بدوي في بوتقة السياسة....بقلمي
19-12-2008, 08:07 AM
كان هناك رجل إسمه مخلوف يعمل في فلاحة الأرض وتربية الأبقار والمواشي ولا يعرف غير هذه المهنة فقد ورثها أبا عن جد ولأنه لم يدخل المدرسة في حياته فهو لا يعرف حتى كتابة إسمه ولا يعرف تاريخ ميلاده فهو جاهل لشتى أمور الحياة إلا بعض أمور الزراعة التي إكتسب منها خبرة علمته إياها الحياة البدوية وقد ربى مخلوف أولاده على ما تربى عليه فهو لا يعترف بعلم ولا مدرسة أما عن دوائه عند مرضه أو أحد أولاده فهو يعتمد على الأعشاب البرية التي يشتريها من السوق . فالمرض ليس عنده معنا في حياته وهو يسمي المرض كسلا متعمدا وهو لا يعترف به إلا عند ما تمرض أحدى أبقاره فيبيت الليل ساهرا حتى الصباح أما أولاده فلا يبالي بهم ولا يكترث لحالهم عند مرضهم فقد حدث مرة أن صادف مرض أحد أولاده مع مرض بقرة من أبقاره فجلب البياطرة للبقرة أما إبنه فبقي طريح الفراش ولم يكترث به
أما عن ماله فقد كان يملك مالا كثيرا بحكم تجارته في تربية المواشي والأبقار وبيعها في الأسواق فخبرته واسعة في هذا المجال أما عن أصدقائه فكانو قليلون لقسوته وألفاظه الجارحة السوقية التي يتلفظ بها حتى أمام زوجته وأولاده
وذات مرة عندما دخل أحد المقاهي في السوق بادره أحد الشباب أهلا السي مخلوف تفضل تدفع ثمن القهوة أم أدفعها؟ أعرف أنه ليس لديك نقود تفضل فسأدفع ثمن القهوة.فبادره بغضب شديد وبنخوة عربية تخبر عن بدوي أصيل ولكنه جاهل وهو يشير إليه بعصاه التي ترافقه دائما في سيره .أنا لا أملك ثمن القهوة ؟ وقال لصاحب المقهى كل من شرب قهوة فهي على حسابي . فأحمر وجه السائل وعلم أنه قد وقع في ورطة كبيرة فأمسك بتلابيب برنوس مخلوف قائلا :إجلس يا مخلوف فعندي موضوع يهمك وما كانت هذه إلا فكرة منه ليخرج من الورطة التي وقع فيها بسؤاله المتبجح فقال مخلوف مفتخرا وماهو وهو يقابله على مقعد خشبي فقال : الإنتخابات البلدية على الأبواب فلما لا تترشح لتصبح رئيس بلدية؟ فقاطعه مخلوف ماذا رئيس بلدية ؟ فأعجبته الفكرة ولكن هناك عائق فهو جاهل لا يعرف الكتابة والقراءة فكيف يصير رئيس بلدية؟ فبادره صاحبه قائلا : ومادخل القراءة والكتابة فهذا ليس شرطا فأنت تملك المال الكثير وهذا يرشحك لهذا المنصب . فنهض مخلوف مغتبطا وهو يقول أحقا ما تقول ؟ فأجابه صاحبه أسرع يارجل فلم يبقى من الوقت إلا القليل .
عاد مخلوف إلى بيته وطرح الفكرة على أولاده فظحكو حتى أستلقو على ضهورهم ونصحوه بأن يترك هذه الفكرة الغبية فهو جاهل ولا يتقن إلا الفلاحة. فخرج غاضبا وهو يقول ما كان لي أن أشاوركم في أمر لا تعرفون عنه شيئا
خرج الشيخ مخلوف من بيته وذهب إلى أحد أصدقائه ليستشيره في أمر ترشحه لرئاسة البلدية ففكر صديقه قليلا ووجد في الأمر بعض التسلية له ولبعض أصدقائه فقرر أن يتابع الأمر فنصحه للترشح فهذه فرصة سانحة حسب رأيه . أعجب مخلوف برأي صديقه ودعاه مع بعض أصدقائه للعشاء عنده الليلة. وهم على مائدة العشاء بدؤوا يتغامزون ويضحكون من الأمر مخلوف الجاهل يترشح للبلدية فينفجرون ضحكا فيستفسرهم في أمرهم فيتعللون ببعض الحكايات والنكت
بدأت الإنتخابات والتجمعات في الساحات العمومية ليطرح كل مترشح مشروعه عندما يترأس البلدية .فكان ممن ترشح الأطباء والدكاترة والأساتذة والتجار وكلهم عزم على إفتكاك منصب رئيس البلدية فهم يحسنون الكلام بالعربية الفصحى أما مخلوف فكان حقا بارعا في الوعود ولكن بلهجته العامية التي يفهمها أبناء البلدية فكانت ورقة رابحة في صالحه زيادة على ذلك الحفلات والوعدات التي تبدأ بالشواء والكسكسي لتنتهي باغناء والزرنة فكانت تجمعاته من أكبر التجمعات فكان الكل يحسده عليها منهم الدكاترة والأساتذة ولكن لا خبرتهم ولا فصاحتهم شفعت لهم في إستقطاب جمع من الناس مثل الذي يستقطبه الشيخ مخلوف .فكل الناس تتبع الولائم والحفلات التي يقيمها بماله الكثير وهم غير قادرين على مجاراته لقلة ذات أيديهم.
