من شاعرات العرب في الجاهلية ... ام الضحاك المحاربية
28-10-2013, 10:14 AM
اذا كانت كتب الأدب المحدثة أكثرت من ذكر ليلى ومجنونها وعزة وكثيرها وبثينة وجميلها وعفراء وعروتها وسُعدى ونصيبها، فإنها غضت الطرف في غفلة أو ذهل عن كثيرات وكثيرين احتشدت بهن وبقصصهن كتب الأدب العربي، وحديث الشاعرات أكثر ذكرًا وأوسع دربًا وأعظم بيانًا.
ومن أكثر تلك القصص احتدامًا وحيوية قصة (أم الضحاك) المحاربية من بني محارب، كانت تحت رجل من بني الضباب يسمى زيدًا أو عطية، وكانت مولعة به، تحبه حبًا شديدًا، تصف حبها له بقولها:
ما عالج الناس من وجدٍ تضمنهم
إلا ووجدي به فوق الذي وجدوا
إلا أنها لم تكن تثق به، وهو أيضًا لا يثق بها، أما هي فتملك الأدلة على إدانته وخيانته لما بينهما من محبة، تقول:
وذي حاجةٍ ما باح وقد بدت
شواكل منها ما إليك سبيل
لنا صاحبٌ لا نشتهي أن نخونه
وأنت لأخرى فارع ذاك خليل
تخالك تهوى غيرها فكأنما
لها في تظنيها عليك دليل
وتصف غفلتها عن خيانته لها بقولها:
لم أنتبه حتى وقفت بغية
من الغي ثم انجاب عني غطائيا
فهجرها وسلا عنها وطلقها وتزوج بأخرى، وكانت على غاية المحبة له، وهذه الحكاية تصطبغ بصبغة درامية، تمتد خلال عدد من المقطوعات التي تذكر أبياتها ما كان بينهما من محبة ثم فراق، ثم تتابع رصد التداخل الشعوري بينهما وموقف كل واحد من الآخر حتى بعد الانفصال، عندما التقيا في الحج، فما كان من أم الضحاك إلا أن تشبثت بثوبه كأنها تتعلق بأحبال قلبه، وفي لحظات التردد بين الإقبال في لهفة المحبة أو الإدبار في حنق الكليم الذي رض قلبه وانكسر تقول حائرة:
هل القلب إن لاقى الضبابي خاليًا
لدى الركن أو عند الصفا متحرج
وأعجلنا قرب المحل وبيننا
حديثٌ كتنشاج المريضين مزعج
حديثٌ لو أن اللحم يصلى بحَرِّهِ
طريًا أتى أصحابه منضج
لتقرر أخيرًا أن تعترضه لتراه صراحًا ويراها، وتتشبث بثوبه تشتم منه عبق الأيام التي حرمها فيها نفسه، وقد ذكر السراج القالي في مصارع العشاق طرفًا من هذا الخبر، قال: بينما هي تطوف بالكعبة إذ رأت زيدًا، فلم تملك نفسها أن قبضت على ثوبه، وقالت: أنت هو؟ نعم! حياك الله، فَمَهٍ! فانشأت تقول:
اتهجرُ من تُحِب بغير جُرمٍ
أسأتَ إذًا وأنتَ له ظلومُ
تورقني الهمومُ، وأنتَ خِلْوٌ
لعَمرُكَ ما توؤرقك الهمومُ
فلا والله آمنُ بعد زيدٍ
خليلاً ما تغورّتِ النجومُ
ومما يزيد القصة قوة وإثارة أن زيدًا هذا كان لها محبًا كما تحبه، فقد كلف كل منهما بصاحبه.. أضف إلى ذلك أن شخصية أم الضحاك أكثر قوة وحضورًا من زوجها الذي لم يحدد شخصيته أحد بعلم، أو يترجم له، أما شخصية الشاعرة أم الضحاك فعلى الرغم من أنها غير واضحة تاريخيًا إلا أنها محددة إلى حد ما، وتزداد وضوحًا على سبيل الظن، إذا طرحنا فكرة من قبيل الخلط بين أم الضحاك وعشرقة الحيزبون المحاربية التي تصف نفسها وأحوالها مع المحبة والهوى في أبيات ذكرها أبوعلي القالي في الآمالي، عن أبي بكر بن دريد قال أنشدنا عبدالرحمن عن عمه قال: أنشدتني عشرقة المحاربية -وهي عجوز حيزبون زولة-:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى
ففقتهم سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى
ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي
ولا شربوا كأسًا من الحب مرة
ولا حلوةً إلا شرابهم فضلي
فأوصافها الشخصية وأساليبها في شعرها تكاد تنطبق على الأوصاف الشخصية والأساليب الشعرية لأم الضحاك مع اختلاف المرحلة العمرية، فقد تكون عشرقة هي أم الضحاك نفسها وعِشْرِقة: شجرٌ معروف، وهو اسمٌ من أسماء النِّساء، وكانت عشرقة هذه تماتن الشعراء أي تتحداهم، وهي جويرية عجفاء تقلب عينيها كعيني الأرقم إذا تحدت، وممن تحدتهم رفاعة أو أبوقيس نفير بن رفاعة اليهودي الذي قام من مجلسها قائلاً: لا أماتِنَ بعدها أحدًا ماعشت.
