أصول الحرب النفسية العقائدية و الحقيقية ضد المسلمين - ف 2-4
25-01-2009, 06:58 PM
المبحث الرابع
ونظراً لأن المستوطنين بهذا السلوك يؤكدون إنهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا –نظراً لطبيعة تكوينهم النفسي والاجتماعي- أن نظرية امتصاص الشعوب التي كان الليبراليون والكاثوليك الفرنسيون يأملون أن ينشئوا من خلالها تلك الطبقة المتغربة،تمثل على المدى الطويل السياسة الاستعمارية المنطقية الوحيدة القادرة على الحفاظ –عن طريق فرنسا- على النفوذ الغربي في الجزائر..نظام المستوطنين-الرعاة والفلاحون
وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى التي اتخذها المستوطنون حين سيطروا سيطرة تامة على الإدارة الاستعمارية في الجزائر،أن يغلقوا المدارس التي أنشئوها الليبراليين والمبشرين (دعاة رسالة التمدين)في محاولتهم تكوين طبقة متغربة جزائرية والخطوة الثانية كانت تدمير من الوجهة الاقتصادية أولئك الذين اعتبروهم المصدر الأساسي للجزائريين المتغربين، أي (الدمى) الفرنسيين الذين جندهم الجيش الفرنسي ـ كما قلنا ـ من بعض عناصر السكان الريفيين، مثل السادة الإقطاعيين الجزائريين السابقين، والمنبوذين من المجتمع مثل الجنود المرتزقة سفاكي الدماء والزعماء الدينين ورؤساء الطوائف الفاسدين· وقد أبدى أندريه نوشي Andre Nouschi أن “كل الزعماء القدامى المعروفين قد أبعدوا عن مناصبهم، سواء كانوا متحالفين مع مقراني أو غير متحالفين معه".[1]
ولا حاجة بنا إلى القول بأن المستوطنين لم يلبثوا طويلا حتى اكتشفوا أنهم لا يستطيعون، هم أو الجيش الفرنسي أن يحكموا الجزائر ويستغلوا كما ينبغي مواردها البشرية والمادية دون مساعدة مجموعة كبيرة من الدمى لذلك طرأ للمستوطنين، أو بالأصح الإدارة الاستعمارية “فكرةذكية”لكي يستبدلوا بالجهاز القوي السابق من "الدمى"جهازا آخر، تتمثل في تجنيد أتباعهم من "الدمى الجدد "من بين "الرعاة"من بين أناس لا ماضي لهم، يمكن للإدارة أن تنبذهم للحال دون استثارة أي رد فعل عنيف ، وبخاصة لأن أفراد هذه الفئة مكروهون من السكان"[2] · معنى هذا في الواقع أن المستوطنين كانوا مقتنعين كل الاقتناع بأن أنجع طريقة لمنع "الدمى الجديدة" من جمع ثروات ضخمة يترتب عليها ظهور جيل جديد من الجزائريين المتغربين، هي إبقاؤهم في خدمتهم فترة زمنية محدودة ثم طردهم، كأنهم أحذية قديمة بالية، وإحلال مجموعة جديدةمن الدمى محلهم· أهم من ذلك أن “الدمى الجديدة”تجند أسوة بأسلافهم من بين العناصر التي يسميها المستوطنون "الرعاة"، أي الفلاحين الجزائريين المعدمين الذين أصيبت حالتهم الاقتصادية والاجتماعية بترد مريع نتيجة المجاعة الرهيبة التي لحقت بهم من 1866 إلى 1870 والقمع الدموي اللاإنساني الذي شنه عليهم الفرنسيون أثناء ثورة 1871 الجزائرية
على أنه مهما كانت فكرة المستوطنين الخاصة بإقصاء "دماهم"ـ كل عشر سنوات تقريبا ـ فكرة ذكية، فإنهم أي المستوطنين الذين يملكون عقلية إمبريالية نموذجية أعمتهم عن رؤية الحقيقة الواقعة، كانوا ضد عملية اجتماعية حتمية شيطانية، ذكرنا من قبل أن مقوماتها هي التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد والليبراليون والكاثوليك· وما نقصده هنا هو أن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر أو نظرائهم الأوروبيين في مناطق أخرى من آسيا وإفريقيا لا يمكنهم أن يمنعوا "دماهم الوطنيين"من أن ينتجوا من ثمة طبقة اجتماعية متغربة، دون أن يضروا في الوقت نفسه بمصالحهم المادية· ذلك لأن "الدمى"مثلهم كمثل آلة ميكانيكية لا يمكن أن تشتغل بدون وقود أو أي نوع من أنواع الطاقة، سواء كانوا من "أرقى الأسر"أو من "الرعاة"، لا يمكنهم أن يؤدوا مهمتهم القذرة بأي قدر من الفعالية دون أن “تزيت”راحة أيديهم من حين إلى حين (أي يمنحون مالا)· وكل محاولة من جانب المستوطنين لمنع "دماهم" من الحصول على نصيب عادل من الغنيمة تؤدي إلى جعل هؤلاء الناس أقل ميلا إلى بذل أقصى درجة من القسوة ضد الفلاحين التعساء الخاضعين لسيطرتهم· ويؤدي هذا بدوره إلى نقص الموارد المادية القصوى التي يرغب المستوطنون الشرهون في الحصول عليها·
خلاصة القول أن المستوطنين لم يكن لهم بد من أن يسمحوا لدُماهم أن يزدادوا غنى (بالرغم من النتائج الاجتماعية المترتبة على ذلك)، لأنه كلما زاد نصيب هؤلاء من الغنيمة زادت قسوتهم في معاملة الفلاحين بقصد حملهم على إنتاج أكبر قدر المستطاع من الموارد المادية، ومن ثم يزدادون ثراء ، هم وأسيادهم الأوروبيون وليس في وسعنا أن نتبنى الحجة التي تقول إن الأحرار أكثر إنتاجا من العبيد أو أنصاف العبيد الذين يشتغلون في ظروف مادية عسيرة وبغيظة ، ذلك لأن هذه الحجة تبدو بعيدة كل البعد عن ذهن المستوطنين·
والغريب مع ذلك أن الحجة المذكورة ليست غريبة كل الغرابة عن تفكير”دُمى “المستوطنين الذين يملكون بفضلبيئتهم الاجتماعية، فكرة عميقة عن الطبيعة النفسية للفلاحين الجزائريين المقهورين ولم يكن من العسير ـ مثلا ـ على هؤلاء الدُمى أن يدركوا أنهم يحتاجون بالإضافة إلى سلطة الإكراه البدني التي يمتلكونها إلى قدر معين من الهيبة المعنوية والدينية حتى يمنعوا الفلاحين الجزائريين من الخروج عن سيطرتهم· والشيء الذي يجب أن يفعلوه لكي يحصلوا على مثل هذه الهيبة المعنوية والدينية هو أن يقنعوا الفلاحين الجزائريين بأن المزايا الاقتصادية والأوسمة الممنوحة لهم من قبل سادتهم الفرنسيين لا تجعلهم بأية حال أقل ارتباطا بوسطهم الاجتماعي أو أقل تمسكا بالدين الإسلامي· وأسهل طريقة يتبعها “الدمية”الفرنسي لينال مثل هذه الهيبة الدينية والمعنوية هي أن يحج مرة أو أكثر في أثناء حياته إلى مكة المكرمة· والهدايا التي يعود بها من المدينة المقدسة، هذه الهدايا تتكون عادة من عمائم حريرية ثمينة وسبحات ذات خرزات نادرة، وعقاقير تقليدية، مثل ماء زمزم، وأتربة يوزعونها بالمجان على الفلاحين المرضى الأقربين إليهم· غير أنه إذا كان لهذه الهدايا تأثير كبير على عقول الفلاحين الجزائريين، فإنها من جهة أخرى