أهمية دراسة السيرة وحكمتها في الإسلام .
20-11-2008, 04:34 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الكرام ؛ في دروسٍ سابقة تحدَّثنا عن التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وفي عشرين درساً تحدَّثنا عن عشرين تابعياً ، حيث عُرضت جوانب من شخصياتهم ، ومن مواقفهم ، ومن سموِّهم ، وقبلها كان الموضوع حول الخلفاء الراشدين ، وقبل الخلفاء الراشدين كان الموضوع حول صحابة رسول الله .
والآن ننتقل إلى نوعٍ جديد من ألوان السيرة النبويَّة ، ألا وهي شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم .
وقبل كل شيء يمكن أن نتناول حياة النبي بحسب التسلسل الزمني ، وهذا هو المنهج عند أكثر كُتَّاب السيرة ، وهناك منهجٌ آخر ، وهو أن نتناول من شخصية النبي جوانبه المتعدِّدة ؛ رحمته ، وعلمه ، وأخلاقه ، وحلمه ، وشجاعته ، وعفوه ، وما إلى ذلك ، لذلك نبدأ الدرس الأول من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقبل أن ننتقل إلى شمائله واحدةً واحدة لابدَّ من مقدِّمةٍ دقيقةٍ حول وجوب دراسة سيرة النبي ، ودراسة شمائله ، وما الدليل على ذلك ؟
إخواننا الكرام ؛ ما من حركةٍ يتحرَّكها الإنسان إلا ولها حكمٌ شرعي ؛ إما أنها فرض ، وإما أنها واجب ، وإما أنها سُنَّة ، وإما أنها مباحة ، أو مكروهة كراهة تنزيهيَّة ، أو كراهة تحريميَّة ، وإما أنها حرام ، فالمؤمن أيَّة حركةٍ يتحرَّكها ينبغي له أن يعرف حكم الشرع فيها ، يا ترى قراءة سنة النبي ، وسيرته ، وحضور هذا المجلس ، يا ترى مباح ، أم واجب ،أم مستحب ، أم فرض ؟ وما الحكم الشرعي في معرفة سُنَّةِ النبي ؟
وإذا قلنا : سنة النبي ، فيجب أن تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم له أقوال ، وأفعال ، وإقرار ، فإذا حصل شيء أمامه ، وبقي ساكتاً فهذا صحيح ، لأن النبي مشرِّع ، وسكوت النبي دليل إقراره لما يجري .
عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : ((طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ قَالَ وَمَا يُدْرِيكِ قُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ قَالَتْ وَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ذَاكِ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ)) .
( البخاري)
الآن إذا قلنا : فرض ، فما معنى الفرض ؟ أي يعاقب تاركه ، ويثاب فاعله ، والفرض له أدلَّة في القرآن الكريم ، فما الدليل على أن معرفة سنة النبي فرض ؟ والفرض نوعان كما تعلمون ؛ فرض عين ، وفرض كفاية ، فلو فرضنا أنّ مؤمنين مسلمين في بلد يفتقرون جميعاً إلى اختصاص معيَّن ، وتعلُّم هذا الاختصاص فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكُل ، فعلم المواريث فرض كفاية ، يكفي الشام خمسة علماء مواريث ، وعلم التجويد فرض كفاية ـ والتبحُّر في علم التجويد ـ لكن تلاوة القرآن تلاوةً صحيحة فرض عين ، لقوله تعالى :
( سورة المزمل )
( سورة البقرة : من الآية " 121 " )
( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )
( سورة محمد : من الآية " 19 " )
ينبغي أن يكون علمك يقينياً مع الدليل الإجمالي والتفصيلي ، وبإمكانك أن تردَّ الشبهات ، فما معنى العلم ؟ العالِم يعرف الحقيقة ، ويعرف البرهان عليها ، ويستطيع أن يردَّ الشبهات التي تُطرح فيها ، فهذا العالم ، وقياساً على :
يقول الله عزَّ وجل :
( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )
لقد تزوَّج السيدة خديجة ، وهي أكبر منه بخمسة عشرَ عاماً ، وعاش معها ربع قرن ، ولم يفكِّر في امرأةٍ أخرى ، فلو أنه كان مزواجاً -كما يقولون - أو يحب النساء لاختار من أجمل فتيات قريش ، وهو من أرومتها عليه الصلاة والسلام ، إذاً قوله تعالى :
( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )
هناك افتراءات كثيرة كقولهم : هذا الإنسان عبقري ، لا ليس عبقرياً ، بل هو نبي ورسول ، ذكي ، لا ، هو ذكي ولكن هذا الوصف لا يليق به ، يليق به أنه رسول الله يوحى إليه ، فالأجانب دائماً يريدون أن يخلعوا عن النبي صفة النبوَّة والرسالة ، وأن يصبغوه بصفة الإصلاح ـ مصلح كبير ، عبقري ، شخصيَّة فذَّة ـ هذا كله لا نقبله ، إنه عبدٌ من عباد الله سبق الخلق طُرًّا ، وكان في قمة البشريَّة معرفةً ، وطاعةً ، وإنابةً وإقبالاً ، فاصطفاه الله على علم ، وجعله سيِّد الخلق ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)).
( رواه مسلم )
( سورة المؤمنون )
هناك حضٌ على معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام .
والدليل الثالث ، يقول الله عزَّ وجل :
( سورة التغابن )
وشيء خطير أقوله لكم : العقل البشري ضمن إمكانيته أن يوصلك إلى الله ، وإلى كتابه ، وإلى رسوله ، بالعقل ؛ أن تؤمن بالله من خلال هذا الكون الذي هو مظهرٌ لأسماء الله الحسنى ، أن تؤمن بكتاب الله من خلال إعجازه ؛ الإعجاز العلمي ، والبياني ، والإخباري ، والتشريعي، والتربوي ، الإعجاز هو أكبر دليل على أن هذا الكلام كلام الله .
هناك إعجاز إخباري ، وفي القرآن غيب الماضي ، وغيب الحاضر ، وغيب المستقبل ، وإعجاز علمي ، و سمَّاه العلماء : ( السبق العلمي ) ، أي إن القرآن أشار إلى حقائق ما كان يعرفها أحدٌ إلى الآن ، هذه الحقائق يستحيل على البشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يصلوا إليها ، فأنت تؤمن بالقرآن من خلال الإعجاز ، وتؤمن بالنبي من خلال القرآن ، فالذي جاء بهذا القرآن المُعجز هو رسول الله ، إذاً عندما قال ربنا:
( سورة التغابن : من الآية " 8 " )
وعندنا دليل رابع :
( سورة هود : من الآية " 120 " )
الدليل الخامس :
( سورة سبأ : من الآية " 46 " )
الدليل الأول :
( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )
( سورة المؤمنون )
( سورة التغابن : من الآية " 8 " )
( سورة هود : من الآية " 120 " )
والدليل الخامس :
( سورة سبأ : من الآية " 46 " )
( سورة الضحى )
( سورة النجم )
( سورة العلق )
( سورة الأعلى )
( سورة النساء )
( سورة فصلت : من الآية " 6 " )
( من صحيح البخاري عن أبي هريرة )
وعندنا دليل من نوع آخر ، وهو قاعدة أصوليَّة : ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، الوضوء فرض ، والوضوء ليس صلاةً ، ولكن لأن الصلاة لا تتم إلا به ، والصلاة فرض ، فالوضوء فرض ، هذه قاعدة : ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
والآن يقول الله عزَّ وجل :
( سورة الحشر : من الآية " 7 " )
( سورة التغابن : من آية " 8 " )
( سورة الحجرات : من آية " 7 " )
( سورة الحشر : من الآية " 7 " )
( سورة الأحزاب : من آية " 12 " )
( سورة الحشر : من الآية " 7 " )
( سورة الأحزاب : من الآية " 12 " )
( سورة آل عمران : من آية " 13 " )
أما كل الدعاوى التي تقول : إن فلانًا يحب الله ، ولا يتبع سنة النبي ، فهذه دعوى باطلة زائفة ، وهذا نوعٌ من الدجل ، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول :
( سورة الأعراف )
وأصحاب النبي عليهم رضوان الله أقبلوا على النبي إقبالاً عجيباً ، وتعلَّقوا بمحبَّته تعلُّقاً شديداً ، بل إنهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تقليده في كل أفعاله ، لذلك قالوا : " عادات السادات سادات العادات " أي أن أرقى عادة أن تقلِّد نبياً أو رسولاً ، وعاداته ، وأحواله ، أطواره ، في بيته ، ومع إخوانه ، وحتى العادات ، لأنّ عادات السادات سادات العادات ، فكيف بعادات سيِّد السادات النبي عليه الصلاة والسلام ؟
أيها الإخوة ؛ الوجه الأول هناك أمرٌ مباشر لمعرفة النبي ، وهناك أمرٌ مباشر لاتباع النبي ، واتباع النبي يقتضي معرفة سنته ، ويقتضي معرفة سيرته .
وعندنا أمر ثالث ، وقد يبدو لكم غريباً ، أما فهو مألوف عندكم ..
