مقالات الطيب صالح في "المجلة" (4)
02-03-2009, 06:57 AM
الطيب صالح: صنــاعــة الأسمــاء
الطيب صالح
05/06/2008
* يقول الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن سعيد الحميدي، في دراسة حسنة عن تعليم الكبار ومحو الأميّة في المملكة العربية السعودية .”إن التغلب على مشكلة الأميّة يعني بناء أمة قادرة على الإنتاج، تتكيف بالتغيّرات الحضارية ذات قدرة ومهارة فنية، وذات آفاق واسعة قابلة للتفاعل مع برامج التنمية. ميّالة إلى العمل الجماعي، مؤمنة بأهمية العلم والتعليم والتكنولوجيا، وناظرة إلى المستقبل أكثر من الماضي والحاضر”. الطيب صالح
05/06/2008
ها هنا بالطبع تأكيد على الجانب التنموي في قضية مكافحة الأمية، وهو عين الصواب، و الجانب الذي أخذ يلفت انتباه المنظمات الدولية التي تهتم بالتنمية أولاً وآخراً، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. وقد كانت هذه المنظمات لا تكترث للأمية، وتعتبرها عرضاً سوف يزول بزوال الفقر. ثم أدركت بعد أمد أن الفقر لن يزول ما دامت ثمة أميّة. أما أن تكون الأمة “ناظرة للمستقبل أكثر من الماضي والحاضر”، فهذا قول تختلف بصدده الآراء. ومن جميل ما قيل عنه، ما كتبه المرحوم الدكتور محمد إبراهيم كاظم أستاذ التربية في جامعة الأزهر، ومدير مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية سابقاً في ورقة له عن “بناء القيادات لمواجهة تحديات العصر” يقول:
“ومحاولاتنا لرؤية المستقبل، إنما هي في صميمها تحليل منظومي أو نسقي للماضي والحاضر في محاولة لصياغة وتشكيل المستقبل. هذه الصياغة لا يمكن أن تنفصل عن تفضيلاتنا ورؤانا في الحاضر واستهدافنا لصياغة مقصودة ومفضلة لمكوّنات الأحداث والأشياء والأشخاص والأفكار حتى تقع وفق هذه الرؤية. والفرق بين الرجم بالغيب المنهي عنه، والدراسات المستقبلية التي نهتم بها من قبيل الاهتمام بأمور الجماعة والمجتمع، هو أن الدراسات المستقبلية تبدأ في ضوء الحاضر أياً كان، وأياً كان رأينا فيه، بتصور الصيغة التي تمثل تفضيلاتنا لمسارنا نحو المستقبل، وتبين أن هذا المستقبل، لكي يُرجح وقوعه، يحتاج إلى توفير مقوّمات ومكوّنات، كما يحتاج – إذا كان موقفنا إيجابياً – إلى الإيمان والعلم والحساب والخيال والأمل والطموح”.
وأهم من محض التنمية عندي، أن الإنسان الأمي حين ينفض عنه أغلال أميته، فإنه يصبح هو نفسه، في حد ذاته، إنساناً أفضل، إنساناً أكثر انفتاحاً على آفاق الكون الرحبة وأسراره التي تُغري بالاكتشاف. ولا تعود حياته تقاس بعدد الأعوام التي قضاها على وجه الأرض، ولكن بدرجة عمق تجربته الفكرية والروحية، ومدى قدرته على التواصل مع نفسه ومع الآخرين ومع أصوات الحياة في الكون. وقد عبّر عن هذا المعنى أجمل تعبير المفكر البرازيلي الذائع الصيت، باولو فريري، في عبارة أوردها الدكتور محمد نبيل نوفل في الفصل الجميل عن هذا المفكر في كتابه القيّم “دراسات في الفكر التربوي المعاصر”، يقول باولو فريري، وهو واحد من الأقطاب الذين جاؤوا بمفاهيم عميقة طريفة، عن قضية الأهم في العالم.
“لا يمكن أن يكون الوجود الإنساني صامتاً. ولا يمكن أن يعيش على الألفاظ الجوفاء، بل يعيش على الكلمات الصادقة وحدها. الكلمات التي يغيّر الإنسان بها العالم. أن تعيش، إنسانياً، معناه أن “تسمّي العالم”. أو بعبارة أخرى أن تدرك العالم، وأن تتخذ منه موقفاً إيجابياً، وأن تعمل على تغييره. وعندما “نسمي العالم” فإنه يبدو لنا كمشكلة تتطلب تسمية جديدة، أي أننا عندما ندرك العالم المحيط بنا، وتتعرف عليه وعلى التناقضات الموجودة فيه، حينئذ تبرز أمامنا مشكلات تفرض علينا أن نجد لها حلولاً وحين يتغير العالم فإنه يناشدنا أن نتعرف عليه وندركه من جديد، وأن نتعامل مع الواقع الجديد ونحاول تطويره وحل مشكلاته باستمرار...”.
ويستطرد الكاتب قائلاً:“... الحوار لقاء بين الناس من أجل “تسمية” العالم، لذلك لا يمكن أن يقوم حوار بين من يريدون تسمية العالم ومن لا يريدون ذلك، بين من ينكرون على غيرهم الحق. ومن ثم يجب على من حرموا هذا الحق في تسمية العالم، أن يستعيدوا أولاً هذا الحق الطبيعي، وأن يمنعوا استمرار هذا العدوان اللا إنساني”.