تجعل أبناء “الرعاة”أكثر تشككا، وأشد التصاقا بخلفيتهم التربوية الغربية ·وثمة عامل هام آخر يجعل من العسير، إن لم يكن من المستحيل على المستوطنين أن يمنعوا “دماهم”من جمع الثروات الكبيرة، هو أن هؤلاء الناس، وفي حالة الجزائر بالذات، مضطرون إلى الحصول على نصيبهم من الغنيمة عن طريق أسلوب لا ضابط له من الاغتصاب، بسبب أن معظمهم لا يتلقون من الإدارة الاستعمارية أجرا قانونيا ثابتا، حتى "الدمى"الذين يتلقون أجرا عن عملهم، مثل الجلادين الذين يرتدون برانس حمراء،[3] كالآغا، والباش آغا والقائد وقائد القواد، يجدون أنه من الضروري الالتجاء إلى هذا الأسلوب من الاغتصاب الذي لا ضابط له· لأنهم يستطيعون، عن طريق هذا النمط القبيح من الاستغلال الآدمي، وحده دون غيره، أن يغطوا نفقاتهم الشهرية التي تزيد على أجرهم الشهري الزهيد بنسبة عشرة إلى واحد تقريبا· وفي تقرير السيد "ر. ريجاس" R.REYGASSE الممتاز وصف الكيفية التي ينفذ بها أسلوب الاغتصاب السالف ذكره· فالقائد “الذي يملك كل اختصاصات السلطة المدنية، القضائية والأمنية له [4] ـ حسب ما جاء في التقرير المذكورـ راتب شهري قدره 50 ألف فرنك فقط، في حين تزيد نفقاته الشهرية بكثير على 300 ألف فرنك· لذلك لابد بطبيعة الحال أن ينتزع هذا المبلغ من الشعب الجزائري، لأن الإدارة الاستعمارية الفرنسية لا تدفع شيئا عوضا عنه·
وبالإجمال، فإن جماعة “الدمى”الفرنسية التي يدفع أو لا يدفع لها مرتبات، والتي تحكم الألف دوار جزائري، تنتزع سنويا من الشعب الجزائري وبخاصة الفلاحين مبلغا من المال “أكبر من قيمة الضرائب القانونية، ويقدر المبلغ الذي يسلب سنويا من سكان المسلمين بـ 5 مليارات فرنك على الأقل"[5]
وفي مثال السيد بن أحمد عباس وابنه الشهير فرحات عباس الذي اخترناه جزافا لدراسة موضوعية، ما يكفي للدلالة على أن المستوطنين لا يستطيعون رغم خطتهم البارعة التي تتمثل في تغيير عملائهم “الدمى”كل عشر سنوات تقريبا أن يمنعوا هؤلاء من جمع الثروات الضخمة، وبالتالي تربية جيل جديد من الجزائريين المتغربين عن طريق دعاة رسالة التمدين·
كان سيد بن أحمد عباس (الذي لم يستطع على ما يبدو تحمل الضيق المالي الشديد الذي حاق بالألوف من الفلاحين الجزائريين المقهورين نتيجة للمجاعة المشئومة التي ألمت كما قلنا بالشعب الجزائري ما بين 1866 ـ 1870 والقمع الفرنسي لثورة 1871 الجزائرية) قد استخدم أولا كعامل عادي عند مستوطن ثري اسمه السيد دوفيجي De Veygie· غير أن هذا المستوطن أدرك لأول وهلة أن سيد بن أحمد عباسهذا يصلح جلادا حقيقيا لبني جنسه، ومن ثم عينه بعد قليل رئيسا لتجار الماشية لمزرعته· وكانت هذه فقط هي البداية لمستقبل السيد بن أحمد عباس، الذي أتاح له أن يستنزف دماء الفلاحين الجزائريين الذين كانوا يعانون البؤس والفاقة·لقد كتب المحلل الفرنسي "جين لاكوتيور" Jean La Couture قائلا: "لقد شد السيد بن عباس انتباه بعض الشخصيات الاستعمارية القوية، فعين قائدا، ثم باش آغا، ورقي أخيرا “كوماندور”بوسام جوقة الشرف" " ليجيون دونور La Legion D'honneur·
