المقامة الثانية حدثنا أحد المواطنين - زيارة الأمير - 2
11-05-2008, 06:39 PM
حدثنا أحد المواطنين قال :

بينما كنا في مدينة بإحدى البلدان، ضيوفا لأحد الأفراد من الأعيان، سمعنا أن الأمير آتٍ، وأنه لا يبعد إلا ببعض الكيلومترات، فارتعد من كان بتلك المدينة من عليّة القوم، وأصابهم اليأس وأدركوا ما هم فيه من عظيم البأس، فجلسوا وتشاوروا، وتناقشوا وتحاوروا، فالأمير سليط اللّسان، لا يعجبه سجع لكلام، ولا عزف لألحان، ولا ضرب لقيان، ولا مدحٌ ولا شيء من بهتان، فما العمل لإرضائه، والفوز بإعجابه، والبعد عن إغضابه، والتمكن من عطاياه، وجميل هداياه.

وإذ هم في تلك الحال، سمعوا هاتفا يقول:

يا قوم إنكم سادة المدينة، وأعيانها وقادة سكانها، وأنكم أصحاب الحل والربط، وندماء الضغط والضبط، فَلِمَ الهلع والجزع، والخوف والفزع، فالأمر حلّه سهل، وتعظيم شأنه من الجهل، فاجتمعوا على رأيٍ يكن ذا فائدة، تتقوا به شرّ هذه النازلة، واعلموا أن الأمراء إذا دخلوا مدينة هموا لمساعدة سكانها، لا حبا فيهم بل رياءًا أمام الناس، فاغتنموا هذه النقيصة، واجمعوا كل من في المدينة، وخبّروهم، أنه من كان يريد كثير العطاء، وقليلا من الثراء فليشارك فيما قرّرتم العزم عليه، من تزيينٍ، وتفريشٍ ، وتنظيفٍ، وتحسينٍ، وتزفيتٍ،وتعبيدٍ، وترقيعٍ، وتلميعٍ وتصويرٍ، وتزويرٍ ، وتغريرٍ، ورياءٍ، ونفاقٍ.

فما كان من القوم إلا أن استجابوا، فسبحان الله ما هي إلا ليلة واحدة حتى استجمعت الهمم، وزالت النقم، وبدأ الناس في العمل، فقلّت الكلمات والجمل، وكثرت الإنجازات فأصبح الناس غير ما كانوا عليه، فقد تمثلوا بأصحاب العيون الضيّقة، ففي وقت وجيز ، غُرست الأشجار، وانتزعت الأحجار، وأصلحت الأعطالُ، وضُيِّقَ بالقاذورات، ونظِّفت المجارير، وعُني بدار العجزة والمجانين، وانْتُزع الكره من الأشرار الملاعين، واعْتُني لأول مرّة بالمساكين، ومُسِح على رؤوس الأيتام، وتذكّر السادة لوهلة كيف سيكون حسن الختام.

فيا للعجب من أمن قد اُستُتِبَّ، ومن خوفٍ قد سُلِب، وما زاد في عجبي أنه في اليوم الموالي، نُوديَ بأصحاب الحاجات، فجُعلوا صفوفا وجماعات، ووُكّْل لكل منهم مسئولون وقيادات، فأصبحت آذانهم للجموع صاغية، بعد أن كانت صمّاء ،و ألسنتهم مغرّدة بعد أن كانت بكماء.

وبعد ليلتين من الأعمال الشّاقة، أصبحت المدينة غير المدينة، فرحانة غير حزينة، فبعد أن كانت روائحها نتنة، وشوارعها عفنة، وسكانها موتى، استبدلت بأخرى، فالطرق أصبحت معبدة، والشوارع مزينة، والسكان صاروا أحياءًا، يتنفسون الهواء، ويأكلون المشويات، ويشربون من ماء الحنفيات، بل أكثر من هذا صاروا يتكلمون دونما حساسيات، فسبحان مغير الأحوال.

وبعد طول انتظار، أتى اليوم المستتر، وأطل الرجل المنتظر، فرأينا عليه هالة، تشير إليه بلا دلالة، بأنه الرجل لا محالة، فنادى أحد السكان هذا أمير المواطنين، عاش حبيب المظلومين، أنيس المحرومين، قاهر الظالمين، دمت لنا يا أمير، فالتفت إليه الأمير وحيّاه من غير تأخير، ثم بدأ يتلفت يمينا وشمالا فرأى في المدينة ما يبهج النظر، ويسعد القلب، ويشرح الفؤاد، فصاح من غير تركيز : هذا ما أريد أن أراه، مدينة نظيفة جميلة، ثم أرجع بصره علّه يجد بعض التشققات في العمارات، أو قليلا من الحفر و النفايات، أو شيئا يسيرا من القاذورات، لكن هيهات هيهات، فالعقول المدبرة كانت بالمرصاد، لم تترك للخطإ أيّ اجتهاد.

وبعد أن أنهى الأمير زيارته، واقترب للأمر نهايته، جمعَ الأعيان والقادة، والمسؤولين والسادة، فأجزل لهم العطاء، وكافئهم على حسن الأداء، وشكرهم على حسن التسيير والعمل والتدبير، والتفاني في درء شرور الإهمال والتسيب، ثم ودّعهم في زهوٍ وسرور، ورقّة وغرور.

وبعد أن كان اليوم الرابع، سمع جمهور المواطنين مناديا يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا، لا يغرنكم ما كان منّا بالأمس من حسن المعاملة وكثرة المجاملة، فما كان قد كان وما هو آت سيأتي، فارجعوا - هداكم الله - إلى رشدكم فالشقاء نصيبكم والبؤس حليفكم، واعلموا أن أعناقكم في أيدينا، ومصائركم في مكاتبنا فأين الهروب، فالطاعة الطاعة نأمر وقد أعذر من أنذر.

توقيع :
الأعيان والقادة والمسؤولون والسادة