قصّـــــــة : سِــــــــــرُّ جُـــــــــوليــــــــات
23-07-2015, 09:34 PM
تخّرّج محسن من الجامعة ، بعد أن تحصّل على شهادة مهندس دولة في الميكانيك ، و قد كان بارعا في تخصّصه حاذقا فيه ، ضرب في ولايته و المناطق المجاورة طولا و عرضا بحثا عن عمل يرتزق منه ، لكنّه لم يوفّق فيما سعى له ، فما عساه أن يفعل أمام هذا الوضع البائس الذي باتت فيه الجامعات مصانع للشارع تدفع ، و البطالة وحشا سابغا يهشّم العظام و يبلع!
نضبت أحلام محسن و جفّ معينها، و صرعت الظّروف آماله و طرحتها لينهشها اليأس و يسحقها القنوط. دخل في أحد الأيام إلى البيت بخطى متثاقلة و كأنّ على عاتقه الأحمال ، واجم الوجه ، و قد غشت سحنته سحائب الحزن و أمارات الضّجر ، فسألته والدته مريم التي لم تنجب غيره ، إذ كان وحيدها بعد وفاة والده : مالك يا بني قد دخلت بغير الوجه الذي خرجت به على غير عادتك ؟
قال : لقد عجزت يا أماه أن أحقّق ما طمحت له نفسي في بلوغ المرام الذي أنشده ، بوظيفة أكسر بها ناب الفقر الذي عضّنا و لم يزل ، و لولا المعاش الهزيل الذي خلّفه والدي وراءه ، و سعيك في البيوت طيلة النّهار ، و شقائك من أجل الحصول على بضعة دنانير بالكاد تفي بالغرض لأصبحنا بين الأزقّة نمد الأيدي و نستجدي المارّة ، ثمّ أخذ يد والدته يقبّلها و يبلّلها بدموعه الحارّة , و خنينه يمزّق القلوب .
احتضنت مريم ولدها بين ذراعيها و عبراتها على خدّيها ، و هي تردّد في هدوء حزين : لا عليك يا ولدي ، فما شاء الله كان .
هجر محسن وطنه إلى انجلترا أين تزهر الأحلام و تتحقق الأوهام ، و سرعان ما تحصّل على عمل في تخصّصه ، فسطع نجمه فيه و أمسى بدعاء والدته ثريا في سنوات تعدّ على الأصابع .
اِلتقى محسن بجوليات الفاتنة ، السكرتيرة الجديدة ، شابة في مقتبل العمر ، بيضاء بياض الثّلج ، ذات قوام رشيق و شعر بنّي ، لها عينان زرقاوان و وجنتان شابهما شيء من حمرة ، أضفت عليها سحرا رهيبا يخطف الألباب ، إنّها غانية من غواني أوروبا و حسناواتها ، أذهله مرآها منذ أن اِلتقت العينان ، فامتلكت عليه قلبه ، و سقط أسير بسمتها و رهين تغنّجها و تودّدها إليه ، فأحبّها و أحبته ، و أمسى لا يصبر على فراقها ، و لم يدم ذلك طويلا حتى طلبها للزواج ، فلم تتردّد في القبول أو تتلكأ . اِغتبط بجوابها و سُرّ و أحسّ أنّ جنات الفردوس أهدته حوريّة من حورياتها اسمها جوليات .
هتف إلى والدته ينبئها الخبر ، سمعت مريم حديث ولدها إلى آخره ، و هي مطرقة و قد تملكّها الحزن الذي ارتسم على محيّاها المنهك ، و بعد أن أنهى كلامه قالت : أنسيت ابنة خالك سميّة التي و عدتها بالزواج ؟ و هي تنتظرك اليوم و تُمنّي نفسها بك ، و تترقّب عودتك كما يترقّب المريض من الطّبيب الشفاء ، و الظّامئ القطر من السّماء ، كيف تتزوّج كافرة لا تعرف لها نسبا فالغرب لا يقيمون للأخلاق و الدّين وزنا ، فالشرف و العفّة و العرض و الحياء لا وجود لها في عالم القيم عندهم ، فهم أشبه بالبهائم الرّتّع التي تحيا بلا شرعة تهتدي بها ، كل همّهم شهواتهم النّهمة التي لا تشبع ، و نزواتهم التي لا ترتوي . ردّ عليها مرتاعا من نبرتها الحادة : ما كان كان يا أمي ، و هذا قدري الذي لا رجعة فيه ، عقّبت مريم و العبرة تخنقها : إن كان الأمر كذلك يا بني و ارتبطت بهذه البنت ، فإني لن أغفر لك زلّتك ما حييت ، و الله أسأل أن يخذلك فيها و يريك منها ما تكره ، و أقفلت سماعة الهاتف و هي تنتحب على مصير وحيدها .
ارتبك محسن عند سماع ما قالته أمّه ، لكنّه ما فتئ أن تذكّر جوليات و جمالها و كلماتها الرّقراقة ، السّالبة لفؤاده ، الآخذة بكيانه ، فنسي حديث والدته و استخفّ به .
تزوّج المرأة التي عشقها و عشقته ، فكانت جوليات تدلّله و تبالغ في ذلك ، وتسعى بكل ما تملك لإرضائه ، لقد نثرت ورود السعادة و عبير السّرور في أيامه و لياليه ، و عملت جاهدة لطرد كل ما يعكّر صفوه في حياتهما . باتت جوليات النّفس الذي يتردد في صدره ، بل الروح التي يحيا بها .
في أحد الأيام جاءه هاتف يخبره بأنّ جوليات تعرّضت لحادث و هي الآن في الإنعاش في أكبر مستشفيات العاصمة التي يسكنها ، جنّ جنونه و كاد يفقد عقله ، و انطلق مسرعا إلى هناك ، و عندما وصل أخبره الطّبيب بما لم يصدّقه ، لقد قال له : إنّ صديقك يحتضر الآن ، ماذا تقول : لقد أخطأت يا دكتور إنّها زوجتي جوليات ، الطبيب : أعلم ، لكنّها في حقيقتها شاب ، و كان اسمه جورج و لقد خضع منذ سنتين إلى عمليّة تحوّل جنسي في مشفانا هذا من ذكر إلى أنثى ، و هذا شائع عندنا ! ربّما تستغربونه أنتم الشرقيون ! و للعلم لا يمكنك التمييز بينه و بين الأنثى إلا بتحاليل الدم التي تثبت ذكورة الشخص أو أنوثته .
تزلزل كيان محسن في تلك اللحظات فجثا على ركبتيه ، و قد هاله ما سمع ، و أنشأ يكلّم نفسه : جوليات رجل ، رجل ! ما هذا العالم الذي نحن فيه ؟ أهل أنا في كابوس أم يقظة ؟! أهل هذه حقيقة أم خيال ؟! لا خير في أمّة تحوّل رجالها إلى نساء و نساءها إلى رجال ، ثمّ تذكّر دعاء والدته عليه ، فأدرك أنّ سهمها قد أصابه ، فانتبه من غفلته و عاد إلى أمّه لاسترضائها ، و تزوّج سميّة بعد أن أيقن أنّ الغرب قد اختلط في عالمه الحابل بالنّابل ، و قد فاق عالم البهائم في تصرفاته و انحدارها .
السعيد محرش
الطارف ـ الجزائر ـ
من مواضيعي
0 كُـــــــــــنْ حَبـيبِـــــــــي
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 الـــتّـــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــرّد
0 النمــــــــــــــــــــــــــــر و الوشـــــــــــــــــــــــق
0 سمفـــــــــــــــونيــــــة الرّبــيــــــــــــــــــــــــع
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 صـــــــــــورة الوجـــــــــــــود
0 الـــتّـــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــرّد
0 النمــــــــــــــــــــــــــــر و الوشـــــــــــــــــــــــق
0 سمفـــــــــــــــونيــــــة الرّبــيــــــــــــــــــــــــع
التعديل الأخير تم بواسطة السعيد محرش ; 24-07-2015 الساعة 10:56 AM









