خدعة البحر لـ عبد الله عيسى لحيلح
02-07-2009, 09:22 PM
خدعـة البحـر...!
لـ عبد الله عيسى لحيلح

توطئة:

تبخرت تلك الدعاية الزائفة ، وتبددت الأكاذيب الباطلة التي تسم الأدب الإسلامي بأنه أدب وعظ وإرشاد وأدب أخلاق وفضائل ، وحلال وحرام تبطل معه السمة الفنية الإبداعية والروعة الجمالية ، والسمو التصويري المتحرر من كل قيد يعوقه عن الحركة المطلقة، لقد تلاشى كل ذلك وطاش كرذاذ أو زبد ماء من بحر مالح.

وعندما نقرأ قصة مثل قصة "خدعة البحر" للأستاذ الشاعر الأديب عبد الله عيسى ليلح1 ونتملى معانيها بحيادية ونتفرس في مبانيها الفنية بعمق؛ ندرك ما يحمله الأدب الإسلامي من قوة إبداعية زاخرة وسمو فني آسر.
فكرة القصة عادية جدا ومألوفة لدى متتبعي الأدب القصصي، وقد تناولها عديد من القصاصين والأدباء وأصدروا فيها كما هائلا من الكتب والمؤلفات...إنها قصة الغربة والهجرة، أو قصة شباب الجزائر ( وكثير من دول العالم العربي ) بعد الاستقلال، وكيف انبهروا بالغرب وزخرف حضارته الزائفة فاتجهوا إليه بأفئدتهم متطلعين وبجنة أوهامه حالمين.
قصة قديمة جديدة...
إذا موضوع القصة ليس غريبا ولا جديدا أو مبتكرا أو حتى خياليا... الغربة والهجرة والأحلام الوردية التي ينتظر شبابنا تحقيقها في بلاد الغرب كلها؛ أفكار تطرق إليها كتاب الستينيات والسبعينيات ورغم ذلك مازالت في حاجة إلى معالجة ودراسة ، لأنها ما زالت تتكرر إلى يومنا هذا ، وإن تغير مكان الهجرة واتسع أكثر ليشمل أمريكا وأستراليا وكل أوربا وحتى اليابان.
بالإضافة إلى أنّ الأسلوب الذي عالج به عيسى لحيلح الموضوع كان متميزا ومختلفا عن غيره، وقد اتخذ الكاتب الرمز وسيلة محورية لمعالجة الموضوع ، وطغى بكل ظلاله على تفاصيل القصّة تقريبا.
تتلخص قصة "خدعة البحر" في أنّ ثلاثة من الشبان – وقد رأى أحدهم صندوقا- يتهادى فوق أمواج البحر، فصور له خياله مستقبلا مترفا وحياة باذخة وساحرة يحملها الصندوق في طواياه وكان الإغراء شديدا فارتمى في البحر ليفوز بالكنز الذي تتلاوحه الأمواج ، وبدلا من أن يحصل على الكنز ابتلعه البحر إلى الأبد ، ووقف صديقاه يبكيان ويتحسران على أن تركاه يندفع هكذا وراء الإغراء وبريق الكنز دون رويّة أو تفكير ، لكن سرعان ما ينجذب أحدهما أيضا إلى الإغراء هو أيضا، ويلقى المصير نفسه الذي لقيه صاحبه، وبالطريقة ذاتها، ويحجم الثالث عن تكرار التجربة ولكن الإغراء كان كبيرا ، والفتنة شديدة ؛ فتتبع خطى صاحبيه فأصابه الذي أصابهما من سوء المصير.
وفي اليوم الموالي يعثر بعض سكان القرية على ثلاثة شبان وبقربهم صندوق خشبي ، إنّها المأساة تتكرر رغم الدرس والعبرة التي يقدمها لنا الزمن ، بثمن باهظ فلا نعي الدرس ولا نستفيد من العبرة، فأوربا مهما كبرت في نظر بعضنا وخطف بريق حضارتها أبصارهم؛ ففيها المهلكة ومنها تأتي كل داهية.
وأرضنا مهما شظف عيشها وقسا أهلها ففيها العزة والخير والهناء:

بلادي وإن جارت عليّ * * عزيزة وأهلي وإن ضنوا كرام.

