محمد قطب
19-10-2007, 03:06 PM
محمد قطب

يقول الشيخ محمد قطب: ((وفي الجاهلية يأنس الناس للوسطاء ؛ لأنهم – في هبوطهم وانغلاقهم – يحسون بالوحشة من الإله المنـزه الذي لا تدركه الأبصار ، فيأنسون للكائنات الوسيطة ، التي يتصورنها ذات طبيعة مزدوجة: ناسوت ولاهوت ، جانب بشري وجانب إلهي ، يلتقون مع البشر بجانبهم البشري ، ويلتقون بجانبهم الإلهي مع الإله ! ويكونون "محطة" في الطريق ، يتزود الناس فيها بالطاقة اللازمة لرحلة "الفضاء" ، إلى الأزلي اللانهائي الذي لا تدركه الحواس ولا تحده الحدود !!
من أجل هذه الانحرافات كلها، التي تشمل العقيدة والشعيرة والشريعة ، ركز المنهج القرآني على تحديد هذه القضية تحديداً حاسماً ، وتنـزيه العبادة من كل لون من ألوان الشرك يمكن أن يهجس في بال الإنسان.
وقد رأينا – من تجربة الواقع – أن هذه الهواجس قد ألمت بالأمة الإسلامية ذاتها ، بعد فترة من تنـزيه العبادة ، والارتفاع بها إلى المستوى اللائق بجلال الله ، واللائق بالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم.
فقد جاءت الصوفية ببدع كثيرة تفسد صفاء العقيدة وصفاء العبادة.
ولا نتحدث هنا عن الخبل الواضح في فكرة الإتحاد ، والحلول ، ووحدة الوجود ، مما يتنافى تنافياً كاملاً مع التوحيد الذي جاء به الرسل جميعاً ، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا التفكير – في حقيقته – نتاجٌ وثني صريح جاء من الهند أو من فارس أو من أي مكان في الأرض.
إنما نتحدث عن بدع أخرى نشأت مع الصوفية ، هي عبادة الأضرحة والأولياء ، وتضخيم الشيخ في حس المريد حتى يصبح وسيطاً بينه وبين الله ، وتوجيه ألوان من العبادة إلى أولئك "المشايخ" أحياء وأمواتاً لا يجوز توجيهها لغير الله.
إنها ردة جاهلية.
صحيح أن الناس لا يعبدون صنماً منحوتاً كما كان يفعل المشركون يوم ذاك ، ولكن كيف نسمي التمسح بالأضرحة التماساً للبركة ، والدعاء عنده رجاء الاستجابة ، وطلب المعونة من صاحب الضريح ، والاستغاثة به من الكرب ، والإيمان بأنه ذو حظوة عند الله ، يستطيع بها أن يغير مجرى الأقدار ؟ ! أو الإيمان بأن الله قد عهد إلى الأقطاب والأبدال أن يتصرفوا في ملك الله ، فإذا استعطفهم مريدهم وتضرعوا إليهم صرّفوا الأمور لصالحهم ، وحموهم من الأخطار.
ألم يكن مشركو الجزيرة يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفى} الزمر:3.؟ ! أي: لا نعبدهم لذواتهم ولكن لما لهم من حظوة عند الله ؟!
أما الشيخ والمريد فبدعة أخرى من بدع الصوفية الخطيرة.
ولا يعنينا هنا أن نذكر كيف بدأت البدعة ، ولا أن العامة قد ارتموا في أحضان الصوفية لقلة العلماء المربين الذين يعلمون الناس دينهم على المنهج القرآني الواضح السهل البليغ المؤثر ، وعلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرب الحقائق للناس حتى يتشربوها في يسر ، وترسخ في نفوسهم فلا يمحى أثرها ، إنما وجد العامة بدلاً من ذلك من يتكلم عن العقيدة كأنها معاظلات ذهنية تجريدية - وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية والأسماء والصفات – تجهد الذهن ولا تحرك القلب ، ووجدوا المتخصصين في الفقه يتحدثون فيه لا على أنه "دين" نزل لينظم حياة البشر على الأرض ، ويربط قلوبهم بالله وهم يأتمرون بأمره وينفذون تعاليمه ، ولكن كأنه قضايا جافة مبتوتة الصلة بالوجدان الحي ، لذلك هرب العامة من معاظلات علم الكلام في العقيدة ، ومن جفاف الدراسات الفقيهة ، إلى الملجأ الذي رأوه يشبع وجدانهم الروحي الظامئ ، وجدوا راحتهم النفسية التي افتقدوها هنا وهناك.
ذلك يفسر ولا يبرر ، فلا شيء يبر الانحراف عن طريق الله القويم: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} الأنعام: 153.
جاء الإسلام ؛ ليلغي كل واسطة بين البشر وربهم ، وليعقد الصلة مباشرةً بين العبد والرب: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} غافر: 60.{وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان} البقرة: 186.
وجاءت الصوفية ؛ لتجعل بين العبد وربه وسطاء وشفعاء ، سواء كانوا من الأموات أو الأحياء ، وجاء الإسلام ؛ ليخرج من هذه الأمة علماء وفقهاء يعلمون الناس أمر دينهم: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر: 28.{وما كان المؤمنون لينفروا كافة * فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} التوبة: 122.
وجعل أولئك العلماء والفقهاء أئمة ومعلمين ومربين ، وقدوة للناس ، ولم يجعلهم كهنة يختصون بالطقوس ، ذلك أنه لم يكن عقيدة وشعائر فحسب ، إنما كان عقيدة وشريعة ومنهجاً كاملاً للحياة ، لذلك يحتاج الناس في ظله إلى علماء وفقهاء يعلمونهم أصول دينهم ومحتوياته ومتطلباته. أما حين يكون عقيدة فحسب ، وطقوساً تتعلق بالعقيدة ، فهنا يظهر الكهنة ؛ ليكونوا وسطاء بين الناس وربهم ويظل الوسيط يتضخم في حسهم حتى يخرج عن طبيعته البشرية الخالصة ، ويصبح حسهم مزدوج الطبيعة فيه ناسوت ولاهوت!
جاء الإسلام ؛ ليجعل الدين خالصاً لله ، وجاءت الصوفية ؛ لتحوّل الشيخ في حس المريد إلى وسيط بين الناس وربهم ، بحجة أنه مبارك عند الله ، ترجى بركته ؛ ليقرب الناس إلى الله زلفى ، وليجعل الله يحيطهم برحمته ، فكأنما له شركة في الأمر مع الله ، مع أن الله قال لرسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم: {ليس لك من الأمر شيء} آل عمران: 128.
وجاء الإسلام ؛ ليقرر بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ، بشرية خالصة ، لا يخالطها شيء من "اللاهوت"، فغلت الصوفية في حبه وتعظيمه ، حتى جعلت كأنما خلق الله الخلق ؛ ليشاهدوا الأنوار المحمدية ، وليس أن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لهداية البشرية: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107.

المصدر: كتاب "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة" صفحة: (57 – 60)

ويقول الشيخ محمد قطب: ((حين أهمل الناس "الدنيا" بتأثير الصوفية أهملوا كذلك "العلم" المتعلق بالحياة الدنيا، من طب، وفلك، ورياضيات، وفيزياء، وكيمياء، فتأخرت الصناعة تبعاً لذلك، وتأخرت كذلك فنون الحرب وأدواته . . فمنذ القدم كانت فنون الحرب تعتمد في جانب مهم منها على التقدم العلمي والصناعي .
وحين كان المسلمون يهملون علومهم وصناعاتهم، ويتأخرون في فنون القتال، كانت أوربا - بما تعلمته من علوم المسلمين - تتقدم علميًّا، وصناعيًّا، وتستجد للحرب أدوات جديدة لا يعرفها المسلمون .
وحين كانت أوربا "تتخذ الأسباب" للتمكين في الأرض، كانت الأمة الإسلامية "تتخذ الأسباب" لإهمال الحياة الدنيا والبعد عن التمكين!
وحين تلاقت الفئتان كانت النتيجة معروفة!
بدأت الدول الصليبية تنهش في جسم الدولة العثمانية، وتبتلع من الأرض الإسلامية قطعة وراء قطعة، والأمة مشغولة "بالذكر" لا على المنهج القرآني الذي يذكّر بمقتضيات لا إله إلا الله، فيدفع إلى القوة والتمكين، ولكن على منهج الصوفية الذي يهرب من المواجهة في عالم الشهادة زاعماً أنه يتوغل في عالم الغيب . . يتوغل حتى يصل إلى " الفناء"!!
وبدأ "الرجل المريض" يترنح من توالي الضربات . .
هزيمة هنا وفتنة هناك . . وما يكاد يقضي على فتنة في أحد الأرجاء حتى تكون قد برزت فتنة جديدة في مكان جديد . . والصليبية الصهيونية تخطط وتُحْكِمُ الكيد، والأمة مشغولة بأضرحتها وأوليائها ومشايخها تستغيث بهم ليكشفوا عنها الضر، ويصدوا عنها العدو الذي يكتسح في كل يوم جزءاً من الأرض التي رواها الأجداد بالدماء .

المصدر: دروس من محنة البوسنة والهرسك للشيخ محمد قطب ص 39 -41

وقال أيضاً: والعامة بصفة خاصة – حين يفقدون إشباع وجدانهم الديني عند الفقهاء، وعند علماء العقيدة العقلانيين – ما أسهل أن ينزلقوا إلى الصوفية يجدون عندها ما يخيل إليهم أنه مهرب دافئ من برودة الدراسات ذات الصبغة العقلية الجافة، وبرود من يتصدون لتعليم العقيدة من خلال قضايا علم الكلام ومعاظلاته الذهنية . .
وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى انتشار الصوفية فهي انحراف من أخطر ما وقع في العالم الإسلامي من انحرافات، سواء من ناحية الأفكار الإلحادية الهندية والفارسية التي تسربت إليها كنظرية الحلول ووحدة الوجود، أو من ناحية سلبيتها وتواكلها وقعودها عن العمل الإيجابي في واقع الحياة.
وحين تراكمت هذه الانحرافات وبلغت مداها خلال أربعة قرون أو خمسة، جاء الصليبيون، ثم جاء التتار !