إنه لتاريخ مثالي لفصل عن الجزائر الفرنسية الطيبة في كتاب مدرسي من كتب أوائل هذا القرن··· ولم يلبث هذا النجاح أن وجه ميول ابن القائد"[6] ·
كان سيد عباس مثل أقرانه فخورا كل الفخر ببرنوسه الأحمر وحذائه الأحمر اللامع وعمامته الحريرية، وفوق كل شيء بوسام جوقة الشرف الذي يثير الإعجاب؛ وعاش ومات “مسلما صالحا”كما يحلو للمستوطنين الفرنسيين أن يسموا عملاءهم المطيعين الذين يظلون إلى أواخر حياتهم مرتبطين بهم، وبوسطهم الاجتماعي الجزائري·
ومع ذلك، ورغم ارتباط سيد عباس بسادته الفرنسيين وبالمجتمع الجزائري التقليدي، فإنه لم يمنع ثروته الملطخة بالدماء من أن توفر لابنه فرحات عباس تربية غربية جعلت منه عدوا لدودا لكل من بيئته التقليدية والمستوطنين الفرنسيين· وليس بمعنى هذا القول بأن سيد بن عباس لم يحاول أن يقنع ابنه أن لا يتورط في الشؤون السياسية، ذلك لأن رغبته الصادقة كانت بلا شك أن يرى ابنه بعيدا عن السياسة، وأن يتخذ له، كما ينبغي لابن باش آغا أصيل “مهنة نافعة يكسب منها عيشا رغدا دون أن يثير شكوك المستوطنين أو يجرح مشاعرهم ·غير أن فرحات عباس لم يكن في وسعه أن يلبي رغبة أبيه الباش آغا، رغم أنه حاول بإخلاص أن يفعل ذلك، فقد قدر له أن يؤمن بمبادئ المدافعين عن “رسالة التمدين”كما سلم بذلك في كتابه الحديث (الليل الاستعماري)[7]
كلا لم يكن بوسع فرحات عباس أن يلبي رغبة أبيه! ذلك لأنه كان من الوجهة الثقافية نتاج العملية الاجتماعية المحتومة التي وصفناها، وكان على هذا النحو ملتزما بدعم مكانة أبناء "أرقى الأسر"الذين كانوا مشتركين بالفعل في معركة حياة أو موت ضد المستوطنين الفرنسيين والشعب الجزائري·
وحري بالقارئ ألا يجد صعوبة كبيرة في فهم طبيعة هذه المعركة الضارية· وقد يكون من المناسب أيضا أن ندعو السيد فرحات عباس الذي يستحق لقب "المسيح الذي ينتظره الجزائريون المتغربون"ليعرض علينا رأيه في هذه المعركة :
"جاء البعض حائلا بيننا وبين فرنسا، إنهم أفراد تلك المستعمرة من الفرنسيين الجدد الذين لم يكونوا في سيدي فرج ولا في مكتا ، ولم يموتوا من الحمى في سهل متيجة ولم تنزف دماؤهم في أي مكان، ويرهقوننا، بين ثروتهم وامتيازاتهم، بحقدهم واحتقارهم"[8] ·
ويتبين لنا من دراسة سيرة السيد بن أحمد عباس وابنه فرحات عباس أن ما فعله المستوطنون في الواقع عندما أزالوا "الدمى" الفرنسية القديمة واستبدلوا بهم "الرعاة" الذين ظنوا خطأ أنهم مخلوقات غير مؤذية، هو أنهم أحبطوا قضيتهم · ولكن المستوطنين الذين اكتسبوا بفضل عقليتهم الإمبريالية نمطا فريدا من المنطق الإنساني، ظلوا مقتنعين بأنهم أكثر من ند للجزائريين المتغربين، رغم أن الأخيرين استمروا يتزايدون عددا كالأرانب أمام أنظارهم والشيء الذي أوحى إليهم تبني هذا السلوك العدائي المتعجرف هو ثقتهم العميقة بالسلاح السياسي القوي اللذي كانوا يعتقدون بأنه قادر على منع أعدائهم المرعبين، الجزائريين المتغربين وأعوانهم الليبراليين والكاثوليك من تحقيق نظريتهم الخاصة بامتصاص الشعوب·