إن أم الضحاك المحاربية لم تكن ساذجة في حبها، ضعيفة عن مؤاخذة زوجها الذي هجر، بل كانت أسدًا هصورًا زاعقًا، جريئة في هجمتها عليه ولومه ضعيفة في رقتها ومحبتها وعطفها، يصدق عليها قول أوس بن غلفاء الهجيمي:
وهمْ تركوكَ أسلحَ من حبارى
رأت صقرًا، وأشردَ من نعام
فهي تتهدده بحياة حرجة غير آمنة لايطعم فيها سكينة ولا دعة:
لا يأمنن بعدي عطية حرةٌ
من الناس أو جارٌ كريمٌ يجاوره
وكنت وإياه كذى كاب لم يزل
يسمنه حتى اسمدر يساوره
فلما أبان الحماقة لم أجد
له مثل ما يكون فينضج ناظره
فلم تركن لاجترار ذكرياتها القديمة واستعادة الأيام التي عفت، بل طفقت تسأل عن سبيل يخرجها من سجن روحها ويبرئ سقم نفسها، فأخذت تسأل أصحاب الخبرة والتجربة من المحبين عن كيفية التخلص مما تعاني في فقد زوجها، وما تجد فيه من وجد؛ وفي هذا أنشد أحمد بن يحيى من شعرها:
سألتُ المحبينَ الذين تحمّلوا
تباريحَ هذا الحبِّ في سالفِ الدَّهرِ
فقلتُ لهم ما يُذهبُ الحبَّ بعدما
تبوَّأ ما بين الجوانحِ والصَّدرِ
فقالوا شفاءُ الحبِّ يُزيلهُ
من آخر أو نأيٌ طويلٌ على هجرِ
أو اليأسُ حتى تذهلَ النفسُ بعدما
رجتْ طعمًا واليأسُ عونٌ على الصَّبرِ
ويبدو أنها نجحت في التسلي عنه والتعزي عن هواه فشفت سقم النفس وجراح الروح، وقد روى أبوعلي القالي من شعرها ما يؤكد ذلك المعنى، قال: وقالت فيه حين سُئلت عنه:
تعزيت عن حب الضبابي حقبة
وكل عمايا جاهلٍ ستثوب
يقول خليل النفس أنت مريبة
كلانا لعمري قد صدقت مريب
وأريبنا من لا يؤدي أمانة
ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
ألهفاً بما ضيعت ودي وما هفا
فؤداي بمن لم يدر كيف يثيب
فهذه المحبة التي أغرمت بزوجها تكشفت أن من وراء الحب والولع والشطط فيهما قلب كليم وجراح فما أول الحب عندها وما آخره؟.. تقول:
الحُب أولُ ما يكونُ ولعْ
وإذا تمكنَ في الفؤادِ صرع
ويلي من الحُب الذي شفّني
ماذا عليّ من الهمومِ جمع
لقد أصابها الحب بداء لا برء منه حتى وإن جهد أهلها لها بالرقى والتمائم:
فلو أن أهلي يعلمون تميمة
من الحب تشفي قلدوني التمائما
بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ لم تكتف الشاعرة بإيثار السلامة والخروج من التجربة بعد انقضاء مابينها وبين من تهوى، بل جرت على نهج أسلافها من الشعراء العرب في استنباط الحكمة والمغزى مما لحق بها وما تجعله عبرة من وراء تجربتها في المحبة مع زوجها الضبابي، فقد أنشد لها ابن طيفور في بلاغات النساء قولها:
أرى الحب لا يفنى ولم يفنه الألى
أحبوا أرقد كانوا على سالف الدهر
وكلهم قد خاله في فؤاده
بأجمعه يحكون ذلك في الشعر
وما الحب إلا سمع عين ونظرة
وحنَّة قلب عن حديث وعن ذكر
ولو كان شيء غيره فني الهوى
وبلاء من يهوى ولو كان من صخر
هذه هي قصة أم الضحاك المحاربية، الشاعرة الجاهلية، واحدة من شاعرات الغزل، كانت تحب زوجها الضبابي وأسرفت في حبها له وتعلقها به، وبخاصة بعد أن طلقها، فجعلت تستعيد ذكرياتها معه وتناجيه، وها نحن أولاء نستعيد معها ما استعادت، فيصدق في ذلك قولها (أرى لاحب لا يفنى)
ومن أكثر تلك القصص احتدامًا وحيوية قصة (أم الضحاك) المحاربية من بني محارب، كانت تحت رجل من بني الضباب يسمى زيدًا أو عطية، وكانت مولعة به، تحبه حبًا شديدًا، تصف حبها له بقولها:
ما عالج الناس من وجدٍ تضمنهم
إلا ووجدي به فوق الذي وجدوا
إلا أنها لم تكن تثق به، وهو أيضًا لا يثق بها، أما هي فتملك الأدلة على إدانته وخيانته لما بينهما من محبة، تقول:
وذي حاجةٍ ما باح وقد بدت
شواكل منها ما إليك سبيل
لنا صاحبٌ لا نشتهي أن نخونه
وأنت لأخرى فارع ذاك خليل
تخالك تهوى غيرها فكأنما
لها في تظنيها عليك دليل
وتصف غفلتها عن خيانته لها بقولها:
لم أنتبه حتى وقفت بغية
من الغي ثم انجاب عني غطائيا
فهجرها وسلا عنها وطلقها وتزوج بأخرى، وكانت على غاية المحبة له، وهذه الحكاية تصطبغ بصبغة درامية، تمتد خلال عدد من المقطوعات التي تذكر أبياتها ما كان بينهما من محبة ثم فراق، ثم تتابع رصد التداخل الشعوري بينهما وموقف كل واحد من الآخر حتى بعد الانفصال، عندما التقيا في الحج، فما كان من أم الضحاك إلا أن تشبثت بثوبه كأنها تتعلق بأحبال قلبه، وفي لحظات التردد بين الإقبال في لهفة المحبة أو الإدبار في حنق الكليم الذي رض قلبه وانكسر تقول حائرة:
هل القلب إن لاقى الضبابي خاليًا
لدى الركن أو عند الصفا متحرج
وأعجلنا قرب المحل وبيننا
حديثٌ كتنشاج المريضين مزعج
حديثٌ لو أن اللحم يصلى بحَرِّهِ
طريًا أتى أصحابه منضج
لتقرر أخيرًا أن تعترضه لتراه صراحًا ويراها، وتتشبث بثوبه تشتم منه عبق الأيام التي حرمها فيها نفسه، وقد ذكر السراج القالي في مصارع العشاق طرفًا من هذا الخبر، قال: بينما هي تطوف بالكعبة إذ رأت زيدًا، فلم تملك نفسها أن قبضت على ثوبه، وقالت: أنت هو؟ نعم! حياك الله، فَمَهٍ! فانشأت تقول:
اتهجرُ من تُحِب بغير جُرمٍ
أسأتَ إذًا وأنتَ له ظلومُ
تورقني الهمومُ، وأنتَ خِلْوٌ
لعَمرُكَ ما توؤرقك الهمومُ
فلا والله آمنُ بعد زيدٍ
خليلاً ما تغورّتِ النجومُ
ومما يزيد القصة قوة وإثارة أن زيدًا هذا كان لها محبًا كما تحبه، فقد كلف كل منهما بصاحبه.. أضف إلى ذلك أن شخصية أم الضحاك أكثر قوة وحضورًا من زوجها الذي لم يحدد شخصيته أحد بعلم، أو يترجم له، أما شخصية الشاعرة أم الضحاك فعلى الرغم من أنها غير واضحة تاريخيًا إلا أنها محددة إلى حد ما، وتزداد وضوحًا على سبيل الظن، إذا طرحنا فكرة من قبيل الخلط بين أم الضحاك وعشرقة الحيزبون المحاربية التي تصف نفسها وأحوالها مع المحبة والهوى في أبيات ذكرها أبوعلي القالي في الآمالي، عن أبي بكر بن دريد قال أنشدنا عبدالرحمن عن عمه قال: أنشدتني عشرقة المحاربية -وهي عجوز حيزبون زولة-:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى
ففقتهم سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى
ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي
ولا شربوا كأسًا من الحب مرة
ولا حلوةً إلا شرابهم فضلي
فأوصافها الشخصية وأساليبها في شعرها تكاد تنطبق على الأوصاف الشخصية والأساليب الشعرية لأم الضحاك مع اختلاف المرحلة العمرية، فقد تكون عشرقة هي أم الضحاك نفسها وعِشْرِقة: شجرٌ معروف، وهو اسمٌ من أسماء النِّساء، وكانت عشرقة هذه تماتن الشعراء أي تتحداهم، وهي جويرية عجفاء تقلب عينيها كعيني الأرقم إذا تحدت، وممن تحدتهم رفاعة أو أبوقيس نفير بن رفاعة اليهودي الذي قام من مجلسها قائلاً: لا أماتِنَ بعدها أحدًا ماعشت.