( سورة التوبة : من آية " 24 " )
لذلك فالحقيقة لن تحب النبي أكثر من هذه الأشياء إلا إذا عرفته ، أما إذا لم تعرفه فلن تحبه ، وإذا أحببته باللسان ، فالمعوَّل على ما في القلوب ، وما يقوله اللسان لا قيمة له إطلاقاً ، لذلك ربنا عزَّ وجل في أكثر الأحيان يقول : [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمُ] ، عقب آيات الدعاء ، أي إنه سميعٌ لأقوالكم ، ولكنَّه عليمٌ بما تنطوي عليه القلوب ، إذاً ما دام الله عزَّ وجل يأمرنا أن نحب النبي أكثر من آبائنا فكيف ذلك ؟
هذه المرأة الأنصاريَّة تبدو غريبة ، فقد بحثت عن أبيها عقب معركة أُحُد ، فإذا هو مقتول ، ورأت ابنها مقتولاً ، وأخاها مقتولاً ، وزوجها مقتولاً ، وتقول : " ما فعل رسول الله ؟ " ، إلى أن وصلت إليه وأمسكت بطرف ثوبه وقالت : " يا رسول كل مصيبةٍ بعدك جلَل)) .
(تاريخ الطبري(2/74) ، والسيرة النبوية لابن هشام(4/50) عن سعد بن أبي وقاص)
هذا الوضع يبدو لكم نادراً ، وهذا هو الأصل في الإيمان ؛ أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك ، وأبنائك ، وزوجتك ، وعشيرتك ، وتجارتك ، ومسكنك ، وأموالك كلها ، لكن كيف تحب النبي أكثر من هذه كلها ؟ لابدَّ من معرفته .
لو سألنا علماء النفس هذا السؤال : الإنسان من يحب ؟ من الذي يحبه ؟ لقالوا : الإنسان يحب الكمال والجمال والنوال .
أي إن الإنسان الأخلاقي محبوب ، فالعفو محبوب ، والكريم محبوب ، والعدل محبوب ، والإنسان يحب مكارم الأخلاق ، وإنْ لم يكن له علاقةٌ مباشرة مع هذا الإنسان الكامل ، فلو سمعت عن رجلٍ في أعلى درجات القوة ، واستفزَّه إنسان ، وعفا عنه ، سوف تعجب من هذا الخُلُق ؟ فالإنسان يحب الكمال ، ويحب الجمال ، ويجب النوال ، ولو أنّ إنسانًا دميمًا أعطاك ثمن بيت ، وقال لك : اسكن في هذا البيت ، يمكن أنك لن ترى أجمل منه ، بل تحبه حباً لا حدود له ، فما دام الإنسان يحب الكمال ، ويحب الجمال ، ويحب النوال فالنبي عليه الصلاة والسلام كمالٌ ، على جمال ، على نوال.
و َأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَ أجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشـاءُ
* * *
فالآن أنت مسلم ، أي إن عقيدتك صحيحة ، فهذا النبي الكريم عرَّفك بالله ، وبالمنهج ، وبالطريق الموصلة إلى الله عزَّ وجل ، وبمكارم الأخلاق ، فكان قدوة لك بالعفو ، والرحمة ، والصبر ، والشجاعة ، وبالبذل ، والسخاء ، فإذا كنتَ على شيء من الكمال ، وعندك عقيدة صحيحة ، وتصوُّر صحيح ، ومنهج قويم ، وشعور بالرضا ، هذا كله من فضل النبي عليه الصلاة والسلام ..
( سورة النور : من الآية " 21 " )
( سورة النساء )
وهنا أمرٌ رابع ، هؤلاء الذين لم يشاهدوا النبي ، ولم يلتقوا معه ، ولم يُتَح لهم أن يروه رأي العين ، هؤلاء الذين سمعوا به ، كيف يمكن أن يأخذوا الحد الأدنى من معرفته ؟ إذا قرؤوا سيرته ، وأوصافه ، وشمائله فكأنك تراه بعينك ، فصارت معرفة سيرة النبي هي البديل من أن تراه بعينيك ، أو أن تلتقي به .
هذه أيها الإخوة ، بعض الأدلَّة التي يمكن أن تكون أدلَّةً قطعيَّةً تدفعنا إلى معرفة النبي ، وفي الأخير دليل عملي ، يقول الله عزَّ وجل يخاطب النبي :
( سورة التوبة : من الآية " 103 " )
( سورة الأحزاب )
( سورة التوبة : من الآية " 103 " )
وقال تعالى :
( سورة الأحزاب )
( سورة الحجرات : من الآية " 7 " )
( سورة التغابن : من الآية " 8 " )
( سورة المؤمنون : من الآية " 69 " )
( سورة سبأ: من آية " 46 " )
عَنِ الْبَرَاءِ يَقُولُ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ)) .