أما السلاح الأكثر فعالية الذي استخدمه المستوطنون ضد الجزائريين المتغربين فإنه يتمثل ـ كما ذكرنا ـ فيما يمكن وصفه بأنه "حلف غير مقدس" بين جماعة المستوطنين وبين الفلاحين الجزائريين المقهورين· ولكي نفهم هذا الشكل الغريب للغاية من العلاقات الإنسانية، والذي يبدو لأول وهلة أنه تحد لجوهر المنطق الإنساني، ينبغي أن نتوقف لحظة ونحلل الأسباب الخاصة خلف ذلك العداء الشديد الذي يكنه الفلاحون الجزائريون والمستوطنون الفرنسيون حيال الجزائريين المتغربين، ولنبدأ ـ إذن ـ بحالة المستوطنين، وهي أشد تعقيدا من حال الفلاحين الجزائريين· ولعلنا نتساءل عما إذا كان المستوطنون قد عمت بصائرهم عن إدراك المنطق الإنساني، فلم يفهموا أن الجزائريين المتغربين الذين يعتبرونهم أعداءهم الألداء قد يصبحون في المستقبل في ظروف اجتماعية وسياسية معينة الحراس الغيورين على مصالح فرنسا في الجزائر، حسب نظريتهم التي تدعو ليس فقط إلى هدم قيم الشعب المعنوية والثقافية والروحية كشرط أولي لاندماج هذا الشعب اندماجا كليا في المجتمع الفرنسي، وإنما أيضا انفصال الجزائر انفصالا تاما عن العالم العربي بحيث تغدو جزءا لا يتجزأ من "الوطن الأم" فرنسا؟
الإجابة على ذلك هي أن المستوطنين الذين يعتبرون أنفسهم سادة الجزائر الأبديين بلا منازع، قد تبنوا بعقليتهم الإمبريالية الفذة، نفس الموقف السلبي حيال الجزائريين المتغربين، حتى ولو أدركوا بالمنطق السليم أن هؤلاء يشاركونهم نفس القضية من خلال تعليمهم الغربي، ذلك لأنهم لا يستطيعون التغاضي عن الحقيقة الواضحة التي تتمثل في أنه إذا نجح الجزائريون المتغربون في كسب المواطنة الفرنسية للشعب الجزائري، فإنهم، أي المستوطنين يصبحون أقلية مغمورة وسط عدة ملايين من المواطنين الفرنسيين الجدد، وبهذا الوصف يفقدون بين عشية وضحاها، من خلال عملية الاقتراع الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهائلة التي كانوا يتمتعون بها في الجزائر لزمن طويل عن طريق دماء الشعب الجزائري وعرقه ودموعه·
والشيء الذي يبدو أنه جعل الكراهية التي يضمرها المستوطنون الفرنسيون حيال الجزائريين المتغربين عمياء وغير معقولة، أن الآخرين يعتقدون بصدق ، ويصرحون بصوت عال ومتعجرف أنهم يمكن أن يكونوا فرنسيين أفضل من المستوطنين الذين ينبغي أن نقول إنهم ينتسبون بأصلهم إلى العناصر المنحطة في المجتمعات الفرنسية والأسبانية والإيطالية والمالطية والكورسيكية·
واشتد خوف المستوطنين العنيدين من الخطر الذي قد يهدد مصالحهم المادية المباشرة لدرجة أنهم تحولوا دون تردد إلى الشعب الجزائري الذي تصادف أن كان يعارض، مثلهم أو أشد منهم نظرية الامتصاص، وعقدوا معهم ما قد نسميه تحالفا ضد الجزائريين المتغربين وأعوانهم الليبراليين والكاثوليك في فرنسا، وكان المستوطنون العنيدون المتطرفون هم بالطبع أولئك الذين تكفلوا بمهمة ترجمة هذا التحالف الضمني، عن طريق مجموعة