دخل "حلبة الصراع الفكري" وكانت البداية في شهر ديسمبر 1931 من خلال محاضرة ألقاها بعنوان: "لماذا نحن مسلمون؟"، هذه المحاضرة التي استجوبته الشرطة الفرنسية من أجلها وتم نقل والده من عمله بسببها، كذلك استدعاه المستشار الخبير للحكومة الفرنسية في الشؤون الإسلامية "لويس ماسينيون" وقابله مجبرا تحت ضغط وضع والده. لن أواصل سرد ما لقي المفكر رحمة الله عليه هو وأفراد عائلته على أيد "المصالح النفسية" كما يسميها، لأن مذكراته تحمل الكثير(12).
ساحة الصراع:
إذا "لماذا نحن مسلمون؟" جعلته يدخل حلبة صراع فكري في ظل ساحة تعمها الفوضى التي صاحبت الإرهاصات الأولى للوعي الوطني في أوساط الطلبة والعمال الجزائريين بفرنسا أو الحركة الإصلاحية التي عمت أرجاء الوطن، والتي لاحظها في أول زيارة له لمدينة تبسة. أما أهم خطوة عملية قام بها ويتجاهلها المهتمون بتاريخ الحركة الوطنية هي مشاركته كممثل عن الطلبة في اللجنة التي حضّرت احتفالية إعادة بعث "نجم شمال إفريقيا" بقيادة مصالي الحاج، هذه الاحتفالية التي أقيمت في إحدى قاعات العمارة الكبرى التي تشغلها المنظمة الماسونية الفرنسية "الشرق الكبير" وهو ما جعله بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ يتساءل: "كتب للحزب الوطني أن يكون مهده في هذا المقر، والآن بعد أربعين سنة وقد علمتني الأيام ما علمتني، يجب أن أقول أن أمرا كهذا يتركني محتارا". غاب عن هذه الاحتفالية صديقه حمودة بن الساعي بسبب تحفظه إزاء كل نشاط سياسي منظم وهو نفس التحفظ الذي سيتبناه المفكر رحمه الله بقية حياته، لأنه شهد الانحرافات الأولى التي استولت على هذا الوعي الشعبي والتي يلخصها في مظاهر "الزعامة" و"التسييس" عن طريق الخطابات والشعارات الجوفاء التي تغذيها الانفعالات. فهو يحمّل المسؤولية في ذلك صراحة لـ: "الزعيم": "فلولا تدخل مصالي الحاج في الأمر، لما وجدت الجزائر نفسها أمام كثير من المشكلات التي عانتها بعد الاستقلال سنة 1962..". بعد هذه القطيعة انشغل المفكر بأمر "جمعية الوحدة العربية" التي أسسها بمعية الطلاب العرب والمناقشات التي كانت تدور بينه وبين حمودة بن الساعي رحمهما الله.
توالت على المفكر العديد من الأحداث والمحطات، والتي نجدها مبسوطة في سيرته الذاتية، لكن ما نريد التركيز عليه هنا هو جوانب الصراع الفكري الذي خاضه ضد الدوائر الاستعمارية بصفة مباشرة أو غير مباشرة. هذا الصراع الذي خرج إلى العلن أول مرة كان بعد صدور دراسته القيمة "الظاهرة القرآنية"، الكتاب الذي يعدّ فاتحة إنتاجه الغزير، وليس مصادفة أنه كان في مجال الدراسات الإسلامية وهو المجال المحتكر في تلك الحقبة من قبل المستشرقين أو من درس عليهم كـ: "مرجليوت" وتلميذه طه حسين الذين ذهبوا بعيدا في حملة طعن وتشويه باسم المناهج العلمية. المفكر رحمه الله طرح من خلاله مشكلة تعترض الشباب المسلم الذي احتك بالأطروحات والمناهج الغربية تتمثل في "إعجاز القرآن الكريم"، فالإعجاز "اللغوي" المتمثل في سمو كلام الله فوق كلام البشر التي تعلن عنها آيات القرآن الكريم لم يعد في المقدور اليوم إدراكه لبعد عصرنا عن عصر نزول الوحي، ونتيجة لتقادم هذا المقياس (الإعجاز اللغوي) عالج بن نبي هذه المشكلة باعتبار الوحي ظاهرة نفسية عن طريق تطبيق منهج تحليلي(13).
