الغزو الديني*! /بقلم: حمزة يدوغي
07-04-2015, 12:02 PM
كان المرحوم الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم معجبا أشد الإعجاب بهذا البيت من الشعر*:
نعيب زماننا والعيب فينا* وما لزماننا عيب سوانا
فكان* يستحضره دائما ويجيب به كل من* "حمّل*" زماننا ما نعانيه من تشتت وتخلف وضعف وهوان،* ووجد متنفّسا في* بيت أبي* العلاء المعري* الشهير*:
كم أردنا ذاك الزمان بمدح* فشغلنا بذم هذا الزمان
حضرني* هذان البيتان،* أو على الأصح هذان الموقفان المتباينان،* وأنا أفكر في* واقعنا الديني* المضطرب وما آلت إليه مرجعيتنا الدينية من اهتزاز،* فاستهواني* بيت المعري* "وهربت*" ككل الحالمين إلى ماضي* الجزائر الذي* نعمت فيه بوحدة دينية مقدسة جامعة طوال قرون من الزمن فلم تضعف ولم تتصدع حتى في* أحلك فترات تاريخها؛ كل ذلك بفضل علمائها وأئمتها الذين حافظوا على مرجعيتها الدينية ورسّخوها على مر العصور والأجيال*. أولئك العلماء الذين تجاوز صيتهم حدودها فكانوا محل تقدير العلماء المسلمين في* المشرق والمغرب على حد سواء،* فقد كانوا حجة في* الفقه وكانوا على دراية واسعة بالمذاهب الأخرى*. وكان في* وسعهم دائما أن* يأخذوا من هذا المذهب أو ذاك من مذاهب أهل السنة عملا بالاجتهاد الترجيحي* الانتقائي* متى توافرت شروطه وقويت دواعيه*.
الجزائر لم تعرف الجمود والانغلاق والتعصب المذهبي* الضيق،* فقد ظل المذهب المالكي*- ولا* يزال*- يتعايش تعايشا كاملا مع المذهب الإباضي* والمذهب الحنفي* من دون أي* ضيق أو خرج*.
لكن الخوف من امتداد هذا الصراع أصبح له اليوم ما* يسوغه بعد أن برزت وانتشرت ظواهر* غريبة لم* يألفها المجتمع الجزائري* من قبل في* ممارسة عباداته*. ظواهر بدأت تترسخ بفعل التكرار وبفعل الفراغ* الذي* يغري* الجاهلين والمغرضين على حد سواء*.
نضيف إلى ذلك عاملا آخر مهما هو أن الجزائري* سريع الاستجابة بطبعه لمن* يخاطبه باسم دينه وكثير التقدير لمن* يعتقد أنهم علماء،* ولكن ليس كل الجزائريين قادرين على التمييز بين ما هو من الدين بحسنه وبرهانه وما ليس منه بقبحه وبطلانه*.
إن هذه الصفة التي* يتميز بها الجزائريون كثيرا ما شجعت* "المتفيقهين والمتطفلين*" على الإفتاء*- كما نعلم جميعا*- وعلى اعتلاء منابر الوعظ والإرشاد من دون زاد علمي* ولا ورع ديني* ويقتحمون ميادين متينة ويوغلون فيها بشدة من دون خشية ولا تهيّب*.
ومن هذه الظواهر الخطيرة التي* عادت إلى البروز في* السنوات الأخيرة اتهام الناس جهرا في* عقيدتهم لمجرد اختلافهم معهم في* مسائل فقهية فرعية خلافية لا علاقة لها بالعقيدة،* وتكفيرهم لهم بسهولة عجيبة،* لا* يدفعهم إلى ذلك سوى حب الظهور والتفرد،* وهم ممن عناهم الإمام الشافعي* رضي* الله عنه بقوله*:
إذا كان* يهوى أن* يُرى متصدرا* وكره* "لا أدري*"* أصيبت مقاتله وعندما تسنح الفرصة* "للحديث*" مع واحد من هؤلاء فإن الإنسان* يعجب لما* يلمسه من قلة الزاد وضيق الأفق وقصر النظر وجرأة على الله لا تعرف حدا*.
تقول له*: اتق الله،* فإن تكفير المسلم أمر عظيم* يترتب عليه في* الإسلام وجوب التفريق بينه وبين زوجته وخروج أولاده عن ولايته،* وإذا مات فإنه لا* يغسل ولا* يصلى عليه ولا* يدفن في* مقابر المسلمين،* ويمتنع التوارث بينه وبين أقربائه والحكم عليه بالخلود في* النار*.. هكذا* يقول علماء الإسلام*.. فهل تعلم كل هذا وتستحضره عندما تكفرالناس جهرة؟*! فهل تقرأ قوله تعالى*: "والذين* يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا"؟ وهل تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم*: "إذا قال الرجل لأخيه* يا كافر فقد باء بها أحدهما"؟*!
تقول له*: اتق الله في* دين الله وفي* عباد الله*..
فيقول لك في* غرور عجيب*: "المؤمن الحق* يجهر بالحق ولا* يخشى في* الله لومة لائم*". ألا ما أبعد هذا السلوك عن الإسلام وما أغربه عنه*. قال عليه الصلاة والسلام*: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما* يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل*".
لقد وضع سلفنا الصالح مصنفات في* التفريق بين الكفر والمعصية،* إمعانا منهم في* التحذير والاحتياط،* عملا بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم*.
روي* عن عمر بن الخطاب رضي* الله عنه أن رجلا على عهد النبي* صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم جلد في* شرب الخمر،* وأوتي* به* يوما فأمر به فجلد،* فقال رجل من القوم*: اللهم العنه ما أكثر ما* يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم*: "لا تلعنوه*.. فوالله ما علمت إلا أنه* يحب الله ورسوله*".
سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،* يشهد لشارب خمر بأنه* يحب الله ورسوله*.. بل ويقسم على ذلك ولا عجب،* فهو إنما بعثه الله هاديا مبشرا ونذيرا ومذكرا ولم* يأمره بشق صدور الناس للتنقيب عما في* قلوبهم،* كما قال هو عن نفسه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،* بل هو موكل بالظاهر من القول والفعل،* وبإقامة حدود الله على القوي* والضعيف والغني* والفقير على حد سواء،* وأما بواطن النفوس وسرائرها فإنه*- صلى الله عليه وسلم*- خير من* يعلم أنها من شأن الخالق وحده سبحانه*.
لقد كان علماؤنا وأئمتنا إلى عهد قريب* يصرفون طاقتهم كلها في* مواجهة* "الغزو الثقافي* الغربي*" متعدد الجبهات والمجالات،* وهم مشكورون في* كل ذلك ومأجورون إن شاء الله،* ففرض عليهم اليوم واقع الجزائر الجديد أن* يواجهوا* غزوا آخر لعله أشد خطرا هو* "الغزو الديني*"..