المرابطين الكاذبين الكبيرة إلى تصرف عملي محسوس كلما برز إلى الوجود موضوع الامتصاص· أما تلك المخلوقات ـ أي المرابطين الكاذبين ـ الذين كانوا ـ قبل كل شيءـ قد رسخت أقدامهم وسط سكان الريف الجزائريين ذوي العقلية التقليدية المحافظة· وكانوا ـ ثانيا ـ قد كلفهم سادتهم الفرنسيون بمهمة إعطاء تفسير زائف للدين الإسلامي في الجزائر، كما رأينا من قبل، فإنهم تولوا الآن مهمة استثارة اضطرابات اجتماعية ودينية بين الفلاحين الجزائريين المقهورين كلما أرادت الإدارة الاستعمارية في الجزائر أن تقضي على مشروع إصلاحي معين يقترحه السياسيون الليبراليون في فرنسا لصالح الجزائريين المتغربين·
والواقع أنه لم يكن عسيرا على المرابطين الكاذبين أن يلهبوا روح الفلاحين الجزائريين ويحملوهم على استخراج سيوفهم المخبأة التي علاها الصدأ، وبنادقهم العتيقة ذات الزند المصون، لأنهم لم يزالوا، كما كانوا دائما مخلصين لفكرة الجهاد التي تتضمن إلقاء "الأروام الكفار" في البحر، رغم أعمال القمع الوحشية التي يقوم بها الفرنسيون ضدهم عقب كل ثورة جزائرية صغيرة أو كبيرة وكلما ازدادت القلاقل الاجتماعية والدينية عنفا وضراوة، بدت وكأنها تزيد المستوطنين الفرنسيين سرورا، وبخاصة إذا فقد هؤلاء عددا من أتباعهم “الدمى”وقليلا من دمهم ولحمهم· ذلك لأنه من خلال هذه القلاقل الدموية الاجتماعية والدينية وحدها يستطيع المستوطنون أن يبرروا في أعين الرأي العام الفرنسي حملاتهم التأديبية المرغوبة ضد الفلاحين الجزائريين· وبعد انتهاء هذه الحملات يرتدي المستوطنون الفرنسيون قناع الرياء، والسخرية علي ما يبدو، حتى يظهروا أبطالا يدافعون بحماسة عن القيم المعنوية والثقافية والروحية للشعب الجزائري· بل إن أشد المستوطنين تطرفا في كراهية العرب مثل "كامي برونل" Camille Brunelوأضرابه يحرصون على إبداء اهتمامهم بسعادة الشعب الجزائري ورفاهيته· كتب السيد "برونل" Camille Brunel: "المعروف أننا لا نريد إلا سعادة العرب التي يمكن أن تتوافق مع سعادتنا بشرط التخلي عن الأوهام الخطرة التي يحاول البعض أن يبني عليها هذه السعادة"[9]
إن الحجة التي اصطنعها المستوطنون في محاولة تهدئة مشاعر الفلاحين الجزائريين المضطربة، والتوفيق في الوقت ذاته بين أعمال القمع الدموي التي أجريت ضدهم وبين موقفهم الريائي بشأن سعادة هؤلاء الفلاحين، هذه الحجة فحواها أن الإدارة الاستعمارية لم يكن لها بد من استخدام القوة لفرض القانون والنظام· ثم تقول الحجة إن المسؤولية عن الاضطراب والدم المراق الذي يدعو إلى الأسف، وضياع الأرواح البشرية لا يجوز أن تلقى على عاتق الفلاحين الجزائريين، لأنهم لم يكونوا ليحملوا السلاح ضد فرنسا، ويعتدوا على المستوطنين الأوروبيين في الجزائر لو لم يستثرهم الجزائريون الذين يدعون أنهم غربيون، وأقنعوهم بأن الهدف الرئيسي للإدارة الاستعمارية هو تقويض قيمهم المعنوية والثقافية والروحية، في حين أن الخطر الذي يتهدد القيم المذكورة ينبت من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غير الواقعية التي يدعو إليها الجزائريون المتغربون وأعوانهم الليبراليون والكاثوليك في المجلس الوطني الفرنسي· ويخلص المستوطنون إلى أنه ليس ثمة شيء أشد خطرا على الوجود الفرنسي في الجزائر من الإصلاحات المذكورة التي تشجع الشباب الجزائري على نبذ بيئته التقليدية، ذلك لأنه في اليوم الذي يجد فيه الشاب الجزائري المتوسط نفسه منفصلا عن قيمه المعنوية والثقافية والروحية الأصيلة، ومزودا بتعليم غربي ضحل، يصبح مخلوقا مستأصل الجذور من مجتمعه، وقد "غسل مخه" من ثمة بتأثير "كل المنظمات الثورية والشيوعية، فيصبح عدوا لدودا لنا"[10] وقد طور هذا الرأي أحد كبار المستوطنين، السيد "جيرفيل رياش" Gerville Reache الذي لاحظ أن البلية هي أن حاملي الدبلومات الذين علمناهم، كل أولئك الذين يعتقدون أن لهم الحق بشهاداتهم الجامعية أن يحصلوا على مراكز مربحة لا يؤدون فيها إلا عملا قليلا ثم لا يحصلون من ذلك على شيء، يستشيطون غيظا ويثيرون الاضطراب في البلد"[11]
ومع ذلك حرص المستوطنون على ألا يجعلوا معارضتهم للجزائريين المتغربين، ونظريتهم الخاصة بالامتصاص والتي تدعو إلى اندماج الجزائر في نطاق الأمة الفرنسية الكبيرة تبدو في أعين الرأي العام الفرنسي عملا أنانيا غير وطني· ومن أجل هذا قدموا نظريتهم الفريدة بشأن الامتصاص، وهي مبنية علي النظرية العقيدية بخصوص "العلاقة بين السادة والعبيد"،وتقرر أن الجزائر يجب أن يحكمها نظام مدني يتيح للمستوطنين أن يديروا شؤونهم الخاصة دون أي تدخل عسكري، وفوق كل شيء أن ينتخبوا ممثلين عنهم في المجلسين الفرنسيين، الأعلى والأدنى، مثل سائر الناخبين في المقاطعات الفرنسية، وسوف يعتبر الشعب الجزائري بطبيعة الحال، في نطاق خطة الامتصاص هذه، رعايا فرنسيين، الشيء الذي يعني في لغة المستوطنين، عمالا رخيصين ودائمين· وكان الدور الطموح الذي أراد المستوطنون أن يلعبوه في الوقت المناسب واضحا كل الوضوح، حتى لقد أبدى الجنرال "هانوتو" Hanoteau بشأنه ملاحظة حانقة:إن ما يحلم به مستوطنونا، هو إقطاع بورجوازي·· يقومون فيه بدور السادة الأشراف، ويقوم المواطنون بدور الأقنان"[12]وخلاصة القول إن نظرية الامتصاص كما يراه المستوطنون الأوروبيين تعني اندماج الأرض الجزائرية مع فرنسا بدون إدماج أهاليها الأصليين·
هذا من ناحية أسباب العداء الشديد الذي كان يضمره المستوطنون الفرنسيون حيال الجزائريين المتغربين ـ ونتساءل الآن عما دفع الشعب الجزائري وبخاصة الفلاحين المقهورين إلى التحالف مع أعدائهم الطبيعيين، المستوطنين الفرنسيين؟ الإجابة على هذا السؤال هو أن المجموعة الأولى كانت تعتقد اعتقادا راسخا أن الاحتلال الفرنسي لبلدها ليس إلا ظاهرة تاريخية مؤقتة، ومن ثم تحالفت مع المستوطنين الفرنسيين لأنها اعتبرت أن مواردها المادية التي سلبها هؤلاء المستوطنون أقل أهمية بالنسبة إلى أسلوب حياتها من قيمها المعنوية والثقافية والروحية التي كان الجزائريون المتغربون وحلفاؤهم الليبراليون والكاثوليك يسعون إلى هدمها عن طريق نظرية الامتصاص· والواقع أن الفلاحين الجزائريين كانوا على استعداد للتحالف مع الشيطان نفسه إذا كانوا على ثقة من أنهم يستطيعون عن طريق هذا التحالف أن يحبطوا الخطة الاجتماعية الخبيثة التي أضمرها أنصار نظرية الامتصاص ضد أسلوبهم في الحياة·
تلك هي باختصار الأسباب الباطنية خلف الحلف غير المقدس الذي انعقد بصورة ضمنية بين الشعب الجزائري وبين أعدائه التقليديين، المستوطنين الفرنسيين، وكون الحلف المذكور الذي استمر قائما حتى أول نوفمبر عام 1954 عقبة كئودا في سبيل نظرية الامتصاص جعل أنصار "رسالة التمدين" ـ كما سنرى في القسم التالي ـ أكثر تصميما على شن حرب ضروس ضد المستوطنين الفرنسيين لصالح أنصارهم الأوفياء، الجزائريين المتغربين
[1]اندريه نوشي ANDRE NOUSCHI: "نشأة القومية الجزائرية" صفحة 19
[2]المرجع السابق ص 19
[3]المقصود بها الأردية الحمراء التي يلبسها "الدمى" الفرنسيون من أصحاب الرتب الكبيرة تمييزا لهم عن غيرهم، والجدير بالذكر أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية إذ تفرض على الفلاحين الجزائريين أحد عملائها من ذوي البرانس الحمراء، فإنها تضفي عليهم بذلك شرفا، ومن ثم فإنها تتوقع منهم، بل تجبرهم في نظير ذلك أن يوفروا للأخير الرخاء المادي·
[4]أوردها سعدية الأخضر: "العداء الاستعماري، ومقاومة الأسرة الجزائرية" صفحتي 66، 67
[5]المرجع السابق نفس الصفحة.
[6]جان لاكوتير Jean Lacouture: "خمسة رجال وفرنسا"، صفحتي 266، 267
[7]كتب فرحات عباس في كتابه الليل الاستعماري صفحة 114>شارك هذا الأمل كل الذين استطاعوا الذهاب إلى المدرسة، كانت كتبنا تصور فرنسا كمركز للحرية، وفي المدرسة نسينا جراح الشارع، وبؤس الدوار، وجلنا مع الثوار الفرنسيين وجنود السنة الثانية في مسالك التاريخ الكبرى، وكانت نسبة كبيرة من المعلمين من الجمهوريين المتمسكين بمبادئ الديمقراطية، لقد عرفت البعض من "مبشري" المدرسة الفرنسية والعلم، الذين لم يكن يعادل إخلاصهم للتلميذ من أهالي البلد سوى إرادتهم في تقريب الجزائريين من فرنسا·
وأينما مررت، في كلية فيليب فيل(سكيكدة)، وكلية الجزائر، كانت هيئة التدريس تجهل التفرقة العنصرية ولا تهتم بغير نجاح التلميذ مهما كان أصله، وهنالك استثناءات، ولكنها لا تنتقص شيئا من قيمة أساتذتنا وضميرهم النبيل
[8] فرحاتعباس: " De la colonie vers la province Le Jeune Algerien" صفحة 116.
[9]كاميبرونلCamille Brunel" La Question Indigène en Algérie -L’Affaire de Marguerite" صفحة248
[10]"تطور أهالي شمال إفريقيا" صفحة 14·
[11]المرجع السابق صفحة 16
[12] أورده روبير أرون ROBERT ARON،المرجع السابق، صفحتي 47، 48
ليست لديك وثيقة تثبت بأن الجزائر ملك لأبيك حتى تحرمني من الكلام ، لم أجبرك على المسؤولية ، و لك أن تجيب عن حالي السيء بأفعالك ، و إن قمعتني سأنتقم منك أو من أولادك أو من أحفادك ، المهم أن تدفع الثمن لأنك معتدي .icon31icon31icon31