هذا الكتاب الذي يشير في مدخله الذي كتبه منفصلا للترجمة العربية كما يبدو (في 1 نوفمبر 1961) إلى أنه لم يتح له أن يرى النور في صورته الكاملة لأن أصوله "أحرقت" دون أن يورد تفاصيل احتراقها أو إحراقها، كما أنه يعترف بأنه أعاد تأليفه دون أن يتمكن من المراجع اللازمة. أما تفاصيل تأليف وصدور هذه الدراسة: فكرتها بدأت تختمر في ذهن المفكر أواخر سنة 1942 خلال تلاوته اليومية للقرآن الكريم، أثناء عمله إبان الحرب العالمية الثانية لمدة 18 شهرا في المصانع الألمانية، أما تأليفها فكان أثناء سجنه في الفترة الممتدة من أوت 1944 إلى أبريل 1945 بـ: "شارتر" (غرب باريس) بتهمة التعاون مع النازية، حيث عاد إلى الجزائر في فبراير 1947 وأعدّها للنشر بدافع الحاجة بعدما وقف على معاناة عائلته. لكن أعين الدوائر الاستعمارية لم تغفل عنه فأثناء رحلته بالقطار من قسنطينة إلى الجزائر العاصمة من أجل دفع المخطوط إلى المطبعة برفقة صديقه الدكتور عبد العزيز خالدي رحمه الله، انتبه لإعلان الحكومة العامة عن رصدها لجائزة من أجل الدراسات الإسلامية بشرط أن تكون الدراسة غير منشورة من قبل مع تسليم المخطوط في ظرف عشرة أيام، الأمر الذي جعله يتفطن لأمر الشابة "الإسرائيلية" التي كلّفها برقن المخطوط على الآلة في مدينة تبسه. فماسينيون الذي ظلّ يتابعه منذ سنة 1932 علم إذا بأمر صدور أول كتاب للمفكر، ومادام لا يستطيع الوقوف في وجه نشره هو يحاول تشويه ومسخه من خلال قطع صلات هذه الدراسة عن دواعيها الفكرية والنفسية، وهي محاولات ستكرر بطرق وأشكال أخرى مع باقي مؤلفات المفكر رحمه الله.
وقد تكفل المهندس صالح بن الساعي (شقيق حمودة) رحمه الله بجمع المال اللازم، حيث ساهم كل من: الملياردير طيار، الخياط البسيط ساسي رابح، السمسار عباس التركي، جمعية العلماء، ومن تبسة: الصادق بودراع وقريبه صالح حواس. وقد تأثر المهندس صالح بن الساعي كثيرا لورود اسم أخيه في الإهداء: "إلى صديقي ومعلمي حمودة بن الساعي....".
في سبتمبر 1947، عاد المفكر إلى باريس لتفقد أحوال زوجته "خديجة" رحمة الله عليها التي تركها دون سند مادي لدى مغادرته إلى الجزائر قبل ذلك بخمسة أشهر، هذه الزوجة التي احتملت معه الكثير وتحملت كما تحمل والده تبعات هذا الصراع الفكري. كان قد عاد قبله الدكتور عبد العزيز خالدي حاملا معه نسخة من مخطوط الدراسة إلى الشيخ محمد عبد الله دراز الأستاذ في الأزهر الشريف الذي قدّم لها. أثناء لقائه بالشيخ دراز الذي كان مصحوبا بـ: "عدوّه" ماسينيون فهم حينها أن العلماء المشارقة يشتركون مع المستشرقين أمثال ماسينيون في عدم تقبلهم لـ: "جاهل" مثله يحشر أنفه في مجال الدراسات الإسلامية، هذه المقدمة التي تحسّر من أجلها لأنها ستظل لصيقة بالكتاب. وهو الموضوع الذي سيعود له بعد عشرين سنة من خلال دراسته: "إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث" (14).
بعد عودته أشرف على صدور النسخ الأولى حيث تعرف على الكثيرين وأعجب كثيرا بشخصية عمر راسم. أما أصداء صدور الكتاب فكانت من خلال أول مقال نقدي للنائب عن "اتحاد النواب المسلمين الجزائريين" الأستاذ محداد في صحيفة "الجمهورية الجزائرية"، هذا المقال الذي أثر في المفكر كثيرا حيث قدم كـ: "أول إنتاج لعبقري جزائري"، أما موقف حزب الشعب فقد شعر المفكر بوقوفهم في طريق توزيعه. صدور هذا الكتاب عدّه المفكر كأول فرصة لكفاح الاستعمار في ساحة لم يسبق أن كوفح فيها إنها "الساحة الفكرية" (15). هذا الصراع الفكري الذي يرصد أطواره وآلياته من خلال تجربته الشخصية التي ضمنها كتابه: "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"(16) الذي يعدّ عودة لسيرته الذاتية لكن بمنظور آخر.
للحدبث بقية إن كتب ذلك.

فارس بوحجيلة
قسنطينة، فجر 29/12/2009

(1) Nour-Eddine BOUKROUH, L'Islam sans l'Islamisme: Vie & pensée de Malek Bennabi, SAMAR, Alger 2006, p. 253-254.
(2) op. cité p.249
(3) د. خالص جلبي، كتب مالك بن نبي التي لم تنشر، عن موقع بن نبي: http://www.binnabi.net/?p=307))، 28 فبراير 2008.
(4) د. البشير قلاتي، دراسات في مسار وواقع الدعوة الإسلامية في الجزائر، مكتبة اقرأ، قسنطينة 2006.
(5)Phillip C. Naylor, THE FORMATIVE INFLUENCE OF FRENCH COLONIALISM ON THE LIFE AND THOUGHT OF MALEK BENNABI (MALIK BN NABI), French Colonial History Vol. 7, 2006, pp. 129-142.
(6) د. البشير قلاتي، هكذا تكلم مالك بن نبي: نحو منهج رشيد للتغيير الاجتماعي والبعث الحضاري، مكتبة اقرأ، قسنطينة 2007، ص 119.
(7) جودت سعيد، حتى يغيروا ما بأنفسهم، أبحاث في سنن تغيير الفرد والمجتمع، تقديم مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق 1989، ص9-11.
(8) Nour-Eddine BOUKROUH, op. cité p.202
(9) مالك بن نبي، تسجيل صوتي بعنوان: حديث عن الحضارة ومشكلتها، إعداد فارس بوحجيلة، نشر المجلة الالكترونية أصوات الشمال:( http://www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=5928 )، أكتوبر 2009 .
(10) مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن: الطفل والطالب، دار الفكر، دمشق 1984، ص 65-66.
(11) السابق، ص 235.
(12) Malek BENNABI, Mémoire d'un témoin du siècle: l'enfant, l'étudiant, l'écrivain, les carnets, SAMAR, Alger 2006،
فارس بوحجيلة، في ذكرى رحيله السادسة والثلاثين: آثار مالك بن نبي، يومية الفجر، عدد 2759 ليوم 05/11/2009 ص22، وأيضا المجلة الالكترونية أصوات الشمال: (http://www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=6024)، موقع الشهاب: (http://www.chihab.net).
(13) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، دار الفكر، دمشق 2000.
(14) مالك بن نبي، القضايا الكبرى: 5. إنتاج المستشرق وأثره في الفكر الإسلامي الحديث (ص165-198)، دار الفكر، دمشق 2000.
(15) Malek BENNABI, , op. cité p.272-275
(16) مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دار الفكر، دمشق2006.
التعديل الأخير تم بواسطة أرسطو طاليس ; 30-12-2009 الساعة 03:50 PM
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية lavender lady
lavender lady
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 12-09-2009
  • المشاركات : 73
  • معدل تقييم المستوى :

    17

  • lavender lady is on a distinguished road
الصورة الرمزية lavender lady
lavender lady
عضو نشيط
رد: في ذكرى مولد مالك بن نبي: سيرة مكافح على جبهة الصّراع الفكري/بقلم : فارس بوح
30-12-2009, 06:31 PM
مالك بن نبي ظلمه النظام و ظلمناه اكثر بتجاهلنا لفكر هذا العظيم
لست فخورة بما اقول لكن قليل من جيلنا من يعطيه حقه .الصراحة اشعر بالخجل عندما اتذكر عتاب احد الاساتذة لنا لاننا لم نقرا فكر مالك بن نبي رغم ان الاستاذ دكتور في اللغة الانجليزية لكن ذلك لم يمنعه من التبحر في افكاره .
في انتظار ما يجود به نزف قلمك
من مواضيعي
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية osamamadridi
osamamadridi
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 30-10-2008
  • الدولة : الجزائر - قسنطينة
  • المشاركات : 1,603
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • osamamadridi is on a distinguished road
الصورة الرمزية osamamadridi
osamamadridi
شروقي
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 09:35 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى