رد: التفكير العقلي في الإسلام .. إبراهيم النظام نموذجا
26-01-2013, 07:27 AM
التفكير العقلي في الإسلام .. إبراهيم النظام نموذجا
الجزء الثالث والأخير :
كانت لاجتهادات النظام ردود فعل معاكسة من جميع التيارات الفكرية والفقهية في تلك الفترة ولم يسلم حتى من طعن المعتزلة رغم موافقتهم إياه في الأصول الخمسة التي يعتقد بها جميع المعتزلة إلا انهم عابوا عليه مسائل أنكروها عليه سوف نأتي على بعضها في هذا المقال .
في حقل العلوم التجريبية التي برع فيها المعتزلة في تلك الفترة كان إبراهيم النظام أحد أبرز من آمن ودعا إلى قانون السببية في القوانين الطبيعية وتفسير الحوادث الكونية المختلفة متجاوزا بذلك القراءة اللاهوتية التي كانت سائدة آنذاك – ولا تزال في بعض سياقاتها الإسلامية وتذهب إلى ان الحوادث الطبيعية معللة بذنوب العباد وتصرفاتهم الأخلاقية - ونقل الشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " ص 47 عن الكعبي أن النظام قال : إن كل ما جاوز محل القدرة من العقل فهو فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا وخلقه خلقة إذا دفعته أندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا " بمعنى أن جميع الحوادث الكونية هي من فعل الله ولكن بما طبع عليها من الأشياء ولذلك يقول الدكتور عبدالهادي ابو ريده في كتابه عن النظام ص 166 : " ويتبين من مقارنة راي النظام في العلل برأي غيره من المتكلمين أن النظام هو الوحيد الذي يقول بالعلة الغائية ويزيدها على العلل التي عرفوها والعلة الغائية من ضمن العلل عند أرسطو وإذن فقد كان النظام أقرب المتكلمين إلى مذاهب الفلاسفة "
في ذروة الحراك العقلي في تلك الفترة من تاريخ الفكر الإسلامي بين المدارس الفكرية المختلفة وهي الفترة التي نستطيع تسميتها بالفترة الذهبية في تاريخ الفكر في الإسلام حيث أستطاع الفكر أن يحلق بأجنحته في فضاءات المعرفة المختلفة حتى أن ملحدا معروفا كأبن أبي العوجاء كان يستطيع وبكل سهولة الدخول إلى مسجد الرسول في المدينة المنورة والمناظرة مع فقيه أهل البيت جعفر بن محمد الصادق حول بعض المسائل المتعلقة بشعائر الحج دون خوف من قتل أو إعتقال بتهمة الكفر أو التجديف بالشعائر الإلهية كما يحدث اليوم وللأسف الشديد في كثر من الدول الإسلامية وأستطاع المنتسبون إلى الديانات المانوية والزرادشتية واليهودية وغيرها تأليف الكتب الخاصة بهم والإحتجاج بها على المسلمين بل ومناظرتهم في قصر الخليفة العباسي نفسه إضافة إلى المعارك الفكرية بين المدارس الإسلامية المختلفة وخاصة داخل المدرسة الإعتزالية نفسها في خضم هذا الحراك الفكري الساخن برزت قضية الجوهر الفرد لتفرض نفسها بقوة كأحد ابرز المسائل الخلافية بين إبراهيم النظام وبقية المعتزلة وخاصة أستاذه أبي الهذيل العلاف وقد تطور هذا الخلاف بين الفريقين حتى الف أبي الهذيل كتابا في الرد على النظام ويقال بأنه قال فيه بتكفيره
كان النظام متمسكا برأيه في إنكار الجزأ الذي لا ينجزأ أشد التمسك ويقول : " لا جزء إلا وله جزء ولا بعض إلا وله بعض ولا نصف إلا وله نصف وأن الجزء جائز تجزئته أبدا ولا غاية له من باب التجزؤ " وقد وافق النظام في الإنكار بعض المعتزلة كالجاحظ وأبي الحسين الخياط وأيضا العلامة الأندلسي أبن حزم في كتابه " الفصل في الملل والنحل "
بينما ذهب العلاف ووفقه آخرون من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية بأن " العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ ( الجوهر الفرد ) ومن أعراض تدخل عليها ثم تتفرق بعد ذلك رؤاهم وتصوراتهم بحسب ملابسات ومقايسات مختلفة " ( كتاب " سفر المنظومات " للباحث العماني عبدالله المعمري ) .