نسق فني محكم:
المدخل القصصي الذي استهل به الكاتب قصته كان قويا وجذابا توسل إليه ببيتين من الشعر يعبران عن حال الأشخاص الثلاثة في لهوهم ومتعتهم:

لا تشغل البال بماضي الزمان * * ولا بآت الـعيـش قبل الأوان
واغـنـم مـن الحاضر لذاته * * فليس في طبع الليالـي الأمان
ولم يشأ الكاتب أن يكشف عن مكان القصة ولا التدقيق في وصفه و إبراز ملامحه؛ لأنها يمكن أن تحدث في كل مكان والأمر سيّان بالنسبة للزمان ، أيضا ولكنه أشار بلطف و خفة بهذه العبارة التي تضعنا في المكان الصحيح من القصة:
" قال ثالثهما وهو يعبث ببعض القواقع والأصداف " وفي ذلك دلالة على تواجدهم بمحاذاة شاطىء البحر.
والقصة تعتمد في تعابيرها وألفاظها على الرمز ، كقوة إيحائية تعطي المعاني بعدها التأثيري الأكثر عمقا وترسخا في النفس.
فالرجال الثلاثة هم رمز لجيل الاستقلال الذي أغرته أوربا وبلاد ما وراء البحر ، ليتيه في أغواره " العميقة " وربما كان تحديد عددهم بثلاثة يقصد بها الأجيال الثلاثة التي توالت بعد الاستقلال ؛ جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات.
وهناك بعد رمزي آخر يحمله الرجال الثلاثة وهو تتابع وقوع الشباب في الخطأ رغم ما يجري أمامهم من أحداث ووقائع مأساوية للمهاجرين في فرنسا.
وللصدق- كمثير داخل القصة- بعدان رمزيان: البعد الرمزي الأول هو : وهم الثروة والغنى الذي تلوح بها بلاد الغرب لأبنائنا ، وتجتذبهم ببهرجها الزائف ثم تقوم بسحقهم في الأخير فتمتص زهرة شبابهم وتأخذ عصارة أرواحهم ونبض قلوبهم ، وتطحنهم رحاها بغير شفقة ولا رحمة.
والبعد الرمزي الثاني مأساوي مخيف.. فالصندوق قد يكون صندوق كنز كما قد يكون أيضا تابوتا يحمل بداخله جثة هامدة ؛ كان في عينيها يوما نور متألق خطفته أضواء الغرب " فرنسا " واستطاع الكاتب أن يعطي- تقريبا- لكل عبارة ؛ وأحيانا لكل لفظة ؛ رمزها المناسب وإيحاءها القوي ومما يستوقفنا في ذلك:
" رمى صالح ما في يديه من قواقع وأصداف ونفضها من حبيبات الرمل العالقة بها..." هي حركة طبيعية يقوم بها أي إنسان كان مستلقيا على شاطىء البحر يداعب رماله ثم أراد النهوض فجأة، لكنها أيضا تحمل في طياتها إشارة واضحة ورمزا بينا لخيرات الوطن وكنوزه حيث يتخلى عنها من يفكر في الهجرة ويأخذ بلبه بريق الوطن الآخر ؛ وطن الأحلام السندسية.. وهو يتخلى عن تلك الكنوز والجواهر الثمينة ظنا منه أنها مجرد قواقع وأصداف أو حبيبات رمل رخيصة لا ينبغي أن تعلق بيديه.
وهناك حركة جد قوية المدلول قام بها صالح في عفوية وتلقائية تظهر لنا في قول الكاتب:
" مد صالح يده إلى قطعة خشب صغيرة؛ وراح يرسم خطوطا مستقيمة وأخرى ملتوية ليأتي بعد ذلك الزبد الأبيض فيمحو تلك الخطوط "
وتلك إشارة واضحة إلى الآية الكريمة " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" 2
وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه شكلا توضيحيا بالكيفية السابقة نفسها والتي وظفها الكاتب في قصته ثم قال لهم: هذا سبيل الله وتلك سبل الشيطان.
وفي الإشارة إلى زبد الأمواج رمز إلى الرجل " الأبيض " ، أو إلى " أوربا " البيضاء التي تريد مسح تراثنا وتاريخنا وأمجادنا التليدة وتجعلنا ننبت منها.
إنها قصة من أروع ما قرأته في مجال الأدب الإسلامي ، وقد تفردت بمعالجة ذكية ونهج فني بديع قلما نعثر عليه بين عشرات القصص ، التي تطالعنا بها وسائل الإعلام المكتوبة صباح مساء.
كما استطاع الكاتب توظيف العنصر الرمزي توظيفا سليما وقويا ، دون نحت مفتعل للألفاظ المضللة والمعاني التائهة ، في عتمة الغموض المقرف والتعقيد المقيت ، وقد جعلنا نقرأ القصة بمتعة فنية، وعبرة ممتازة... فمزيدا من العطاء.

هامش:
01- عبد الله عيسى لحيلح شاعر وأديب وأستاذ جامعي.
2- الآية 154 من سورة الأنعام.