( رواه البخاري)
( رواه مسلم عن البراء )
(رواه الإمام أحمد)
( من مجمع الزوائد : عن " حبيش بن خالد " )
فهذه الشاة الضعيفة الهزيلة درَّت ، فحلب فيها ثجًّا ، أي كميَّةً سائلةً غزيرةً ، حتى ملأه ـ ملأ هذا الوعاء ـ فسقى أم معبد ، بمن بدأ النبي ؟ بصاحبة الشاة ، فسقى أم معبد ، وسقى أصحابه فشربوا عللاً بعد نهلٍ ، أول شربة والثانية ، معنى هذا أنهم جائعون ، حتى إذا رووا شرب صلى الله عليه وسلَّم آخرهم ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا)).
(مسلم ، والترمذي)
قال : ثم ارتحلوا ، فما لبثت إلا قليلاً حتى جاء زوجها أبو معبد ، يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هُزْلى ، فلما رأى اللبن عجب وقال : " من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوب في البيت ، والشاء عاذب ؟ ـ أي ما ذهبت إلى المرعى ـ " . فقالت : " لا والله إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك ، كان من حديثه كذا وكذا " ، وفي روايةٍ : " كيت وكيت " . فقال : " صِفِيِه يا أم معبد " ، قالت :" رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، حسن الخلق ، مليح الوجه ، لم تعبه ثَجْلَة ـ الثجلة كبر البطن ـ ولم تزرِ به صعلة ـ أي صغر الرأس ـ قسيمٌ وسيم ـ أي يجمع من كل حسنٍ قسماً ، وهو وسيم أي جميل ـ في عينيه دعجٌ ـ الدعج هو شدة سواد حدقة العين ـ وفي أشفاره وطفٌ ـ أي كثرة شعر الحاجبين والعينين ـ وفي صوته صحلٌ ـ أي بحَّةٌ محبَّبة ، في بحَّة بالصوت جميلة جداً ـ أحور ـ أي شدة بياض العين وسوادها ـ أكحل ـ سوادٌ في أجفان العين خلقةً ، كأنهم مكحَّلين ـ أزجُّ ـ أي دقيق طرف الحاجبين ، حواجبه دقيقة ـ أقرن ـ أي متصلة ـ في عنقه سطعٌ ـ أي ارتفاع عنقه طويلة ، وهذه صفة بالإنسان محبَّبة ـ وفي لحيته كثاثة ـ شعره كثيف ـ إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلَّم سما وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، كلامه فصلٌ لا نزرٌ ولا هدرٌ ، كأن منطقه خرزات نظمٍ ينحدِرن ، أبهى الناس وأجملهم من بعيد ، وأحسنهم من قريب ، ربعةٌ لا تشنأه عينٌ من طولٍ ، ولا تقتحمه عينٌ من قصرٍ ـ لا هكذا ولا هكذا أي أنه معتدل ـ فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قداً ، له رفقاء يحفُّون به ، إن قال استمعوا لقوله ، وإن أمر تبادروا لأمره ، محفودٌ محشودٌ لا عابثٌ ولا مفنِّد " .
قال أبو معبد : " هذا والله صاحب قريش الذي تطلب - في أثناء الهجرة - ولو صادفته لالتمست أن أصحبه ، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً " ، ثم هاجرت مع زوجها إلى النبي ، وأسلما .
روى الإمام مسلم والترمذي عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ قُلْتُ لَهُ : ((أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ نَعَمْ كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ سَنَةَ مِائَةٍ وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) ، وفي رواية عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ : ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا)) .
(مسلم)
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الناس وجهاً ، وأنورهم محيَّا ، اجتمعت كلمة الصحابة الذين وصفوه على أنه كان منير الوجه مشرق المُحَيَّا ، فمن الصحابة من ضرب المثل لبهاء نوره ، مثَّله بالشمس فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : ((مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي جَبْهَتِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ)) .
(أحمد)
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ : صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : ((يَا بُنَيَّ لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً)) .
(رواه الدارمي)
على كلٍ فهو كما قال حسَّان بن ثابت :
و َأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَ أجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشـاءُ
( أحمد)
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديلٍ على قبر المجوسِ
* * *
ولا نريد أن نطيل عليكم في موضوع الأوصاف الظاهريَّة للنبي عليه الصلاة والسلام ، والله عزَّ وجل خلقه بالكمال المطلق ، لكن الذي يعنينا أن نتبع سُنَّته .
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نصل إلى الحديث عن شمائله واحدةً واحِدةً بشكلٍ تفصيلي ، والله سبحانه وتعالى الموفِّق .
والحمد لله رب العالمين
* * *