من المسائل التي أنفرد بها إبراهيم النظام عن بقية المتكلمين الإسلاميين سواء من المعتزلة أو غيرهم ما يسمى في مذاهب المتكلمين بالصرفة في مسألة إعجاز القرآن وملخص هذا الرأي كما ينقله الشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " ص 48 أن الإعجاز القرآني متحقق من ناحية " من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الإهتمام به جبرا وتعجيزا حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على ان يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما " وقد وافق النظام في هذا المذهب أيضا المتكلم الشيعي الشهير الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي في رسائله التي نشرت في ثلاثة أجزاء .
وأما في الفقه والأصول فقد رفض النظام حجية الإجماع ضمن مصادر التشريع الإسلامي وقال كما نقل عنه الغزالي في كتاب " المستصفى من علم الأصول " أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته بينما نسب إليه الشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " ص 48 أنه لا يرى الحجة إلا في قول الإمام المعصوم بينما المعروف عن النظام أنه معتزلي العقيدة ومن المستغرب نسبة هذا القول إليه الذي هو رأي المدرسة الإسلامية الشيعية كما نسب إلى النظام أنه ينكر القياس أيضا ولم ينفرد بهذا الرأي إذ هو رأي الزيدية والإمامية أيضا والمسألة يطول شرحها ولا مجال لها هنا .
المسائل التي انفرد بها إبراهيم النظام متعددة وتطرق إليها الكثير من أرباب الفرق والمقالات وخاصة البغدادي في كتابه " الفرق بين الفرق " والأشعري في " مقالات الإسلاميين " إضافة إلى الشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " وشرحها يطول وقد كان الدافع لكثير من هذه الإنفرادات المنهج العقلي النقدي بروحه الجدلية العميقة الذي ألتزم به النظام في عملية الإستدلال في المسائل الأصولية والكلامية المختلفة وهذه الحاسة النقدية أكتسبها كما أسلفنا من خلال مطالعاته في الفلسفة اليونانية والفلسفات الشرقية المختلفة وخاصة الهندية والفارسية منها وقد أدى به هذا الإلتزام بهذا المنهج النقدي الصارم إلى الإصطدام مع جميع المدارس الفكرية آنذاك حتى أفتى كثير منهم بتكفيره ومنهم وللأسف الشديد بعض المعتزلة أيضا .
لم تحتفظ لنا المكتبة الإسلامية بأي كتب منسوبة لإبراهيم النظام لأسباب متعددة أهمها إتلاف كتب المعتزلة بواسطة خصومها وخاصة بعد الإنقلاب المتوكلي الشهير مما تسبب ذلك في ضياع ثروة فكرية عظيمة ومئات الكتب في علم الكلام والفلسفة والفقه وغيرها في الحقول المعرفية كانت تساهم إلى حد كبير في معرفة عقائد المعتزلة وآرائها من مصادرها الرئيسية وخاصة وأن أغلب الآراء التي تنقل عن المعتزلة اليوم هي من كتب خصومها وخاصة متكلمي الأشاعرة الكبار مثل البغدادي والأشعري والشهرستاني وغيرهم ولكن المتكلم الشهير علي بن أسماعيل الأشعري نسب للنظام بعض الكتب في كتابه " مقالات الإسلاميين " منها كتاب " الجزء " الذي يذكر فيه آراء المتكلمين في هذه المسألة وكتاب " الرد على الثنوية " وهو رد على فرقة المانوية التي كانت تنشط في تلك الفترة في الدولة العباسية وكانت تؤمن بثنائية النار والنور إضافة إلى " كتاب في التوحيد " يرد فيه على أستاذه أبي الهذيل العلاف في بعض المسائل الخلافية بينهما وأيضا نسب إليه المتكلم المعتزلي أبن أبي الحديد صاحب الشرح الشهير لنهج البلاغة كتابا آخر تحت عنوان " كتاب النكت " قال بأنه أنكر فيه حجية الإجماع ورد فيه أيضا بعض الإجتهادات المنسوبة إلى بعض الصحابة .
وجميع هذه الكتب المنسوبة للنظام لم يصل لنا منها شىء وإنما توجد إشارات وشذرات لها في بعض كتب أبن الخياط وأبن ابي الحديد المعتزلي والبغدادي وغيرهم .
ملاحظة :
هذا المقال لصالح عبدالله البلوشي نشرته( شرفات الثقافي في جريدة عمان )بتاريخ 27 / 9 / 2011
التعديل الأخير تم بواسطة الأمازيغي52 ; 26-01-2013 الساعة 07:37 AM