بين سحر الجرأة وشرف الكلمة.. يسكن تيه المرأة في الكتابة
01-02-2009, 12:03 AM
يكتب آدم لكل امرأة يشعر بأنه ربما قد يحبها, و يصر على البوح حتى لو صدُق احتمال النهايات الفاشلة كلها ... سوف يكتب وبعمق .. ويوصل مبتغاه بجرأة... هو آدم ومشكلته أنه يعلم بأنه مهما تجرأ في الكتابة سوف لن يلومه أحد ... قد ينجح إن كان بالفطرة كاتبا... لكنه في الأغلب لن ينجح.. لأنه بالمعاشرة نكتشف صدق الحب وليس بالكتابة ...


قد لا يكون آدم ضليعا بتطريز الحروف على مقاسات قلبه.. فيكذب كثيرا على من يصوب ناحيته سهام الحب وعلى نفسه بالنهاية... قد يقول من الكلمات ما لا يؤمن به, وقد يرسم من المشاعر ما لا يصدقه, وقد يضطر إلى استعارة روائع الشعراء أو سرقة أفكار النيرين .... وهو في الحقيقة مجرد ببغاء لا يمت للحب أو للكتابة بصلة إن اعتمد في بوحه على كلمات رسالة لم تنبع من أعماقه ولن تصل مطلقا إلى قلب من اعتقد أنه موضع حب, لأنه في وجدانه الهش لا يوجد بالكم الكافي ولا بالشوق الطافي ما يسمح بميلاد المعنى الغزير لهذا الحب المولِد عفويا لكلمات الحب.


يبطش آدم بقبضته.. ويبطش أيضا بالحروف... بالكذب... لكنه لا يُحاسب ...فهو آدم .. يطلب الكثير .. ولا يُطالب بشيء ... يحق له أن يحب ألف مرة.. من يشاء ومتى يشاء.. وأن يميل حيث الفؤاد يطيب.. صوب من تستميل أشعة عينيه أو شغاف قلبه.. يبادرها بالتحية ثم البوح ثم بالغرق في جراءة الأحلام .. ويستمر الشاعر في الكذب والكاتب في الغواية والمغامر في اللعب... سواء آمن بأنها تبادله شيئا من المشاعر أو لم يؤمن ... سواء علم بأنها تعتز بما يحيك من كلمات تبنى بشوق .. أو أنها فقط تقبل به كمجرد ببغاء يتغنى بشعره المشبوه بالسرقات حينا أو المستعار بوقاحة حينا آخر مع استبدال الأسماء.والعبارات..
وفي كل الأحوال ... سواء صدق آدم في مشاعره أو كذب ... سواء تأدب في بوحه أو تجرأ .. سواء استباح الحدود والقيم أو استنكر في البوح الوقاحة ... سيظل واقعنا بلا تحفظ يمنحه الحق في أن يغزل مشاعره بجرأة ... بالجرأة في المبادرة ... بالجرأة في التبرير ... بالجرأة في الحلم ... بالجرأة في التعبير .. بالجرأة في الصراخ بأعلى صوته ... أحبك...


هل الحب سهل إلى هذه الدرجة .. كم مرة قلت هذه الكلمة يا آدم؟, كم امرأة أسمعتها إياها مذ سمعت أنت قلبك ينبض .. أتلقيها هكذا في كل مرة, وبكل جرأة, وفي كل مكان, وفي كل زمان, وفي كل تجربة حب عابرة سواء كنت أنت من صنع هذه التجربة أو أن الأقدار اصطفتها لك ... أسألك يا آدم, كم مرة يفترض بك أن تحب؟... هل تقبل حواء بمبدأ التعددية في الحب؟ هل جننت يا آدم؟ هل أنت جريء إلى هذا الحد؟... لم كل هذه الأسئلة؟


