غرائز الإنسان وحاجاته العضوية ( الحلقة الأخيرة )
07-04-2007, 07:03 PM
السلام عليكم وبعد :

يسرني من جديد وأنا أطرق هذا الباب أن أحيي كل القائمين على هذا المنبر، لما له من جزيل الخير وكثير الفضل في توعية الفرد المسلم، الذي لم يجتمع في هذا المنتدى إلا لكتابة أو سماع الكلمة الطيبة في زمن كثر فيه الدجل والنفاق. وإحساسا منا بمدى تأثير هذه الكلمة الطيبة ها نحن نعود الى موضوع غرائز الانسان وحاجاته العضوية ، لنقف على الكيفية الصحيحة لإشباعها إشباعا يليق بكرامة هذا الكائن العاقل.
إذن وكما قلنا في الحلقة الأولى فإن إشباع الانسان لهذه الغرائز والحاجات العضوية هو أمر لا بد منه، وهذا الإشباع لا بد أن يكون خاضعا لإرادة العقل، وإلا أدى ذلك الى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلا للإشباع كإشباع الميل الجنسي في غريزة النوع عن طريق اللواط أو أدى ذلك الى الإشباع الخاطئ في جهة هي محل للإشباع ولكن لمجرد الإشباع عن طريق الزنا مثلا، وكلاهما يتناقض مع الأصل الذي قامت عليه الغريزة. ولنضرب مثالا آخر حتى تتبين الأمور أكثر فغريزة التدين إذا أشبعت عن طريق الوجدان فقط أدى ذلك إما الى الإشباع الشاذ بعبادة غير الخالق أو الى الإشباع الخاطئ بالتقرب الى الخالق بما يبعد عنه كالشرك وكلاهما صرف للغريزة عن هدفها الذي وجدت من أجله. وعلى ذلك لا يجوز أن يترك إشباع الغرائز للوجدان، لأنه شعور غريزي يظهر بوجود ما يثير المشاعر الغريزية، فإذا أحدث الانسان رجعا لهذا الشعور بمجرد وصوله دون استعمال عقله أدى ذلك الى الخطأ والضلال، فقد ترى في الليل شيئا ما فتظنه عدوا لك فتتحرك فيك غريزة البقاء بمظهر الخوف، فإذا استجبت لهذا الشعور مباشرة وهربت دون أن تستعمل عقلك كان ذلك خطأ منك، لأنك قد تهرب من لا شيء، وقد تهرب من شيء لا ينفع معه الهرب كالهروب من السبع مثلا لأنك وببساطة لا تقوى على الركض أمامه وإنما تلجأ الى الحيلة عن طريق تسلق شجرة مثلا. وما عبادة الأوثان وما تقديس الأولياء وما الخرافات والترهات إلا نتيجة لتحكيم الوجدان (العاطفة ) بعيدا كل البعد عن تحكيم العقل.
إذا فلا بد أن يكون العقل هو جهاز التحكم، ولا بد أن يكون تنظيم الغرائز والحاجات العضوية خاضعا للعقل، ولا بد من نظام يكبح فيه العقل جماح الطاقة الحيوية، فمن أين يأتي هذا النظام يا ترى ؟ وهل يستطيع العقل أن يضعه بمفرده ؟!
إن العقل لا يمكنه أن يتعامل إلا مع الواقع المحسوس، والحقيقة أن الغرائز والحاجات العضوية ليست واقعا محسوسا كما يتصور الانسان. صحيح أن العقل أدرك وجود هذه الأشياء من خلال آثارها، ولكنه تجده عاجزا عن إدراك كنهها، فالعقل يدرك من وجود الكرسي أن هناك نجارا صنعه، ولكنه لا يستطيع أن يدرك شكل النجار من إدراكه للكرسي ولا شخصيته لأن آثار الشيء لا تدل إلا على وجوده، فلا يمكن أن ينظم العلاقة مع النجار إلا إذا وقع النجار تحت حسه، لأنه إن اعتمد على الكرسي التي هي من آثاره في وضع النظام للنجار على أساس أنه نجار، قد يفاجأ به على أنه مهندس وأن النجارة كانت مجرد هواية بالنسبة إليه. وكذلك العقل لا يمكنه أن يضع نظاما للغرائز من خلال آثارها أو مظاهرها لأن الآثار غير الغرائز، وقد ينظم بعض المظاهر فتظهر الغريزة بمظاهر أخرى فيقع في الحيرة والارتباك، والعقل لا يملك مقياسا يقيس به الخوف أو الجوع أو الحنان أو التسلط أو حب التملك وبالتالي لا يمكنه أن يضع حدودا بين هذه الجوعات ولا أن يحدد كمية كل منها.
هذا من ناحية واقع الغرائز والحاجات العضوية، إذ أن واقعها يدل على عجز العقل عن التنظيم، وكذلك هو الحال بالنسبة لواقع العقل الذي يدل على عجزه عن التنظيم،فالعقل هو عرضة للتفاوت والتناقض والاختلاف بين إنسان وآخر، فقد يرى هذا الأول أن الأساس يكمن في حل المشكلة السياسية وقد يرى الثاني أن الأساس يكمن في حل المشكلة الاقتصادية وهكذا، وحتى نفس العقل في نفس الانسان قد يرى مرة أن المشكلة هي كذا ثم تزداد معلوماته فيرى أن رأيه كان خاطئا ثم تزداد معلوماته فيغير رأيه الثاني وهكذا فليس هناك عقل كامل المعلومات. بالإضافة الى هذا هناك أيضا ضغط البيئة، فالانسان محدود ضمن بيئته، والمعلومات السابقة التي يستعملها في التفكير إنما يجمعها بواسطة الحواس، وحواسه محدودة في إطار البيئة والظروف التي يعيش فيها، فيكون بالتالي عاجزا عن الإحاطة بالوجود، وسيكون نظامه منبثقا عن بيئة معينة وعن ظروف وأوضاع معينة. إذا فالعقل لا يصلح لأن ينظم حياة الانسان كإنسان.
وهكذا فالعقل محدود ضمن بيئة معينة وهو عاجز عن إدراك كنه الغرائز والحاجات العضوية، فكل نظام يضعه يكون تخبطا واستعمالا للعقل في غير محله، كما يكون عرضة للتناقض والتأثر بالبيئة، ويؤدي الى الضنك والتعاسة والاضطراب. وهذا ما نراه جليا في بلدنا وبلاد العالم الأخرى التي تحكم القوانين الوضعية فمختلس المليارات والراهن لمستقبل الملايين من الأجيال القادمة تكون عقوبته مثل عقوبة سارق بيت أو هاتف نقال أو سارق بعض الملايين القليلة من السنتيمات، وكما يحدث في أمريكا فبعض الولايات تطبق حكم المؤبد على نفس الجريمة التي يطبق في حقها حكم الإعدام وهكذا دواليك.
وبناء على ما فات فلا يمكن للإنسان مهما أوتي من علم وحكمة أن ينظم حياته كما نظمها خالقه، لأنه وحده الذي يحيط بواقع الغرائز والحاجات العضوية إحاطة تامة وكاملة، وهو وحده سبحانه المنزه عن النقائص والعيوب، فلا يأتي نظامه متناقضا أو متأثرا ببيئة أو ظروف ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما يأتي نظاما كاملا شاملا يعالج مشاكل الانسان كإنسان في كل زمان ومكان، لأنه ببساطة من صنع خالق الانسان : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
فالنظام الصحيح لا يأتي من غير الله سبحانه، ومهمة العقل هي إخضاع هذه الغرائز والحاجات العضوية لهذا النظام عن طريق فهم هذا النظام والتقيد به، فالعقل بالنسبة للطاقة الحيوية بمثابة الخليفة بالنسبة للأمة، يملك السلطان ولكنه لا يملك السيادة، فمهمته تنفيذ النظام وليس وضعه. فالعقل يكبح جماح الغرائز والحاجات العضوية ويقيدها بشرع الله، والشرع ليست مهمته كبت الغرائز والحاجات العضوية أو محاربتها كما يتصور البعض، وإنما جاء الشرع لينظمها تنظيما دقيقا يضمن إشباعها جميعها دون أن تطغى غريزة على غريزة أو حاجة على حاجة أخرى، فيعيش الانسان بالتالي في توازن نفسي، وهو يتمتع بقسط وافر من السعادة والطمأنينة، وكل ما دونه من أنظمة ونظريات بشرية مثل الإشتراكية أو الرأسمالية التي تريد تنظيم هذه الغرائز والحاجات العضوية إنما يكون مآلها الإحساس بالقلق والبؤس والضنك حتى وإن غرق الانسان في بحبوحة من وفرة الثروة والرفاهية، وهذه حقيقة ثابتة ـ نراها في بلاد الغرب وغيرها من بلاد العالم فالجرائم ترتكب بشكل رهيب وخطير في أكثر البلدان رفاهية والتي هي على سبيل المثال وليس التقييد أمريكا وبلاد الغرب عموما ـ منذ أن خلق الله الانسان وستبقى حتى قيام الساعة : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ).
هذا ما أردنا إضافته لفهم واقع الغرائز والحاجات العضوية والكيفية التي يجب أن تشبع بها حتى يكون الانسان سيد القرار فيها وليس عبدا مطيعا لما تمليه هي عليه. فبمعالجة هذه الطاقات الحيوية العلاج الصحيح يستوي سلوك الانسان في حياته. ولا يتأتى ذلك إلا باتباع أوامر الله ونواهيه. وكما جاء في الأثر أن ( حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة ). استسمحكم على هذه الإطالة لأن الموضوع لا يحتمل الاختصار كما أناشد كل عضو فعال في هذا المنتدى لمناقشة هذا الموضوع، وفي فرصة أخرى وتحت شعار النهوض بالانسان بإيجاد فكر بديل له عن طريق الطرح الفكري للإسلام، استودعكم عند من لا تضيع ودائعه ودمتم في رعاية الله وحفظه والسلام عليكم ورحمة الله
التعديل الأخير تم بواسطة عبيد الله ; 07-04-2007 الساعة 07:09 PM