إن أم الضحاك المحاربية لم تكن ساذجة في حبها، ضعيفة عن مؤاخذة زوجها الذي هجر، بل كانت أسدًا هصورًا زاعقًا، جريئة في هجمتها عليه ولومه ضعيفة في رقتها ومحبتها وعطفها، يصدق عليها قول أوس بن غلفاء الهجيمي:
وهمْ تركوكَ أسلحَ من حبارى
رأت صقرًا، وأشردَ من نعام
فهي تتهدده بحياة حرجة غير آمنة لايطعم فيها سكينة ولا دعة:
لا يأمنن بعدي عطية حرةٌ
من الناس أو جارٌ كريمٌ يجاوره
وكنت وإياه كذى كاب لم يزل
يسمنه حتى اسمدر يساوره
فلما أبان الحماقة لم أجد
له مثل ما يكون فينضج ناظره
فلم تركن لاجترار ذكرياتها القديمة واستعادة الأيام التي عفت، بل طفقت تسأل عن سبيل يخرجها من سجن روحها ويبرئ سقم نفسها، فأخذت تسأل أصحاب الخبرة والتجربة من المحبين عن كيفية التخلص مما تعاني في فقد زوجها، وما تجد فيه من وجد؛ وفي هذا أنشد أحمد بن يحيى من شعرها:
سألتُ المحبينَ الذين تحمّلوا
تباريحَ هذا الحبِّ في سالفِ الدَّهرِ
فقلتُ لهم ما يُذهبُ الحبَّ بعدما
تبوَّأ ما بين الجوانحِ والصَّدرِ
فقالوا شفاءُ الحبِّ يُزيلهُ
من آخر أو نأيٌ طويلٌ على هجرِ
أو اليأسُ حتى تذهلَ النفسُ بعدما
رجتْ طعمًا واليأسُ عونٌ على الصَّبرِ
ويبدو أنها نجحت في التسلي عنه والتعزي عن هواه فشفت سقم النفس وجراح الروح، وقد روى أبوعلي القالي من شعرها ما يؤكد ذلك المعنى، قال: وقالت فيه حين سُئلت عنه:
تعزيت عن حب الضبابي حقبة
وكل عمايا جاهلٍ ستثوب
يقول خليل النفس أنت مريبة
كلانا لعمري قد صدقت مريب
وأريبنا من لا يؤدي أمانة
ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
ألهفاً بما ضيعت ودي وما هفا
فؤداي بمن لم يدر كيف يثيب
فهذه المحبة التي أغرمت بزوجها تكشفت أن من وراء الحب والولع والشطط فيهما قلب كليم وجراح فما أول الحب عندها وما آخره؟.. تقول:
الحُب أولُ ما يكونُ ولعْ
وإذا تمكنَ في الفؤادِ صرع
ويلي من الحُب الذي شفّني
ماذا عليّ من الهمومِ جمع
لقد أصابها الحب بداء لا برء منه حتى وإن جهد أهلها لها بالرقى والتمائم:
فلو أن أهلي يعلمون تميمة
من الحب تشفي قلدوني التمائما
بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ لم تكتف الشاعرة بإيثار السلامة والخروج من التجربة بعد انقضاء مابينها وبين من تهوى، بل جرت على نهج أسلافها من الشعراء العرب في استنباط الحكمة والمغزى مما لحق بها وما تجعله عبرة من وراء تجربتها في المحبة مع زوجها الضبابي، فقد أنشد لها ابن طيفور في بلاغات النساء قولها:
أرى الحب لا يفنى ولم يفنه الألى
أحبوا أرقد كانوا على سالف الدهر
وكلهم قد خاله في فؤاده
بأجمعه يحكون ذلك في الشعر
وما الحب إلا سمع عين ونظرة
وحنَّة قلب عن حديث وعن ذكر
ولو كان شيء غيره فني الهوى
وبلاء من يهوى ولو كان من صخر
هذه هي قصة أم الضحاك المحاربية، الشاعرة الجاهلية، واحدة من شاعرات الغزل، كانت تحب زوجها الضبابي وأسرفت في حبها له وتعلقها به، وبخاصة بعد أن طلقها، فجعلت تستعيد ذكرياتها معه وتناجيه، وها نحن أولاء نستعيد معها ما استعادت، فيصدق في ذلك قولها (أرى لاحب لا يفنى)











.gif)