يجب أن أحدد جيدا مصطلح الجرأة الذي أقصده وما أقوله لا يُلزمني إلا أنا بتبني جوهره, لأن مصطلح الجرأة عندي مكلل بأطنان من القيود ... يكفي أن تكون كلمة "أحبك" عندي جرأة, جرأة محمودة, حين تقولها بإيمان فأنت جريء ... وإن كررتَ قولها لكل من اعتقدت أنك قد ... قد تحبه فأنت جريء مغامر, وإن أسهبت في وصفها فأنت جريء متمرد, وإن ألقيتها هكذا بلا قيود ولا تفكير لكل من هب على قلبك ودب فأنت برأيي جريء بلا قيم... إذا كانت هذه الكلمة مسؤولة عندي إلى هذا الحد فهي تلزم آدم بنظري بأن يتحرى الصدق حين يفكر بالبوح بهذه الكلمة, وأن يفكر ألف مرة قبل أن يهديها لمن يحب, وألا يتسرع في فضحها كحروف وهمسات كي لا تنقلب عليه لو لم يصمد ذلك الحب إلى ألم وحسرات... أتحدث عن آدم كآدم, فماذا لو تحدثت عنه ككاتب مسؤول عن كل عين سوف تقرأ أدبه وروحه وأفكاره ... الجرأة في الكتابة خطيرة جدا.. خصوصا إذا سقطت عن حروف الكاتب رائحة الأدب, فتصبح الرسالة العطرة, مغامرة قذرة ...


لكن آدم لا يهتم .. ويظل يغامر .. ويظل يحب ولا يشبع .. ويستل بانفعال شجاعة الذكر كي يبوح, ويغزوه غرور الرجولة لحاجة المرأة إليه, ثم يسلمه بعد ذلك هذا المجتمع المنحل جل أسلحة التملك فلا يتردد أبدا في استعمال سيف الجرأة ... وأي جرأة.
أين صوت حواء .. لا أسمع همسا ... لماذا تصمت المرأة ؟؟؟
ويظل واقعنا وبلا تحفظ يحرمها من الحق .. وكل الحق ... في أن تبادر .. في أن تبوح .. في أن تعبر عما يسكن وجدانها مثلها مثل شقيقها آدم .. أستغرب لماذا لا تفعل... وقلبها لا يضعف عن قلبه في شيء .. فكلا القلبين ينبض... لهما نفس الكريات من الدم .. ونفس التصميم العضلي .. ونفس الميكانيزم في الوظيفة والعمل ... لكنه لا يحق لها عشر ما يحق له من اعتراف وبوح وتعبير .. أما الجرأة فهذا المحظور الأبدي ... في منظور مجتمع لا يزال يؤمن -وأتمنى أن يظل- بأن المرأة الشرقية والأصيلة والنبيلة والمحافظة والشريفة لن تبوح في الحياة كلها بمكنونات قلبها إلا لرجل واحد, ذلك الذي تؤمن فعلا وتتيقن أنه أصبح قمرها ونجومها , سماءها وشمسها .. صبحها ومساءها, نهارها ولياليها ...


وتظل المرأة الروح وديعة ساكنة, تقبل بكل رضى في سواد النساء الأعظم لهذا المجتمع الشرقي أن تكون كذلك .. وأن تحيا كذلك .. رزينة متينة .. تنتظر الغد بصمت .. بألم .. وبصبر.. وبفخر .. تحلم بأن تهبها إرادة السماء ذلك القلب الذي سيمنحها هذا الحق الوجداني في البوح المشروع وذاك الانطلاق لتأججها الشعوري المحبوس ... هي مؤمنة .. وحسبها أن هذا اليقين شرف لها تناله كلما صبرت واحتسبت صبرها عند ربها, لتخالف بذلك في الجوهر والفطرة والسكينة تمرد المرأة الغربية التي أراها ترجلت في أوحال التحرر ولم تعد تقبل بالقدسية في الشرف الأنثوي ولا بالأدوار النسوية المحضة, وكأنها لم تخلق لها, بل وكأنها من العار أن تظل زوجة وأما وراعية للبيت الذي يركن إليه آدم كل مساء, فيدفن حضنه في سكينتها, في صبرها, في حبها له, له وحده ... هكذا يفترض أن تكون المرأة الأصيلة التي ورثت هكذا قناعات من أمها الجميلة وجدتها الأصيلة تلك التي بنت في الأمس القريب أعظم الأسر ورعت أجمل الرجال وربت أنبل الأطفال .. هكذا يجب أن تؤمن, وأن تخلص لهذا اليقين, لأنه لو وُجد بكل هذا العمق في قلب كل امراة من كل مجتمع لانخفضت معدلات الخيانة إن لم نقل انعدمت, لأن آدم سيفقد السهولة والليونة والمرونة في اصطياد الفرائس التي تبيح له تلك الخيانة, ولقلت نسبة الفاقدين للثقة في حواء وللفاقدات للثقة في آدم, هذا الكابوس الذي لم نكن نشتكي منه في العقود الخالية, في ذلك الزمن الجميل الذي حرمنا شفافيته وبساطته وروحه الوديعة والصافية والمعطاءة, فقط لأننا لم نعد نحيا ثقافتنا, بل ثقافة الغير....
إن عامة الناس من جنس آدم لحظة يفكرون جدية في الارتباط لا يزالون بشراسة وبلا تحفظ يبحثون عن المرأة النقية من شبهات هذا التمرد الأنثوي المعاصر والذي ينفرون منه حد المقت, لأنهم يفكرون حينها بوعي فيمن يستأمنون عليها أرواحهم وأعراضهم وأولادهم ومستقبلهم الطويل, ويرون فيها أمهم وأختهم المنزهة من كل خطيئة, هذا أيضا حق مشروع لآدم, ولكن ليس لكل آدم, لأن الذي يغرز يديه في شهد النحل يستحيل ألا تدقه الدبابير... كما أن سنة الخلق التي تقول أن الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين... توقع من يلعب بذيله في شر أعماله فلا يستمتع حينا من الدهر بمغريات الحياة ليطلب في ختامها حور الجنة, إن الجزاء من جنس العمل, وإن وقع في المحظور فعليه ألا يطالب بتلك الحقوق التي لا يصونها المجتمع ولا يعطيها ولا يرعاها إلا لمن ثبتت نزاهته بشهادة السماء, إن القلوب المشبوهة في صدقها لا تجيد الكذب مطولا, والقلوب الذكية في إحساسها لا تخدع أبدا.. ومن شعر يوما انه قد خدع أو صدم في قلب ما فليعلم أنه لم يكن ذكيا بما فيه الكفاية أو أنه كان يشعر بالشبهة ويلامس الخطيئة لكنه يغض الطرف, ويقبل بالمغامرة فقط ليحظى بشيء ما كان يتخيل أنه قد يحرم منه...


ماذا لو اعتنقت المرأة شعار الجرأة الذكورية, وراحت تنافسه في كل مكان بامتهان ذلك الخداع الشعوري, في غواية الشعر ومتعة الكتابة, بدعوى المساواة في كل شيء, بدعوى الانتقام لأنوثتها من آدم المخادع, أو آدم المنافق أو آدم المتسلط أو المحتكر لكل شيء.. ماذا تتوقع من ذلك الآدم والذي في نهاية الأمر لن يقبل إلا بمن تشبه أمه في الحنان أو الكرامة أو الشرف أو التبعية المستحبة واللذيذة لآدم الأب ...


قد يصيبكم بعض التناقض الظاهري في تصويري لجوهر الموضوع, فتشكون حينا بأني أركز على فلسفة الحب و الارتباط, وأحيانا على فكرة الكتابة والبوح, وأحيانا على تحرر المرأة وأخرى على إشكالية الجرأة... أؤكد لكم أن كل هذه المعاني ستصب في فكرة واحدة... إنها فكرتي حول جدوى الجرأة عند المرأة الكاتبة في مجتمع لا يزال يحارب الجرأة في الكتابة إجمالا ... وكلماتي فيما سبق واضحة ولا خلط فيها بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون, كلكم هنا تقرأون وتكتبون, الكل هاهنا بالقلم يغامر, وفي الختام كل الأصابع تبحث عن السكينة والحب, سواء كانت مرتبطة عاطفيا أوشرعيا أو لا, سواء كانت مؤمنة بقيم المجتمع المحافظ جدا أو مستسلمة لنزوات التحرر الجديد.. كلنا ههنا نبحث عن السلام.. الداخلي.


هي إذن فسحة للتخاطر بالحرف لمداعبة الحرف, وتنتهي مقدماتي كلها لتفتح المجال لأسئلتي كي تطرح من كل قاريء, على كل كاتب.. وكاتبة.. وما أنا إلا مثلكم مجرد قاريء, قاريء يتساءل:
لمن تكتب المرأة؟ .. وان حق لها الكتابة لامتلاكها الفنية في رسم المشاعر هل يحق لها الجرأة في اختراق ذكورة البوح؟ هل الجرأة في الكتابة حكر على آدم؟ هل يسمح المجتمع لهذه المرأة الكاتبة أن تعبر بطلاقة كاملة وانعتاق قد يصفه البعض بالسافر من كل الأعراف والقيم والقيود؟ إذا تمردت المرأة بقلمها هل ستجد من يرحمها؟


لماذا تكتب المرأة طالما أنها تجد في كل زمان من يكتب لها؟ وان كتبت أيجوز لها أن تتقمص في هذا الزمن جرأة لم يحدث وأن تقمصتها امرأة عربية في غابر الأزمان؟ هل سمعتم يوما عن الخنساء كتبت حروفا تغازل حروف الغزل, أو أن فدوى طوقان مثلا صورت شعرا يغامر في محظورات الرجال ؟ هل كاتبات الزمن الجديد وشاعراته معفيات من قيود الشرق الذي لا يزال يصارع بل يقاتل للحفاظ على رجولته؟ هل نـَـصفهن بالذكيات والقويات والجريئات لأنهن حطمن جدار الصمت بتطرقهن لجل الطابوهات؟ أم نحكم عليهن بما يحكم به كل آدم متطرف في ذكورته يريد أن يظل محتكرا للسيادة في كل شيء, حتى في المشاعر وفي الحروف وفي القلم ؟


أملي أن تفتح لكم هذه الحروف بعض الشهية لتنزف أقلامكم ببعض ما تشعرون به اتجاه هذه الكتابة التي أصفها في هذا المقال بالأنثى, الأنثى في روحها حين تنساق مصاغة بحروف حيية بينما تحاك وجهتها جريئة كالرجل.. لي كرجل... إنها الكتابة التي لم تعد بالضرورة ملكا للرجل ولا حكرا عليه.. لا يؤلمني هذا, فتلك الكاتبة –وان كانت جريئة- أعتبرها أختي في القلم.. لكن الذي يؤلمني هو الأفظع من ذلك.. حين لا تبقى الكتابة أصلا حكرا على من نصفهم بالكتاب والكاتبات, بل تصبح مطبا يسقط فيه كل من يجوز وصفهم بالجريئين والجريئات فيوقعون معهم كل من يقرأ لهم, أولئك الذين يخطون غالبا ما لا يجيدون فهمه فيهدم المقصود ولا يبني, أو يخوضون عموما فيما لا يجوز الخوض فيه لأنه ببساطة ينافي قيم المجتمع وأسس المبنى ... فتصبح الحروف بلا معنى .. والكتابة بلا رسالة .. والأدب بلا قيم .. ثم يصبح في الختام مجتمعنا العربي غابة من المائعين السذج تتحكم فيه الأسماء العملاقة والصفحات الجريئة وبعض شاشات السينما, دون أن ننسى طبعا جل شاشات الكمبيوتر, وتـُـبيَض أرواحنا من وراء البحار فقط لأنه سقط في أوطاننا عن الكتابه -وباسم الجرأة- قيمة الأدب... ورسالة الأدب.


--------------------------------------
سليم مكي سليم – الجزائر – مايو 2008


الـمـبـحــر عـلـى عـتـبــات الـحــرف ... يـكـتـب لـكــم
سليم مكي سليم :: فهرس المواضيع

إذا أردت أن تبقى حيا بعد أن تموت .. فاكتب شيا يستحق أن يـُـقرأ .. أو افعل شيئا يستحق أن يـُـكتـَـب عليه.
My A r t Gallery on Deviantart