بات الشيخ مخلوف ليلته مستيقضا يفكر في أمره فغدا يوم الإستفتاء وفجأة تبادرت إلى ذهنه فكرة فأيقض أحد أولاده وحمل صرة كبيرة من المال وطاف على أهل البلدية موزعا لكل نصيبا من المال وأمرهم أن يتذكروه غدا عند التصويت فكان كل من يقبض المال يتعهد للشيخ مخلوف بصوته وصوت أولاده وعائلته ولم يعد إلا في الساعات الأولى للفجر
في الصباح قصد المواطنون مكاتب الإقتراع فكان الشيخ مخلوف أمام مركز الإقتراع يوصي الناس بأن ينتخبوه فهو مستقبلهم الموعود . أغلقت مكاتب الإقتراع وبدأت عملية فرز الأصوات والكل في ترقب نهاية الفرز
إنتهى الفرز معلنا عن فوز الشيخ مخلوف بالأغلبية الساحقة .فأقام حفلا بهيجا لمدة أسبوع وبدأت الوفود بالوصول لتهنئة الشيخ مخلوف بالفوز ومنهم الذين نصحوه وهم محتارون في هذا الفوز فقد أخذوا أمر ترشحه على محمل الفكاهة والتسلية فها هو ذا مخلوف قد أصبح رئيس بلدية ولكن لا عجب في منطقة يحكمها المال قبل العلم وكل شيئ يشترى بالمال
بدأ الشيخ مخلوف في تسيير البلدية فكان قد وضع كاتبا يقرأ له الرسائل والمشاريع ويترجمها إلى اللهجة العامية البسيطة . فكانت جل إهتماماته بالمصالح الفلاحية فأزدهرت الفلاحة وركدت مستوايات التعليم التي لم يكن يبدي لها أي إهتمام .وقد كان يستعمل وسائل البلدية لمصلحته الشخصية فلا فرق بين مصلحته ومصلحة البلدية فهو رئيسها فهي ملكه الخاص حسب علمه المحدود.
بدأ السي مخلوف في تسيير البلدية بطريقة عشوائية تفتقر لأدنى خبرة فقد كان بسذاجته يعمل أي شيئ يأتي على خاطره وذات مرة دعاه مدير الثانوية ليلقي خطابا أمام الطلاب بمناسبة يوم الطالب.فلما دخل الثانوية وجد الطلاب في انتضاره فوقف على المنصة وقال بلهجته العامية البسيطة وبدون مقدمة ولا سلام: (ماذا أقول لكم لقد وفرنا لكم الحليب عن طريق الأبقار التي نشتريها من الأسواق خارج البلدية فما عليكم إلا أن ترعوها في الأماكن الخصبة) ونسي أنه يكلم الطلاب بمناسبة يومهم العالمي وأندمج يحدثهم عن الفلاحة والمواشي والأبقار .ولم يتوقف حتى أوقفه مدير الثانوية وهو يتصبب من العرق . وبدأ المواطنون في التذمر من الحالة التي آلت إليها بلديتهم من الإهمال والتسيب فلا ماء ولا كهرباء ولا طرق معبدة فكل وسائل البلدية يستعملها في مصالحه الخاصة مثل المزارع والآبار. أما عن مجلس البلدية فقد إنسحب أعضاءه منذ مدة لأنهم لم يحتملو تصرفات الشيخ مخلوف فهو لا يستشيرهم في صغيرة ولا كبيرة.
بدأت الإنتخابات البرلمانية وترشح الشيخ مخلوف لهذا الموعد الإنتخابي .وبدأ أعضاء البلدية في التخطيط لإقتلاع هذا الرجل الجاهل من البلدية ولو حتى بترقيته كنائب في البرلمان المهم أن يرحل من البلدية ويترك لهم الأمر ليصلحوا ما يمكن إصلاحه مما خلفه الشيخ مخلوف.
إنتهت الإنتخابات البرلمانية وفعلا نجح الشيخ مخلوف في دخول قبة البرلمان وأصبح يمثل الشعب .وقد إستبشر أهالي البلدية برحيله فأقامو الحفلات والأفراح.
بدأ الشيخ مخلوف مهمته الجديدة كممثل للشعب ومن مواقفه الطريفة في البرلمان فقد سأله رئيس البرلمان عن تاريخ ميلاده فأجاب أنه ولد في عام المجاعة فأنفجر النواب بالضحك ولكن ما لعمل فهذا نائب أنتخبه الشعب وهو يتمتع بحصانة برلمانية .أما مداخلاته فكانت تندرج في المجالات الفلاحية فقد أرهق وزير الفلاحة حتى أصبح يتحاشى أسئلته الساذجة
وقد دخل السي مخلوف كما أصبح يسمى في شراكات تجارية عديدة لا يعلم التصرف في وثائقها ولا الخروج من متاهاتها فكون شركاءه ثروة على حساب سجله التجاري المتخصص في الإستيراد والتصدير فوجد نفسه مدانا للظرائب بمبالغ كبيرة لم يستطع تسديدها فرفعت عنه الحصانة البرلمانية ليقدم للعدالة بتهمة التهرب الظريبي ليلقى في السجن لعدة سنوات وعند خروجه من السجن وجد كل أملاكه قد حجزت لتسديد ديونه الظريبية ليفقد البقية الباقية من عقله ولم يبقى له إلا الرداء الذي يرتديه وأسمه الذي بقي ملتصقا به السي مخلوف