وأول خطوة في سبيل استعادة هذا الحق، هي اكتساب القدرة على التعامل مع الرموز التي تتشكل منها “الأسماء”. وقد بسطت لك قبلاً، كيف أن أول ما فعله الـ “أبو روجنيز” سكان أستراليا الأولون، منذ أكثر من خمسين ألف عام، أنهم “سموا الأسماء”. ثم جاء الأوروبيون، ومحوا تلك الأسماء القديمة وفرضوا بدلاً عنها أسماء جديدة، وحالوا بين الـ “أبو روجنيز” وبين أن يستعيدوا في ذاكرتهم الأسماء التي ضاعت منهم. وبهذا المعنى يمكن القول أيضاً، إن كل ما يشكو منه العرب اليوم، من تشويه لتصوراتهم عن أنفسهم، وازدراء لحضاراتهم، وتزييف لمساهماتهم الإنسانية في الماضي والحاضر، إنما يدخل في باب الحرمان من الحق المشروع لكل الناس في المساهمة في “صناعة الأسماء”.
وعندي أيضاً، أنه ليس محض صدفة، أن العرب في جاهليتهم، كانوا يحتقرون القراءة والكتابة ويعدّونها ضرباً من السحر والكهانة. وقد تواترت أمثلة كثيرة على ذلك، منها ما روي عن الشاعر النجدي النابغة ذي الرمة أنه كان يُملي قصيدة على كاتب يكتبها له. ووجد أن الكاتب قد أخطأ في كلمة، فقال له: “اكتبها هكذا”. فقال الكاتب متعجباً “أو تكتب؟” فقال ذو الرمة “نعم. ولكن اكتم عنّي”.
هكذا كانوا يرون الجهل حسنة، ويرون العلم مسبة، فلا غرو أنهم عبدوا أصناماً لا تنفعهم ولا تضرهم. إلى أن بعث الله سبحانه وتعالى إليهم، رسولاً منهم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وتقول “ ولكنه هو نفسه كان أمياً ولا يقرأ ولا يكتب”. بلى، ولكنك تعلم، أنه صلى الله عليه وسلّم، كان له شأن آخر. كان قلبه العظيم مفتوحاً على أسرار الكون، يتلقاها من لدُن حكيم عليم. كان فوق الكلمات والحروف، لأنه مفتاح خزائن الأسرار، ومنبع تجليات الأنوار. ومع ذلك فقد كان يحض المسلمين على تعلم القراءة والكتابة، وكان يعتق الأسرى لقاء تعليم عدد من المسلمين. وقد كانت تلك أول حملة لمكافحة الأمية في جزيرة العرب، بل وفي العالم.
يذكر الدكتور عبد الرحمن بن سعد الحميدي، في دراسته الحسنة عن مكافحة الأميّة في المملكة، سببين أساسيين أعاقا الجهد السعودي، أولهما هو:
“تأثير المناخ الاقتصادي المزدهر في المملكة كعامل سلبي في جهود محو الأمية، إذ إنه يقلل من أهمية الحوافز المادية المقررة، كما يقلل في نظر الأميين، من أهمية التعليم كضرورة لتحقيق الرخاء الاقتصادي لعدم إحساسهم بالحاجة إليه ولانصرافهم إلى اغتنام الإثراء المُتاح بوفرة ويُسر”. حقاً، هذا عائق أساسي لأن من أهم الحوافز التي تدفع الأمّي إلى التعلُم، الرغبة في تحسين حالته المعيشية. وإذا كانت حالته حسنة بطبيعة الحال، فما الذي يجعله يغامر بالدخول في عالم جديد عليه كل الجدّة، يتطلب منه بذل الجهد، وإعمال الفكر، خاصة إذا كان قد تقدّمت به السن، واستقرت حياته على وتيرة معيّنة؟
ويمضي الدكتور الحميدي في سبْر هذه العلّة فيقول:
“ولا نستغرب هذه النتيجة في مجتمع كان ولا يزال يطمع لتحقيق برامج طموحة أتاحت فرصاً للعمل أمام جميع أبنائه، بما فيهم الأميون، دون أن تضع قيوداً أو شروطاً تمنع الأمّيين من الحصول السهل على العمل، بل والعمل المجزي مادياً، الأمر الذي جعل من العمل المجزي دافعاً لهم للعزوف عن الالتحاق بمدارس محو الأمّية”.
هذا قول فيه نظر، وينطوي على تطرّف إلى النقيض ربما دفعت إليه حسن النيّة أما أن الأميّة داء يجب القضاء عليه فذلك حق .وأما أن الأمي مُصاب يُعزل كما يُعزل الجمل الأجرب ويُحرم حق العمل، فذلك مذهب بعيد لم يذهب إليه أحد. وإذا كان صاحب العمل لا يأنف من تشغيل الأمّي رغم أميته، فلماذا تتدخل الدولة لتحول دون ذلك، مع العلم بأن حق العمل حق أساسي أقرته وثيقة حقوق الإنسان في المجتمع الدولى؟ لا. أفضل من ذلك ما هو متبع الآن ومعمول به في المملكة العربية السعودية وفي دول عربية أخرى. ذلك أن يُكافأ الأمّي على محو أميّته .
من مواضيعي
0 التغذية: نصائح وحيل حول الأكل الصحي اهمالها قد يسبب لنا مشاكل صحية لا نعرف اين سببها؟
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة